قوله تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن } ، يعني : الكافرين جعلوا لله شركاء الجن .
قوله تعالى : { وخلقهم } ، يعني : وهو خلق الجن ، قال الكلبي : نزلت في الزنادقة ، أثبتوا الشركة لإبليس في الخلق ، فقالوا : الله خالق النور ، والناس ، والدواب ، والأنعام ، وإبليس خالق الظلمة ، والسباع ، والحيات ، والعقارب . وهذا كقوله : { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } [ الصافات : 158 ] وإبليس من الجن .
قوله تعالى : { وخرقوا } ، قرأ أهل المدينة { وخرقوا } ، بتشديد الراء على التكثير ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ، أي : اختلقوا .
قوله تعالى : { له بنين وبنات بغير علم } ، وذلك مثل قول اليهود ( عزير ابن الله ) ، وقول النصارى ( المسيح ابن الله ) ، وقول كفار مكة ( الملائكة بنات الله ) ، ثم نزه نفسه فقال : { سبحانه وتعالى عما يصفون } .
وبعد أن ذكر - سبحانه - تلك الدلائل الدالة على عظيم قدرته ، وباهر حكمته ووافر نعمته . واستحقاقه الألوهية ، أتبعها بتوبيخ المشركين والرد عليهم بما يرشدهم إلى الطريق القويم لو كانوا يعقلون فقال - تعالى - : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ . . . } .
قوله { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن } أى : وجعل هؤلاء المشركون لله - سبحانه - شركاء فى الألوهية والربوبية من الجن .
أحدها : أنهم الملائكة حيث عبدوهم وقالوا إنهم بنات الله وتسميتهم جنا مجازاً لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين كالجن .
والثانى : أن المراد بالجن هنا الشياطين . ومعنى جعلهم شركاء أنهم أطاعوهم فى أمور الشرك والمعاصى كما يطاع الله - تعالى - .
والثالث : أن المراد بالجن إبليس فقد عبده قوم وسموه ربا ومنهم من سماه إله الشر والظلمة وخص البارى بألوهية الخير والنور . وقد نقل هذا الرأى عن ابن عباس ، وقد قال الرازى عن هذا الرأى أنه أحسن الوجوه المذكورة فى هذه الآية .
أما ابن كثير فقد رجح الرأى الثانى وقال : فإن قيل كيف عبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام ؟
فالجواب : أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن وأمرهم لهم بذلك كقوله : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } وكقوله { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابني ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } وتقول الملائكة يوم القيامة : { سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } وقال - سبحانه - { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن } ولم يقل : وجعلوا الجن شركاء لله . لإفادة أن محل الغرابة والنكارة أن يكون لله شركاء . ولو قال وجعلوا الجن شركاء لله لأوهم أن موضع الإنكار أن يكون الجن شركاء لله لكونهم جنا . وليس الأمر كذلك ، بل المنكر أن يكون لله شريك من أى جنس كان .
وجملة : { وَخَلَقَهُمْ } حال من فاعل { وَجَعَلُواْ } مؤكدة لما فى جعلهم ذلك من كمال القباحة والبطلان .
أى : وجعلوا لله شركاء الجن والحال أنهم قد علموا أن الله وحده هو الذى خلقهم دون الجن وليس من يخلق كم لا يخلق ، وعليه فالضمير فى خلقهم يعود على المشركين الذين جعلوا لله شركاء .
وقيل الضمير للشركاء أى : والحال أنهم قد علموا أن الله هو الذى خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له ؟
وقوله { وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أى : واختلقوا وافتروا له بجهلهم وانطماس بصيرتهم بنين وبنات من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب ، ولكن رمياً بقول عن عمى وجهالة من غير فكر وروية . أو بغير علم بمرتبة ما قالوا وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادر قدره ، وفيه ذم لهم بأنهم يقولون ما يقولون بمجرد الرأى والهوى وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز أن ينسب إليه - تعالى - إلا ما قام الدليل على صحته .
قال الراغب : " أصل الخرق قطع الشىء على سبيل الفساد من غير تدبر ولا تفكر ، قال - تعالى -
{ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } وهو ضد الخلق لأن الخلق هو فعل الشىء بتقدير ورفق " .
ثم ختمت الآية الكريمة بتنزيه الله - تعالى - عما نسبوه فقال - تعالى - : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ } أى : تقدس وتنزه وتعاظم عما يصفه به هؤلاء الضالون من الأجداد والأولاد والنظراء والشركاء .
{ وَجَعَلُواْ للّهِ شُرَكَآءَ الْجِنّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يَصِفُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وجعل هؤلاء العادلون بربهم الاَلهة والأنداد لله شُرَكَاءَ الجِنّ كما قال جلّ ثناؤه : وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وبينَ الجِنّةِ نَسَباً . وفي الجنّ وجهان من النصب : أحدهما أن يكون تفسيراً للشركاء ، والاَخرة : أن يكون معنى الكلام : «وجعلوا لله الجنّ شركاء وهو خالقهم » .
واختلفوا في قراءة قوله : وَخَلَقَهُمْ فقرأته قرّاء الأمصار : وَخَلَقَهُمْ على معنى أن الله خلقهم منفردّا بخلقه إياهم . وذكر عن يحيى بن يعمر ما :
حدثني به أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن واصل مولى أبي عيينة ، عن يحيى بن عقيل ، عن يحيى بن يعمر ، أنه قال : «شُرَكَاءَ الجِنّ وخَلْقَهُمْ »
بجزم اللام بمعنى أنهم قالوا : إن الجنّ شركاء لله في خلقه إيانا .
وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ ذلك وَخَلَقَهُمْ لإجماع الحجة من القرّاء عليها .
وأما قوله : وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بغيرِ عِلْم فإنه يعني بقوله : خَرَقُوا اختلقوا ، يقال : اختلق فلان على فلان كذباً واخترقه : إذا افتعله وافتراه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاءَ الجِنّ والله خلقهم وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ يعني أنهم تخرّصوا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بغيرِ عِلْمٍ قال : جعلو له بنين وبنات بغير علم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بغيرِ عِلْم قال : كذبوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاءَ الجِنّ كذَبوا ، سبحانه وتعالى عما يصفون عما يكذّبون أما العرب فجعلوا له البنات ولهم ما يشتهون من الغلمان ، وأما اليهود فجعلوا بينه وبين الجنة نسباً ، ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بغيرِ عِلْمٍ قال : خرصوا له بنين وبنات .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بغيرِ عِلْمٍ يقول : قطعوا له بنين وبنات ، قالت العرب : الملائكة بناة الله ، وقالت اليهود والنصارى : المسيح وعزيز ابنا الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بغيرِ عِلْمٍ قال : خرقوا : كذبوا لم يكن لله بنون ولا بنات ، قالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقال المشركون : الملائكة بنات الله ، فكلّ خرقوا الكذب . وخرقوا : اخترقوا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاءَ الجِنّ قال : قول الزنادقة . وَخَرَقُوا لَهُ قال ابن جريج : قال مجاهد : خرقوا : كذبوا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ قال : وصفوا له .
حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث ، عن أبي عمر : وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ قال : تفسيرها : وكذبوا .
فتأويل الكلام إذن : وجعلو لله الجنّ وشركاء في عبادتهم إياه ، وهو المنفر ، بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير . وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ يقول : وتخرّصوا لله كذباً ، فافتعلوا له بنين وبنات بغير علم منهم بحقيقة ما يقولون ، ولكن جهلاً بالله وبعظمته وأنه لا ينبعي لمن كان إلهاً أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة ، ولا أن يشركه في خلقه شريك .
القول في تأويل قوله تعالى : سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يَصِفُونَ .
يقول تعالى ذكره : تنزّه الله وعلا فارتفع عن الذي يصفه به هؤلاء الجهلة من خلقه في ادّعائهم له شركاء من الجنّ واختراقهم له بنين وبنات وذلك لا ينبغي أن يكون من صفته لأن ذلك من صفة خلقه الذين يكون منهم الجماع الذي يحدث عنه الأولاد ، والذين تضطرّهم لضعفهم الشهوات إلى اتخاذ الصاحبة لقضاء اللذّات ، وليس الله تعالى ذكره بالعاجز فيضطره شيءٌ إلى شيءٍ ، ولا بالضعيف المحتاج فتدعوه حاجته إلى النساء إلى اتخاذ صاحبة لقضاء لذّة . وقوله : تَعَالَى تفاعل من العلوّ والارتفاع . ورُوِي عن قتادة في تأويل قوله : عَمّا يَصِفُونَ أنهم يكذّبون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يَصِفُونَ عما يكذبون .
وأحسب أن قتادة عنى بتأويله ذلك كذلك ، أنهم يكذبون في وصفهم الله بما كانوا يصفونه من ادّعائهم له بنين وبنات ، لا أنه وجه تأويل الوصف إلى الكذب .
{ جعلوا } بمعنى صيروا ، و { الجن } مفعول و { شركاء } مفعول ثان مقدم ، ويصح أن يكون قوله { شركاء } مفعولاً أولاً و { لله } في موضع المفعول الثاني و { الجن } بدل من قوله { شركاء } وهذه الآية مشيرة إلى العادلين بالله والقائلين إن الجن تعلم الغيب ، العابدين للجن ، وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك وتستجير بجن الأودية في أسفارها ونحو هذا ، أما الذين «خرقوا البنين » فاليهود في ذكر عزير والنصارى في ذكر المسيح ، وأما ذاكروا البنات فالعرب الذين قالوا : للملائكة بنات الله ، فكأن الضمير في { جعلوا } و { خرقوا } لجميع الكفار إذ فعل بعضهم هذا ، وبنحو هذا فسر السدي وابن زيد ، وقرأ شعيب بن أبي حمزة «شركاء الجنِّ » بخفض النون ، وقرأ يزيد بن قطيب وأبو حيوة «الجِّن والجُّن » بالخفض والرفع على تقديرهم الجن ، وقرأ الجمهور «وخلَقهم » بفتح اللام على معنى وهو خلقهم ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وهو خلقهم » يحتمل العودة على الجاعلين ويحتملها على المجعولين ، وقرأ يحيى بن يعمر «وخلْقهم » بسكون اللام عطفاً على الجن أي جعلوا خلقهم الذي ينحتونه أصناماً شركاء بالله ، وقرأ السبعة سوى نافع «وخرَقوا » بتخفيف للراء وهو بمعنى اختلفوا وافتروا{[5035]} وقرأ نافع «وخرّقوا » بتشديد الراء على المبالغة ، وقرأ ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما «وحرّفوا » مشددة الراء ، وقوله { بغير علم } نص على قبح تقحمهم المجهلة وافترائهم الباطل على عمى ، { سبحانه } أي تنزه عن وصفهم الفاسد المستحيل عليه تبارك وتعالى .