محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ ٱلۡجِنَّ وَخَلَقَهُمۡۖ وَخَرَقُواْ لَهُۥ بَنِينَ وَبَنَٰتِۭ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ} (100)

ولما ذكر تعالى هذه البراهين ، من دلائل العالم العلوي والسفلي ، على عظيم قدرته ، وباهر حكمته ، ووافر نعمته ، واستحقاقه للألوهية وحده- عقبها بتوبيخ من أشرك به والرد بقوله سبحانه :

/ [ 100 ] { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون ( 100 ) } .

{ وجعلوا لله شركاء الجن } أي : جعلوهم شركاء له في العبادة . فإن قيل : فكيف عبدت الجن مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام ؟ فالجواب : أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن ، وأمرهم بذلك . كقوله : { إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ، لعنه الله . وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ، ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ، ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا }{[3607]} . وكقوله تعالى : { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني . . . } {[3608]} الآية . وقال إبراهيم لأبيه : { يا أبت لا تعبد الشيطان ، إن الشيطان كان للرحمن عصيا }{[3609]} . وكقول : { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ، إنه لكم عدو مبين ، وأن اعبدوني ، هذا صراط مستقيم }{[3610]} وتقول الملائكة يوم القيامة : { سبحانك أنت ولينا من دونهم ، بل كانوا يعبدون الجن ، أكثرهم بهم مؤمنون }{[3611]} .

/ { وخلقهم } حال من فاعل { جعلوا } ، مؤكدة لما في جعلهم ، ذلك من كمال القباحة والبطلان ، باعتبار علمهم بمضمونها . أي : وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن ، ( وليس من يخلق كمن لا يخلق ) ! وقيل : الضمير للشركاء . أي : والحال أنه تعالى خلق الجن ، فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له ؟ كقول إبراهيم : { أتعبدون ما تنحتون ، والله خلقكم وما تعملون }{[3612]} . أي : وإذا كان هو المستقل بالخالقية ، وجب أن يفرد بالعبادة ، وحده لا شريك له .

تنبيه :

ما ذكرناه من معنى قوله تعالى ؛ { وجعلوا لله شركاء الجن } أنهم أطاعوا الجن في عبادة الأوثان ، هو ما قرره ابن كثير ، وأيده بالنظائر المتقدمة ، ونقل عن الحسن ، فتكون الكناية لمشركي العرب .

وقيل : المراد بالجن الملائكة ، فإنهم عبدوهم وقالوا إنهم بنات الله . وكلا الأمرين موجب للشريك . أما الأول فظاهر . وأما الثاني فأن الولد كفء الوالد ، فيشاركه في صفات الألوهية . وتسمية الملائكة ( جنا ) حقيقة ، لشمول لفظ الجن لهم . وقيل : استعارة . أي : عبدوا ما هو كالجن ، في كونه مخلوقا مستترا عن الأعين .

وذهب بعض السلف- منهم الكلبي- إلى أنها نزلت في الثنوية القائلين بأن للعالم إلهين : أحدهما خلق الخير وكل نافع . وثانيهما خلق الشر وكل ضار . ونقله ابن الجوزي عن ابن السائب . وحكاه الفخر عن ابن عباس رضي الله عنه ، وأنه قال : " نزلت في الزنادقة الذين قالوا : إن الله وإبليس أخوان . فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والخيرات ؛ وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور "

قال الرازي : وقول ابن عباس المذكور بقوله تعالى : { وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا }{[3613]} . وإنما وصف بكونه من الجن ، لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار ، والملائكة والروحانيون مستترة من العيون ، فلذلك أطلق لفظ الجن عليها .

قال الفخر : هذا مذهب المجوس . وإنما قال ابن عباس : هذا قول الزنادقة ، لأن المجوس يلقبون بالزنادقة ، لأن الكتاب الذي زعم رزادش أنه نزل عليه من عند الله مسمى ب ( الزند ) ، والمنسوب إليه يسمى ( زندي ) ، ثم عرب فقيل : ( زنديق ) ، ثم جمع فقيل : ( زنادقة ) . واعلم أن المجوس قالوا ؛ كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من ( يزدان ) ، وجميع ما فيه من الشرور فهو من ( اهرمن ) ( وهو المسمى بإبليس في شرعنا ) ثم اختلفوا ، فالأكثرون منهم على أن ( أهرمن ) محدث ، ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة . والأقلون منهم قالوا : إنه قديم أزلي . وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه شريك الله في تدبير هذا العالم ، فخيرات هذا العالم من الله تعالى ، وشروره من إبليس . فهذا شرح ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما . وإنما جمع حينئذ في الآية ، لكونه مع أتباعه كأنهم معبودون .

ثم قال الرازي : وقوله تعالى : { وخلقهم } إشارة إلى الدليل القاطع على فساد كون إبليس شريكا ، وتقريره أنا نقلنا عن المجوس أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس ليس بقديم ، بل هو محدث . إذا ثبت هذا فنقول : إن كل محدث فله خالق وموجد ، وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى . فهؤلاء المجوس يلزمهم القطع بأن خالق إبليس هو الله تعالى . ولما كان إبليس أصلا لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح ، والمجوس سلموا أن خالقه هو الله تعالى ، فحينئذ قد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والقبائح والمفاسد . وإذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولوا : لابد من إلهين ، فسقط قولهم . انتهى ملخصا .

/ وقوله تعالى : { وخرقوا له } أي : اختلقوا وافتروا له { بنين } كقول أهل الكتابين في المسيح وعزير { وبنات } كقول بعض العرب في الملائكة .

قال الزمخشري : يقال خلق الإفك وخرقه واختلقه بمعنى . وسئل الحسن عنه فقال : كلمة عربية كانت العرب تقولها . كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم : قد خرقها والله  ! ويجوز أن يكون من ( خرق الثوب ) إذا شقه : أي اشتقوا له بنين وبنات . وقرئ { وخرقوا } بالتشديد للتكثير لقوله { بنين وبنات } .

{ بغير علم } أي : من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب ، ولكن رميا بقول عن عمى وجهالة ، من غير فكر وروية ، أو بغير علم بمرتبة ما قالوا ، وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادر قدره . وفيه ذم لهم بأنهم يقولون بمجرد الرأي والهوى . وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز أن ينسب إليه تعالى إلا ما جزم به ، وقام عليه الدليل .

ثم نزه ذاته العلية عما نسبوه إليه بقوله : { سبحانه وتعالى عما يصفون } من أوصاف الحوادث الخسيسة من المشاركة والتوليد .


[3607]:- [4/ النساء/ 116-119].
[3608]:- [18/ الكهف/ 50] ونصها: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا (50)}.
[3609]:- [19/ مريم/ 44].
[3610]:- [36/ يس/62 و61].
[3611]:- [34/ سبأ/ 41] {قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون (41)}.
[3612]:- [37/ الصافات/ 95 و96] {قال أتعبدون ما تنحتون (95) والله....}.
[3613]:- [37/ الصافات/ 108] {... ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون (108)}.