قوله تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون }
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر هذه البراهين الخمسة من دلائل العالم الأسفل والعالم الأعلى على ثبوت الإلهية ، وكمال القدرة والرحمة . ذكر بعد ذلك أن من الناس من أثبت لله شركاء ، واعلم أن هذه المسألة قد تقدم ذكرها إلا أن المذكور ههنا غير ما تقدم ذكره وذلك لأن الذين أثبتوا الشريك لله فرق وطوائف .
فالطائفة الأولى : عبدة الأصنام فهم يقولون الأصنام شركاء لله في العبودية ، ولكنهم معترفون بأن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخلق والإيجاد والتكوين .
والطائفة الثانية : من المشركين الذين يقولون ، مدبر هذا العالم هو الكواكب ، وهؤلاء فريقان منهم من يقول : إنها واجبة الوجود لذاتها ، ومنهم من يقول : إنها ممكنة الوجود لذواتها محدثة ، وخالقها هو الله تعالى ، إلا أنه سبحانه فوض تدبير هذا العالم الأسفل إليها وهؤلاء هم الذين حكى الله عنهم أن الخليل صلى الله عليه وسلم ناظرهم بقوله : { لا أحب الآفلين } وشرح هذا الدليل قد مضى .
والطائفة الثالثة : من المشركين الذين قالوا الجملة هذا العالم بما فيه من السماوات والأرضين إلهان :
أحدهما فاعل الخير . والثاني فاعل الشر ، والمقصود من هذه الآية حكاية مذهب هؤلاء فهذا تقرير نظم الآية والتنبيه على ما فيها من الفوائد . فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قوله تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن } نزلت في الزنادقة الذين قالوا إن الله وإبليس أخوان فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والخيرات ، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور .
واعلم أن هذا القول الذي ذكره ابن عباس أحسن الوجوه المذكورة في هذه الآية وذلك لأن بهذا الوجه يحصل لهذه الآية مزيد فائدة مغايرة لما سبق ذكره في الآيات المتقدمة ، قال ابن عباس : والذي يقوي هذا الوجه قوله تعالى : { وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا } وإنما وصف بكونه من الجن لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار ، والملائكة والروحانيون لا يرون بالعيون فصارت كأنها مستترة من العيون ، فبهذا التأويل أطلق لفظ الجن عليها ، وأقول : هذا مذهب المجوس ، وإنما قال ابن عباس هذا قول الزنادقة ، لأن المجوس يلقبون بالزنادقة ، لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله مسمى بالزند والمنسوب إليه يسمى زندي . ثم عرب فقيل زنديق . ثم جمع فقيل زنادقة .
واعلم أن المجوس قالوا : كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان وجميع ما فيه من الشرور فهو من أهرمن ، وهو المسمى بإبليس في شرعنا ، ثم اختلفوا فالأكثرون منهم على أن أهرمن محدث ، ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة ، والأقلون منهم قالوا : إنه قديم أزلي ، وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه شريك لله في تدبير هذا العالم فخيرات هذا العالم من الله تعالى وشروره من إبليس فهذا شرح ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما .
فإن قيل : فعلى هذا التقدير : القوم أثبتوا لله شريكا واحدا وهو إبليس ، فكيف حكى الله عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء ؟
والجواب : أنهم يقولون عسكر الله هم الملائكة ، وعسكر إبليس هم الشياطين والملائكة فيهم كثرة عظيمة ، وهم أرواح طاهرة مقدسة وهم يلهمون تلك الأرواح البشرية بالخيرات والطاعات . والشياطين أيضا فيهم كثرة عظيمة وهي تلقي الوساوس الخبيثة إلى الأرواح البشرية ، والله مع عسكره من الملائكة يحاربون إبليس مع عسكره من الشياطين . فلهذا السبب حكى الله تعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء من الجن فهذا تفصيل هذا القول .
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : { وخلقهم } إشارة إلى الدليل القاطع الدال على فساد كون إبليس شريكا لله تعالى في ملكه ، وتقريره من وجهين : الأول : أنا نقلنا عن المجوس أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس ليس بقديم بل هو محدث .
إذا ثبت هذا فنقول : إن كل محدث فله خالق وموجد ، وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى فهؤلاء المجوس يلزمهم القطع بأن خالق إبليس هو الله تعالى ، ولما كان إبليس أصلا لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح ، والمجوس سلموا أن خالقه هو الله تعالى ، فحينئذ قد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والقبائح والمفاسد ، وإذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولوا لا بد من إلهين يكون أحدهما فاعلا للخيرات ، والثاني يكون فاعلا للشرور لأن بهذا الطريق ثبت أن إله الخير هو بعينه الخالق لهذا الذي هو الشر الأعظم فقوله تعالى : { وخلقهم } إشارة إلى أنه تعالى هو الخالق لهؤلاء الشياطين على مذهب المجوس ، وإذا كان خالقا لهم فقد اعترفوا بكون إله الخير فاعلا لأعظم الشرور ، وإذا اعترفوا بذلك سقط قولهم : لا بد للخيرات من إله ، وللشرور من إله آخر .
والوجه الثاني : في استنباط الحجة من قوله : { وخلقهم } ما بينا في هذا الكتاب وفي كتاب «الأربعين في أصول الدين » أن ما سوى الواحد ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو محدث ، ينتج أن ما سوى الواحد الأحد الحق فهو محدث ، فيلزم القطع بأن إبليس وجميع جنوده يكونون موصوفين بالحدوث . وحصول الوجود بعدم العدم ، وحينئذ يعود الإلزام المذكور على ما قررناه ، فهذا تقرير المقصود الأصلي من هذه الآية وبالله التوفيق .
المسألة الثانية : قوله تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن } معناه : وجعلوا الجن شركاء لله .
فإن قيل : فما الفائدة في التقديم ؟
قلنا : قال سيبويه : إنهم يقدمون الأهم الذي هم بشأنه أعنى ، فالفائدة في هذا التقديم استعظام أن يتخذ لله شريك سواء كان ملكا أو جنيا أو إنسيا أو غير ذلك . فهذا هو السبب في تقديم اسم الله على الشركاء .
إذا عرفت هذا فنقول : قرئ { الجن } بالنصب والرفع والجر ، أما وجه النصب فالمشهور أنه بدل من قوله : { شركاء } قال بعض المحققين : هذا ضعيف لأن البدل ما يقوم مقام المبدل ، فلو قيل : وجعلوا لله الجن لم يكن كلاما مفهوما بل الأولى جعله عطف بيان . أما وجه القراءة بالرفع فهو أنه لما قيل : { وجعلوا لله شركاء } فهذا الكلام لو وقع الاقتصار عليه لصح أن يراد به الجن والأنس والحجر والوثن فكأنه قيل ومن أولئك الشركاء ؟ فقيل : الجن . وأما وجه القراءة بالجر فعلى الإضافة التي هي للتبيين .
المسألة الثالثة : اختلفوا في تفسير هذه الشركة على ثلاثة أوجه : فالأول : ما ذكرناه من أن المراد منه حكاية قول من يثبت للعالم إلهين أحدهما فاعل الخير والثاني فاعل الشر .
والقول الثاني : أن الكفار كانوا يقولون الملائكة بنات الله وهؤلاء يقولون المراد من الجن الملائكة ، وإنما حسن إطلاق هذا الاسم عليهم ، لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار ، والملائكة مستترون عن الأعين ، وكان يجب على هذا القائل أن يبين أنه كيف يلزم من قولهم الملائكة بنات الله ؟ قولهم بجعل الملائكة شركاء لله حتى يتم انطباق لفظ الآية على هذا المعنى ، ولعله يقال : إن هؤلاء كانوا يقولون الملائكة مع أنها بنات الله فهي مدبرة لأحوال هذا العالم وحينئذ يحصل الشرك .
والقول الثالث : وهو قول الحسن وطائفة من المفسرين أن المراد : أن الجن دعوا الكفار إلى عبادة الأصنام ، وإلى القول بالشرك ، فقبلوا من الجن هذا القول وأطاعوهم ، فصاروا من هذا الوجه قائلين : يكون الجن شركاء لله تعالى . وأقول : الحق هو القول الأول . والقولان الأخيران ضعيفان جدا . أما تفسير هذا الشرك بقول العرب الملائكة بنات الله ، فهذا باطل من وجوه :
الوجه الأول : أن هذا المذهب قد حكاه الله تعالى بقوله : { وخرقوا له بنين وبنات بغير علم } فالقول بإثبات البنات لله ليس إلا قول من يقول الملائكة بنات الله ، فلو فسرنا قوله : { وجعلوا لله شركاء الجن } بهذا المعنى يلزم منه التكرار في الموضع الواحد من غير فائدة ، وأنه لا يجوز .
الوجه الثاني : في إبطال هذا التفسير أن العرب قالوا : الملائكة بنات الله ، وإثبات الولد لله غير ، وإثبات الشريك له غير ، والدليل على الفرق بين الأمرين أنه تعالى ميز بينهما في قوله : { لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد } ولو كان أحدهما عين الآخر لكان هذا التفصيل في هذه السورة عبثا .
الوجه الثالث : أن القائلين بيزدان وأهرمن يصرحون بإثبات شريك لإله العالم في تدبير هذا العالم ، فصرف اللفظ عنه وحمله على إثبات البنات صرف للفظ عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة وأنه لا يجوز .
وأما القول الثاني : وهو قول من يقول المراد من هذه الشركة : أن الكفار قبلوا قول الجن في عبادة الأصنام ، فهذا في غاية البعد لأن الداعي إلى القول بالشرك لا يجوز تسميته بكونه شريكا لله لا بحسب حقيقة اللفظ ولا بحسب مجازه ، وأيضا فلو حملنا هذه الآية على هذا المعنى لزم وقوع التكرير من غير فائدة ، لأن الرد على عبدة الأصنام وعلى عبدة الكواكب قد سبق على سبيل الاستقصاء ، فثبت سقوط هذين القولين ، وظهر أن الحق هو القول الذي نصرناه وقويناه .
وأما قوله تعالى : { وخلقهم } ففيه بحثان :
البحث الأول : اختلفوا في أن الضمير في قوله : { خلقهم } إلى ماذا يعود ؟ على قولين :
فالقول الأول : إنه عاد إلى { الجن } والمعنى أنهم قالوا الجن شركاء الله ، ثم إن هؤلاء القوم اعترفوا بأن إهرمن محدث ، ثم إن في المجوس من يقول إنه تعالى تفكر في مملكة نفسه واستعظمها فحصل نوع من العجب ، فتولد الشيطان عن ذلك العجب ، ومنهم من يقول شك في قدرة نفسه فتولد من شكه الشيطان ، فهؤلاء معترفون بأن إهرمن محدث ، وأن محدثه هو الله تعالى فقوله تعالى : { وخلقهم } إشارة إلى هذا المعنى ، ومتى ثبت أن هذا الشيطان مخلوق لله تعالى امتنع جعله شريكا لله في تدبير العالم ، لأن الخالق أقوى وأكمل من المخلوق ، وجعل الضعيف الناقص شريكا للقوي الكامل محال في العقول .
والقول الثاني : أن الضمير عائد إلى الجاعلين ، وهم الذين أثبتوا الشركة بين الله تعالى وبين الجن ، وهذا القول عندي ضعيف لوجهين : أحدهما : أنا إذا حملناه على ما ذكرناه صار ذلك اللفظ الواحد دليلا قاطعا تاما كاملا في إبطال ذلك المذهب ، وإذا حملناه على هذا الوجه لم يظهر منه فائدة وثانيهما : أن عود الضمير إلى أقرب المذكورات واجب ، وأقرب المذكورات في هذه الآية هو الجن ، فوجب أن يكون الضمير عائدا إليه .
البحث الثاني : قال صاحب «الكشاف » : قرئ { وخلقهم } أي اختلاقهم للإفك . يعني : وجعلوا الله خلقهم حيث نسبوا ذبائحهم إلى الله في قولهم : { والله أمرنا بها } .
ثم قال : { وخرقوا له بنين وبنات بغير علم } وفيه مباحث :
البحث الأول : أقول إنه تعالى حكى عن قوم أنهم أثبتوا إبليس شريكا لله تعالى . ثم بعد ذلك حكى عن أقوام آخرين أنهم أثبتوا لله بنين وبنات . أما الذين أثبتوا البنين فهم النصارى وقوم من اليهود وأما الذين أثبتوا البنات فهم العرب الذين يقولون الملائكة بنات الله وقوله : { بغير علم } كالتنبيه على ما هو الدليل القاطع في فساد هذا القول وفيه وجوه .
الحجة الأولى : أن الإله يجب أن يكون واجب الوجود لذاته ، فولده إما أن يكون واجب الوجود لذاته أو لا يكون ، فإن كان واجب الوجود لذاته كان مستقلا بنفسه قائما بذاته لا تعلق له في وجوده بالآخر ، ومن كان كذلك لم يكن والد له البتة لأن الولد مشعر بالفرعية والحاجة وأما إن كان ذلك الولد ممكن الوجود لذاته فحينئذ يكون وجوده بإيجاد واجب الوجود لذاته ، ومن كان كذلك فيكون عبدا له لا ولدا له ، فثبت أن من عرف أن الإله ما هو ، امتنع منه أن يثبت له البنات والبنين .
الحجة الثانية : أن الولد يحتاج إليه أن يقوم مقامه بعد فنائه ، وهذا إنما يعقل في حق من يفنى ، أما من تقدس عن ذلك لم يعقل الولد في حقه .
الحجة الثالثة : أن الولد مشعر بكونه متولدا عن جزء من أجزاء الوالد ، وذلك إنما يعقل في حق من يكون مركبا ويمكن انفصال بعض أجزائه عنه ، وذلك في حق الواحد الفرد الواجب لذاته محال ، فحاصل الكلام أن من علم أن الإله ما حقيقته استحال أن يقول له ولد فكان قوله : { وخرقوا له بنين وبنات بغير علم } إشارة إلى هذه الدقيقة .
البحث الثاني : قرأ نافع { وخرقوا } مشددة الراء . والباقون { خرقوا } خفيفة الراء . قال الواحدي : الاختيار التخفيف ، لأنها أكثر والتشديد للمبالغة والتكثير .
البحث الثالث : قال الفراء : معنى { خرقوا } افتعلوا وافتروا . قال : وخرقوا واخترقوا وخلقوا واختلقوا ، وافتروا واحد . وقال الليث : يقال : تخرق الكذب وتخلقه ، وحكى صاحب «الكشاف » : أنه سئل الحسن عن هذه الكلمة فقال : كلمة عربية كانت تقولها . كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم قد خرقها ، والله أعلم . ثم قال : ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه . أي شقوا له بنين وبنات .
ثم إنه تعالى ختم الآية فقال : { سبحانه وتعالى عما يصفون } فقوله سبحانه تنزيه لله عن كل ما لا يليق به . وأما قوله : { وتعالى } فلا شك أنه لا يفيد العلو في المكان ، لأن المقصود ههنا تنزيه الله تعالى عن هذه الأقوال الفاسدة ، والعلو في المكان لا يفيد هذا المعنى . فثبت أن المراد ههنا التعالي عن كل اعتقاد باطل . وقول فاسد .
فإن قالوا : فعلى هذا التقدير لا يبقى بين قوله : «سبحانه » وبين قوله : «وتعالى » فرق .
قلنا : بل يبقى بينهما فرق ظاهر ، فإن المراد بقوله سبحانه أن هذا القائل يسبحه وينزهه عما لا يليق به والمراد بقوله : { وتعالى } كونه في ذاته متعاليا متقدسا عن هذه الصفات سواء سبحه مسبح أو لم يسبحه ، فالتسبيح يرجع إلى أقوال المسبحين ، والتعالي يرجع إلى صفته الذاتية التي حصلت له لذاته لا لغيره .