قوله تعالى : { وممن حولكم من الأعراب منافقون } ، وهم من مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار ، كانت منازلهم حول المدينة ، يقول : من هؤلاء الأعراب منافقون ، " ومن أهل المدينة " ، أي : ومن أهل المدينة من الأوس والخزرج قوم منافقون ، { مردوا على النفاق } ، أي : مرنوا على النفاق ، يقال : تمرد فلان على ربه أي : عتا ومرد على معصيته . أي : مرن وثبت عليها واعتادها . ومنه : المريد والمارد . وقال ابن إسحاق : لجوا فيه وأبوا غيره . وقال ابن زيد : أقاموا عليه ولم يتوبوا . { لا تعلمهم } ، أنت يا محمد ، { نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين } ، اختلفوا في هذين العذابين . قال الكلبي و السدي : " قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال : اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان . أخرج ناسا من المسجد وفضحهم ، فهذا هو العذاب الأول . والثاني : عذاب القبر . وقال مجاهد : الأول : القتل و السبي ، والثاني : عذاب القبر . وعنه رواية أخرى : عذبوا بالجوع مرتين . وقال قتادة : الدبيلة في الدنيا وعذاب القبر . وقال ابن زيد : الأولى المصائب في الأموال والأولاد في الدنيا ، والأخرى عذاب الآخرة . وعن ابن عباس : الأولى إقامة الحدود عليهم ، والأخرى عذاب القبر . وقال ابن إسحاق : هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه من غير حسبه ثم عذاب القبر . وقيل : إحداهما ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم ، والأخرى عذاب القبر . وقيل الأولى إحراق مسجدهم ، مسجد الضرار ، والأخرى إحراقهم بنار جهنم . { ثم يردون إلى عذاب عظيم } ، أي : إلى عذاب جهنم يخلدون فيه .
ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن أصناف أخرى من الناس ، منهم قوم . أجادوا النفاق ، ومرنوا عليه ، ولجوا فيه . ومنهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، ومنهم قوم موقوف أمرهم إلى أن يظهر الله حكمه فيهم فقال تعالى : { وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ . . . عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
قال القرطبى : ومعنى { مَرَدُواْ عَلَى النفاق } أقاموا عليه ولم يتوبوا منه ، أو لجوا فيه وأبوا غيره وأصل الكلمة من اللين والملاسة والتجرد ، فكأنهم تجردوا للنفاق ، ومنه رملة مرداء أى لانبت فيها ، وغصن أمرد . أى : لا ورق له . . ويقال : مرد يمرد مروداً ومرادة .
والمعنى : اذكروا أيها المؤمنون أن يسكن من حلو مدينتكم قوم من الأعراب منافقون ، فاحترسوا منهم ، واحترسوا - أيضا - من قوم آخرين يسكنون معكم داخل المدينة ، مردوا على النفاق ، أى : مرنوا عليه ، وأجادوا فنونه ، حتى بلغوا فيه الغاية .
قال الآلوسى ما ملخصه : والمراد بالحول . في قوله { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ } . قبائل : جهينة ، ومزينة وأشجع ، وأسلم . . وكانت منازلهم حول المدينة وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين .
واستشكل ذلك بأن النبى - صلى الله عليه وسلم - مدح بعض هذه القبائل ودعا لبعضها فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أنه قال : " قريش ، والأنصار ، وجهينة ، ومزينة ، وأشجع وأسلم ، وغفار ، موالي الله - تعالى - ورسوله لا والي لهم غيره " .
وأجيب ذلك باعتبار الأغلب منهم .
وقوله : { لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } بيان لتمردهم في النفاق وتمهرهم فيه .
أي : أنت أيها الرسول الكريم لا تعرف هؤلاء المنافقين ، مع كمال فطنتك ، وصدق فراستك لأنك تعامل الناس بظاهرهم ، وهم قد أجادوا النفاق وحذقوه ، واجتهدوا في الظهور بمظهر المؤمنين ، أما نحن فإننا نعلمهم لأننا لا يخفى علينا شئ من ظواهرهم أو بواطنهم .
قال الإِمام ابن كثير : وقوله تعالى { لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } لا ينافى قوله تعالى { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول . . . } لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين ، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا ، وإن كان يراه صباحا ومساء .
وشاهد هذا بالصحة " ما رواه الإِمام أحمد بن جبير بن مطعم قال : قلت : يا رسول الله ، إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة ، فقال : " لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلب " وأصغى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأسه فقال : " إن في أصحابى منافقين " ومعناه أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين بما لا صحة له من الكلام ، ومن مثلهم صدر هذا الكلام الذي سمعه جبير بن مطعم .
ثم قال : وقد تقدم في تفسير قوله - تعالى - { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } أنه - صلى الله عليه وسلم - أعلم حذيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقا . وهذا تخصيص لا يقتضى أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم .
وروى الحافظ بن عساكر " عن أبى الدرداء ، أن رجلا يقال له حرملة أتى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال : الإِيمان ها هنا وأشار بيده إلى لسانه ، والنفاق ها هنا وأشار بيده إلى قلبه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اللهم اجعل له لسانا ذاكرا . وقلبا شاكرا ، وارزقه حبى ، وحب من يحبنى ، وصير أمره إلى خير " .
فقال الرجل يا رسول الله : إنه كان لى أصحاب من المنافقين وكنت راسا فيهم ، أفلا آتيك بهم ؟ فقال : - صلى الله عليه وسلم - : " ومن أتانا استغفرنا له ، ومن اصر فالله أولى به ، ولا تخرقن على أحد سترا " " .
وقال الآلوسى . واستدل بالآية على أنه لا ينبغى الإِقدام على دعوى معرفة الأمور الخفية من أعمال القلب ونحوها ، فقد أخرج عبد الرازق وابن المنذر وغيرهما عن قتادة : أنه قال : ما بال أقوام يتكلفون على الناس يقولون : فلان في الجنة وفلان في النار ، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال : لا أدرى . لعمرى لأنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه نبى . فقد قال نوح عليه السلام " وما علمى بما كانوا يعملون " وقال شعيب عليه السلام " وما أنا عليكم بحفيظ " . وقال الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - { لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } .
وهذه الآيات ونحوها أقوى دليل على الرد على من يزعم الكشف والاطلاع على المغيبات بمجرد صفاء القلب ، وتجرد النفس عن الشواغل .
ثم قال : والجملة الكريمة { لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق ، أى : لا يقف على سرائرهم المذكورة فيهم ، إلا من لا تخفى عليه خافية ، لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطان الكفر وإظهار الإخلاص .
وقوله : { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ } وعيد لهم بسوء المصير في الدنيا والآخرة .
أى : هؤلاء المنافقون الذين مردوا على النفاق ، سنعذبهم في الدنيا مرتين ، مرة عن طريق فضحيتهم وهتك أستارهم وجعلهم يعيشون في قلب وهم دائم ، والأخرى عن طريق ضرب الملائكة لوجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم وما يتبع ذلك من عذابهم في قبورهم إلى أن تقوم الساعة ، فيجدون العذاب الأكبر الذي عبر عنه - سبحانه - بقوله { ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ } . أى : ثم يعودن ويرجعون إلى خالقهم - سبحانه - يوم القيامة فيعذبهم عذابا عظيما بسبب إصرارهم على النفاق ، ورسوخهم في المكر والخداع .
قال أبو السعود : ولعل تكرير عذابهم ، لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق ، أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه . ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير ، كما في قوله تعالى { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } أى : كرة بعد أخرى .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مّنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذّبُهُم مّرّتَيْنِ ثُمّ يُرَدّونَ إِلَىَ عَذَابٍ عَظِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : ومن القوم الذين حول مدينتكم من الأعراب منافقون ، ومن أهل مدينتكم أيضا أمثالهم أقوام منافقون . وقوله : مَرَدُوا على النّفاقِ يقول : مرنوا عليه ودربوا به ، ومنه شيطان مارد ومريد : وهو الخبيث العاتي ، ومنه قيل : تمرّد فلان على ربه : أي عتا ومرد على معصيته واعتادها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمِنْ أهْلِ المَدِينَةِ مَردُوا على النّفاقِ قال : أقاموا عليه لم يتوبوا كما تاب الاَخرون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَمِنْ أهْلِ المَدِينَةِ مَردُوا على النّفاقِ أي لجّوا فيه وأبوا غيره . لا تَعْلَمُهُمْ يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا تعلم يا محمد أنت هؤلاء المنافقين الذين وصفت لك صفتهم ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة ، ولكنا نحن نعلمهم . كما :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله :
وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مِن الأعْرَابِ مُنافِقُون . . . إلى قوله : نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ قال : فما بال أقوام يتكلفون علم الناس فلان في الجنة وفلان في النار ، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال لا أدري لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفته الأنبياء قبلك ، قال نبيّ الله نوح عليه السلام : وما عِلْمِي بِمَا كانُوا يَعْمَلُون ، وقال نبي الله شعيب عليه السلام : بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤمِنِينَ وما أنا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ، وقال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام : لا تَعْلَمُهُمْ نحْنُ نَعْلَمُهُمْ .
وقوله : سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ يقول : سنعذّب هؤلاء المنافقين مرّتين : إحداهما في الدنيا ، والأخرى في القبر .
ثم اختلف أهل التأويل في التي في الدنيا ما هي فقال بعضهم : هي فضيحتهم فضحهم الله بكشف أمورهم وتبيين سرائرهم للناس على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين بن عمرو العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس ، في قول الله : وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُون مِنْ أهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا على النّفاقِ . . . إلى قوله : عَذَابٍ عَظِيمٍ قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة ، فقال «اخْرُجْ يا فُلانُ فإنّكَ مُنافِقٌ اخْرُج يا فُلانُ فإنّك مُنافِقٌ » فأخرج من المسجد ناسا منهم فضحهم . فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد ، فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة ، وظنّ أن الناس قد انصرفوا واختبئوا هم من عمر ، ظنوا أنه قد علم بأمرهم . فجاء عمر فدخل المسجد ، فإذا الناس لم يصلوا ، فقال له رجل من المسلمين : أبشر يا عمر ، فقد فضح الله المنافقين اليوم فهذا العذاب الأوّل حين أخرجهم من المسجد ، والعذاب الثاني : عذاب القبر .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك : سَنُعَذّبُهم مَرّتَيْنِ قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فيذكر المنافقين فيعذّبهم بلسانه ، قال : وعذاب القبر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال : القتل والسباء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ بالجوع ، وعذاب القبر . قال : ثُمّ يُرَدّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ يوم القيامة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا جعفر بن عون والقاسم ويحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال : بالجوع والقتل ، وقال يحيى : بالخوف والقتل .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : بالجوع والقتل .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك : سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال : بالجوع ، وعذاب القبر .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال : بالجوع والقتل .
وقال آخرون : معنى ذلك : سنعذّبهم عذابا في الدنيا وعذابا في الاَخرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ عذاب الدنيا وعذاب القبر . ثُمّ يُرَدّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أسرّ إلى حذيفة باثني عشر رجلاً من المنافقين ، فقال : «سِتّة مِنْهم تَكْفِيكَهُمُ الدّبيلة ، سِرَاجٌ مِنْ نَارِ جَهَنّم يأْخُذُ في كَتِفِ أحَدِهِمْ حتى يُفْضي إلى صَدْرِهِ ، وسِتّة يموتون مَوْتا » ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رحمه الله كان إذا مات رجل يرى أنه منهم ونظر إلىَ حذيفة ، فإن صلى عليه صلى عليه وإلا تركه . وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة : أنشدك الله أمنهم أنا ؟ قال : لا والله ، ولا أؤمن منها أحدا بعدك
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال : عذاب الدنيا وعذاب القبر .
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن العلاء ، قالا : حدثنا بدل بن المحبر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة : سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال : عذابا في الدنيا وعذابا في القبر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : عذاب الدنيا وعذاب القبر ثم يردونَ إلى عذاب النار .
وقال آخرون : كان عذابهم إحدى المرّتين مصائبهم في أموالهم وأولادهم ، والمرّة الأخرى في جهنم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال : أما عذاب في الدنيا : فالأموال والأولاد ، وقرأ قول الله : فَلا تُعْجِبْكَ أمْوَالُهُمْ وَلا أوْلادُهُمْ إنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لَيُعَذّبُهُمْ بِها فَي الحَياةِ الدّنْيا بالمصائب فيهم ، هي لهم عذاب وهي للمؤمنين أجر . قال : وعذاب في الاَخرة في النار . ثُمّ يُرَدّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ قال : النار .
وقال آخرون : بل إحدى المرّتين : الحدود ، والأخرى : عذاب القبر . ذكر ذلك عن ابن عباس من وجه غير مرضيّ .
وقال آخرون : بل إحدى المرّتين : أخذ الزكاة من أموالهم ، والأخرى : عذاب القبر . ذُكر ذلك عن سليمان بن أرقم ، عن الحسن .
وقال آخرون : بل إحدى المرّتين عذابهم بما يدخل عليهم من الغيظ في أمر الإسلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ قال : العذاب الذي وعدهم مرّتين فيما بلغني عنهم ما هم فيه من أمر الإسلام وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة ، ثم عذابهم في القبر إذ صاروا إليه ، ثم العذاب العظيم الذي يردّونَ إليه عذاب الاَخرة ويخلدون فيه .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال : إن الله أخبر أنه يعذب هؤلاء الذين مردوا على النفاق مرّتين ، ولم يضع لنا دليلاً نتوصل به إلى علم صفة ذينك العذابين وجائز أن يكون بعض ما ذكرنا عن القائلين ما أنبئنا عنهم ، وليس عندنا علم بأيّ ذلك من بأيّ . على أن في قوله جلّ ثناؤه : ثُمّ يِرَدّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ دلالة على أن العذاب في المرّتين كلتيهما قبل دخولهم النار ، والأغلب من إحدى المرّتين أنها في القبر . وقوله : ثُمّ يُرَدّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ يقول : ثم يردّ هؤلاء المنافقون بعد تعذيب الله إياهم مرّتين إلى عذاب عظيم ، وذلك عذاب جهنم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة} منافقون، {مردوا على النفاق} يعني: حذقوا... {لا تعلمهم} يا محمد، {نحن نعلمهم} يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تعرف نفاقهم، نحن نعرف نفاقهم، {سنعذبهم مرتين} عند الموت تضرب الملائكة الوجوه والأدبار، وفي القبر منكر ونكير، {ثم يردون إلى عذاب عظيم} يعني عذاب جهنم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومن القوم الذين حول مدينتكم من الأعراب منافقون، ومن أهل مدينتكم أيضا أمثالهم أقوام منافقون. وقوله:"مَرَدُوا على النّفاقِ" يقول: مرنوا عليه ودربوا به، ومنه شيطان مارد ومريد: وهو الخبيث العاتي، ومنه قيل: تمرّد فلان على ربه: أي عتا ومرد على معصيته واعتادها.
وقال ابن زيد في ذلك:... أقاموا عليه لم يتوبوا كما تاب الآخرون.
...عن ابن إسحاق: "وَمِنْ أهْلِ المَدِينَةِ مَردُوا على النّفاقِ "أي لجّوا فيه وأبوا غيره. "لا تَعْلَمُهُمْ" يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تعلم يا محمد أنت هؤلاء المنافقين الذين وصفت لك صفتهم ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة، ولكنا نحن نعلمهم...
عن قتادة، في قوله: "وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مِن الأعْرَابِ مُنافِقُون" إلى قوله: "نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ" قال: فما بال أقوام يتكلفون علم الناس؛ فلان في الجنة وفلان في النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري، لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفته الأنبياء قبلك، قال نبيّ الله نوح عليه السلام: "وما عِلْمِي بِمَا كانُوا يَعْمَلُون"، وقال نبي الله شعيب عليه السلام: "بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤمِنِينَ وما أنا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ"، وقال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: "لا تَعْلَمُهُمْ نحْنُ نَعْلَمُهُمْ".
وقوله: "سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ" يقول: سنعذّب هؤلاء المنافقين مرّتين: إحداهما في الدنيا، والأخرى في القبر.
ثم اختلف أهل التأويل في التي في الدنيا ما هي؛
فقال بعضهم: هي فضيحتهم، فضحهم الله بكشف أمورهم وتبيين سرائرهم للناس على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم...
وقال آخرون: معنى ذلك: سنعذّبهم عذابا في الدنيا وعذابا في الآخرة...
وقال آخرون: كان عذابهم إحدى المرّتين مصائبهم في أموالهم وأولادهم، والمرّة الأخرى في جهنم...
وقال آخرون: بل إحدى المرّتين: الحدود، والأخرى: عذاب القبر...
وقال آخرون: بل إحدى المرّتين: أخذ الزكاة من أموالهم، والأخرى: عذاب القبر...
وقال آخرون: بل إحدى المرّتين عذابهم بما يدخل عليهم من الغيظ في أمر الإسلام...ثم عذابهم في القبر إذ صاروا إليه، ثم العذاب العظيم الذي يردّونَ إليه عذاب الآخرة ويخلدون فيه.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إن الله أخبر أنه يعذب هؤلاء الذين مردوا على النفاق مرّتين، ولم يضع لنا دليلاً نتوصل به إلى علم صفة ذينك العذابين، وجائز أن يكون بعض ما ذكرنا عن القائلين ما أنبئنا عنهم، وليس عندنا علم بأيّ ذلك من أيّ، على أن في قوله جلّ ثناؤه: "ثُمّ يِرَدّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ" دلالة على أن العذاب في المرّتين كلتيهما قبل دخولهم النار، والأغلب من إحدى المرّتين أنها في القبر.
وقوله: "ثُمّ يُرَدّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ" يقول: ثم يردّ هؤلاء المنافقون بعد تعذيب الله إياهم مرّتين إلى عذاب عظيم، وذلك عذاب جهنم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فقَالَ بَعْضُهُمْ: المرد في الشيء: هو النهاية في الشر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ)، أي: ثبتوا عليه وداموا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَرَدُوا) أي: عتوا عليه وبالغوا فيه.
أخبر أنهم لشدة مكرهم وخداعهم وعتوهم (لَا تَعْلَمُهُمْ): أنت، (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ)؛ لأن من المنافقين من كان يعرفهم الرسول في لحن القول؛ كقوله: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)، ومنهم من كان يعرفهم في صلاته؛ كقوله: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى)، ومنهم من كان يعرف نفاقه في تخلفه عن رسول اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يعني: عن الغزو -فأخبر- عَزَّ وَجَلَّ -أن هَؤُلَاءِ لشدة عتوهم ومكرهم وفضل خداعهم لا تعرف نفاقهم، نحن نعرف نفاقهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...وأصل المرود: الملاسة. ومنه قوله "صرح ممرد من قوارير "أي مملس، ومنه الأمرد الذي لا شعر على وجهه، والمرودة والمرداء: الرملة التي لا تنبت شيئا، والتمراد: بيت صغير يتخذ للحمام مملس بالطين، والمرداء الصخرة الملساء...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تشاكل المخلِصُ والمنافِقُ في الصورة فلم يَتَمَيَّزا بالمباني، وإن تنافَيا في الحقائق والمعاني وتقاصر عِلْمُهم عن العرفان فَهَتَك الله لنبيِّه أستارَهم.. فَعَرَفَهم، وهم بإشرافه عليهم جاهلون، وعلى الإقامة في أوطان نفاقهم مصروفون، فلم ينفعهم طولُ إمهاله لهم.
{سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ}: الأولى في الدنيا بالفضيحة فيما ينالهم من المحن والفتن والأمراض، ولا يحصل لهم عليها في الآخرة عِوَضٌ ولا أَجْرٌ ولا مَسَرَّةٌ، والثانية عذابُ القبر.
وقيل المرة الأولى بِقَبْضِ أرواحهم، والثانية عذاب القبر ثم يوم القيامة يُمْتحنون بالعذاب الأكبر.
ويقال المرة الأولى: ظنُّهم أنهم على شيء، والمرة الثانية بخيبة آمالهم وظهور ما لم يحتسبوه لهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {مَرَدُواْ عَلَى النفاق}: تمهروا فيه، من مرن فلان عمله، ومرد عليه: إذا درب به وضرى، حتى لان عليه ومهر فيه، ودّل على مرانتهم عليه ومهارتهم فيه بقوله: {لاَ تَعْلَمُهُمْ} أي يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك، لفرط تنوّقهم في تحامي ما يشكك في أمرهم، {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} أي لا يعلمهم إلاّ الله، ولا يطلع على سرهم غيره، لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطاناً، ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين، لا تشك معه في إيمانهم، وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروا به، فلهم فيه اليد الطولى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{منافقون} أي راسخون في النفاق، وكأنه قدمهم لجلافتهم وعتوهم، وأتبعهم من هو أصنع منهم في النفاق فقال: {ومن أهل المدينة}...
{مردوا} أي صُلبوا وداموا وعتوا وعسوا وعصوا وصار لهم به دربة عظيمة وضراوة حتى ذلت لهم فيه جميع أعضائهم الظاهرة والباطنة وصار لهم خلقاً...
ثم استأنف جزاءهم بقوله: {سنعذبهم} أي بوعد لا خلف فيه {مرتين} أي إحداهما برجوعك سالماً وشفوف أمرك وعلو شأنه وضخامة أركانه وعز سلطانه وظهور برهانه، فإنهم قطعوا لغباوتهم وجلافتهم وقساوتهم كما أشرت إليه بقولي {ويتربص بكم الدوائر} -أنك لا ترجع هذه المرة من هذه السفرة لما يعرفون من ثباتك للأقران، وإقدامك على الليوث الشجعان، واقتحامك للأهوال، إذا ضاق المجال، ونكص الضراغمة الأبطال، ومن عظمة الروم وقوتهم وتمكنهم وكثرتهم، وغاب عن الأغبياء وخفي عن الأشقياء الأغنياء أن الله الذي خلقهم أعظم منهم وأكبر، وجنوده أقوى من جنودهم وأكثر؛ والثانية بعد وفاتك بقهر أهل الردة ومحقهم ورجوع ما أصلته بخليفتك الصديق رضي الله عنه إلى ما كان عليه في أيامك من الظهور وانتشار الضياء والنور والحكم على من خالفه بالويل والثبور...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ومِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ومِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} بعد أن بين تعالى حال كملة المؤمنين كلهم قفى عليه بذكر مردة المنافقين من أهل البدو والحضر، وعطفهم عليهم من باب عطف الضد على الضد، فهو يقول: إن بعض الأعراب الذين حولكم أيها المؤمنون منافقون... وإن من أهل المدينة نفسها منافقين أيضا من الأوس والخزرج غير مَن أعلم الله رسوله بهم في هذه السورة بما صدر عنهم من الأقوال والأفعال المنافية للإيمان، وقد وصف هؤلاء بقوله: {مردوا على النفاق} أي مرنوا عليه وحذقوه حتى بلغوا الغاية من إتقانه، وجعله بحيث لا يشعر أحد به، لاتقائهم جميع الأمارات والشبهات التي تدل عليه. يقال مرد على الشيء يمرد (كقعد يقعد) مرودا إذا مرن عليه. وإذا عتا واشتد فيه حتى يتعذر إرجاعه عنه. ومن الأول الغلام الأمرد الذي لم ينبت الشعر في وجهه، والشجرة المرداء التي لا ورق فيها، ومنه مرد الشيء تمريدا إذا صقله وملسه حتى صار أملس لا حرشة فيه ولا خشونة، ومنه (صرح ممرد من قوارير) قال في اللسان: وتأويل المرود أن يبلغ الغاية التي تخرج من جملة ما عليه الصنف. ثم قال: والمرود على الشيء: المرون عليه، ومرد على الكلام أي مرن عليه لا يعبأ به [أي لا يعني أن يتكلف له] قال الله تعالى {ومِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ}، قال الفراء: يريد مرنوا عليه وجربوا، كقولك تمردوا، وقال ابن الأعرابي المرد التطاول بالكبر والمعاصي ومنه قوله: {مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ} أي تطاولوا اه.
{لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} أي لا تعرفهم أيها الرسول بفطنتك ودقة فراستك التي تنظر فيها بنور الله لحذقهم في التقية وتجنب مثارات الشبهة، وأكد هذا النفي بإثبات العلم بأعيانهم له وحده عز وجل، ولعلهم أخفى نفاقا وأشد تقية ممن قال فيهم: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ولَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ولَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ واللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:29، 30].
فهؤلاء ممن لم يعلمه الله بأعيانهم كما أعلمه بمن أشير إليهم في الآية [74]، ولا فضحهم بأقوال قالوها ولا بأفعال فعلوها كما فضح غيرهم في هذه السورة، لأنهم بمرودهم على النفاق يتحامون ما يكون شبهة على إيمانهم، فضرره قاصر عليهم، وحكمة إخباره تعالى إياه بذلك أن يعلموا هم أنه الله عليم بما يسرون من نفاقهم، ويحذروا أن يفضحهم كما فضح غيرهم، ليتوب المستعد للإيمان منهم وهو في ستر الله تعالى قبل أن ينجز ما أوعدهم بقوله: {سنعذبهم مرتين} أي في الحياة الدنيا: إحداهما ما يصيبهم من المصائب وتوبيخ الضمائر، وانتظار الفضيحة بهتك أستار السرائر، وما يتلو ذلك من جهادهم إذا ظهر نفاقهم كغيرهم، والثانية آلام الموت وزهوق أنفسهم وهم كافرون وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند موتهم، فأقرب ما يفسر به العذاب مرتين هو ما تقدم في تفسير الآيات 55 و73 و74 و82 و83، ففيه بيان لكل ما يصيب المنافقين في الدنيا من عذاب الوجدان الباطن، وعذاب من يفتضح أمرهم في الظاهر، وورد في التفسير المأثور أقوال في هاتين المرتين بعضها في معنى ما ذكرنا وبعضها مردود ومتناقض.
{ثم يردون إلى عذاب عظيم} أي في الآخرة وهو عذاب جهنم، وهم في الدرك الأسفل منها كما تقدم...
والعبرة في هذا السياق أن هؤلاء المنافقين فريقان: فريق عرفوا بأقوال قالوها وأعمال عملوها، وفريق مردوا على النفاق وحذقوه حتى صار أملس ناعما لا يكاد يشعر أحد بشيء يستنكره منه فيظهر عليه، وكل من الفريقين يوجد في كل عصر...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كانت الأعراب الذين حول المدينة قد خلصوا للنبيء صلى الله عليه وسلم وأطاعوه وهم جهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار، ولحيان، وعصية، فأعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن في هؤلاء منافقين لئلا يغتر بكل من يظهر له المودة. وكانت المدينة قد خلص أهلها للنبي صلى الله عليه وسلم وأطاعوه فأعلمه الله أن فيهم بقية مردوا على النفاق لأنه تأصل فيهم من وقت دخول الإسلام بينهم. وتقديم المجرور للتنبيه على أنه خبر، لا نعت. و (مِن) في قوله {وممن حولكم} للتبعيض و (مِن) في قوله: {من الأعراب} لبيان (مَن) الموصولة.
وأشير بقوله: {لا تعلمهم نحن نعلمهم} إلى أن هذا الفل الباقي من المنافقين قد أراد الله الاستئثار بعلمه ولم يُطلع عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم كما أطلعه على كثير من المنافقين من قبلُ. وإنما أعلمه بوجودهم على الإجمال لئلا يغتر بهم المسلمُون، فالمقصود هو قوله: {لا تعلمهم}. وجملة {نحن نعلمهم} مستأنفة. والخبر مستعمل في الوعيد، كقوله: {وسيرى الله عملكم ورسوله} [التوبة: 94]، وإلا فإن الحكم معلوم للمخاطب فلا يحتاج إلى الإخبار به. وفيه إشارة إلى عدم الفائدة للرسول صلى الله عليه وسلم في علمه بهم، فإن علم الله بهم كاف.
وقد تحير المفسرون في تعيين المراد من المرتين. وحملوه كلهم على حقيقة العدد. وذكروا وجوهاً لا ينشرح لها الصدر. والظاهر عندي أن العدد مستعمل لمجرد قصد التكرير المفيد للتأكيد كقوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين} [الملك: 4] أي تأمل تأملاً متكرراً. ومنه قول العرب: لبيك وسعديك، فاسم التثنية نائب مناب إعادة اللفظ. والمعنى: سنعذبهم عذاباً شديداً متكرراً مضاعفاً، كقوله تعالى: {يضاعَف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30]. وهذا التكرر تختلف أعداده باختلاف أحوال المنافقين واختلاف أزمان عذابهم.
أوضح سبحانه: وطِّنوا أنفسكم على أن من حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون، وهذا التوطّين يعطي مناعة اليقظة؛ حتى لا يندس واحد من المنافقين على أصحاب الغفلة الطيبين من المؤمنين، فينبههم الحق: انتبهوا فأنتم تعيشون في مجتمع محاط بالمنافقين. والتطعيم ضد الداءات التي تصيب الأمم وسيلة من وسائل محاربة العدو... وهكذا يربي الحق المناعة بحيث لا يمكن أن يهاجم المؤمنون عن غفلة، فيقول: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق} و "مرد "يمرد أي: تدرب وتمرن، ويبقى الأمر عنده حرفة، وكأن الواحد منهم يجيد النفاق إجادة تامة، وكل ذلك ليوجد مناعة في الأمة الإسلامية؛ ، حتى يكون المؤمن على بصيرة في مواجهة أي شيء، فإذا رأى أي سلوك فيه نفاق اكتشفه على الفور. واليقظة تدفع عنك الضر، ولا تمنع عنك الخير...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...إنّ هذا التفاوت في التعبير عن المنافقين الداخليين والخارجيين في الآية يلاحظ جلياً، وربّما كان ذلك إِشارة إِلى أنّ المنافقين الداخليين أكثر تسلطاً على النفاق، وبالتالي فهم أشد خطراً، فعلى المسلمين أن يراقبوا هؤلاء بدقّة، لكن يجب أن لا يغفلوا عن المنافقين الخارجين، بل يراقبونهم أيضاً. لذلك تقول الآية مباشرة بعد ذلك (لا تعلمهم نحن نعلمهم) ومن الطبيعي أنّ هذا إشارة العلم الطبيعي للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن هذا لا ينافي أن يقف كاملا على أسرارهم عن طريق الوحي والتعليم الإِلهي.
وفي النهاية تبيّن الآية صورة العذاب الذي سيصيب هؤلاء: (سنعذّبهم مرّتين ثمّ يردون إِلى عذاب عظيم).
لا شك أنّ العذاب العظيم إِشارة إلى عذاب يوم القيامة، إلاّ أنّ بين المفسّرين نقاشاً واحتمالات عديدة في نوعية العذابين الآخرين وماهيتهما. إلاّ أنّ الذي يرجحه النظر أن واحداً من هذين العذابين هو العقاب الاجتماعي لهؤلاء، والمتمثل في فضيحتهم وهتك أسرارهم، والكشف عمّا في ضمائرهم من خبيث النوايا، وهذا يستتبع خسرانهم لكل وجودهم الاجتماعي، والدليل على ذلك ما قرأناه في الآيات السابقة، وقد ورد في بعض الأحاديث أنّ أعمال هؤلاء عندما كانت تبلغ حد الخطر، كان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرف هؤلاء الناس بأسمائهم وصفاتهم، بل وربّما طردهم من المسجد.
والعذاب الثّاني هو ما أشارت إِليه الآية (50) من سورة الأنفال، حيث تقول هناك: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم).
ويحتمل أيضاً أن يكون العذاب الثّاني إشارة إلى المعاناة النفسية والعذاب الروحي الذي كان يعيشه هؤلاء نتيجة انتصارات المسلمين في كل الجوانب والأبعاد والمجالات.