فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيۡنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ} (101)

قوله : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الأعراب منافقون } هذا عود إلى شرح أحوال المنافقين من أهل المدينة ، ومن يقرب منها من الأعراب . وممن حولكم خبر مقدّم ، ومن الأعراب بيان ، وهو في محل نصب على الحال ، ومنافقون هو المبتدأ .

وقيل : وهؤلاء الذين هم حول المدينة من المنافقين هم : جهينة ومزينة ، وأشجع ، وغفار ، وجملة : { وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق } معطوفة على الجملة الأولى ، عطف جملة على جملة . وقيل : إن { من أهل المدينة } عطف على الخبر في الجملة الأولى ، فعلى الأول : يكون المبتدأ مقدّراً : أي ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق ، وعلى الثاني : يكون التقدير : وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا ، ولكون جملة مردوا على النفاق مستأنفة لا محل لها ، وأصل مرد وتمرّد اللين والملاسة والتجرّد ، فكأنهم تجرّدوا للنفاق ، ومنه : غصن أمرد : لا ورق عليه ، وفرس أمرد : لا شعر فيه . وغلام أمرد : لا شعر بوجهه ، وأرض مرداء : لا نبات فيها ، وصرح ممرّد : مجرّد ؛ فالمعنى : أنهم أقاموا على النفاق وثبتوا عليه ولم ينثنوا عنه . قال ابن زيد : معناه لجوا فيه وأتوا غيره ، وجملة : { لاَ تَعْلَمُهُمْ } مبينة للجملة الأولى ، وهي مردوا على النفاق : أي ثبتوا عليه ثبوتاً شديداً ، ومهروا فيه حتى خفي أمرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكيف سائر المؤمنين ؟ والمراد عدم علمه صلى الله عليه وسلم بأعيانهم لا من حيث الجملة ، فإن للنفاق دلائل لا تخفى عليه صلى الله عليه وسلم ، وجملة : { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } مقرّرة لما قبلها لما فيها من الدلالة على مهارتهم في النفاق ورسوخهم فيه ، على وجه يخفى على البشر ، ولا يظهر لغير الله سبحانه لعلمه بما يخفى ، وما تجنه الضمائر وتنطوي عليه السرائر . ثم توعدهم سبحانه فقال : { سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } قيل : المراد بالمرّتين : عذاب الدنيا بالقتل والسبي ، وعذاب الآخرة ، وقيل : الفضيحة بانكشاف نفاقهم ، والعذاب في الآخرة ؛ وقيل : المصائب في أموالهم وأولادهم ، وعذاب القبر . وقيل : غير ذلك مما يطول ذكره مع عدم الدليل على أنه المراد بعينه . والظاهر أن هذا العذاب المكرّر هو في الدنيا بما يصدق عليه اسم العذاب ، وأنهم يعذبون مرّة بعد مرّة ، ثم يردون بعد ذلك إلى عذاب الآخرة ، وهو المراد بقوله : { ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ } ومن قال : إن العذاب في المرة الثانية هو عذاب الآخرة ، قال معنى قوله : { ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ } أنهم يردّون بعد عذابهم في النار ، كسائر الكفار إلى الدرك الأسفل منها ؛ أو أنهم يعذبون في النار عذاباً خاصاً بهم دون سائر الكفار ، ثم يردون بعد ذلك إلى العذاب الشامل لهم ولسائر الكفار .

/خ106