فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيۡنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ} (101)

{ وممن حولكم من الأعراب منافقون } هذا عود إلى شرح أحوال المنافقين من أهل المدينة هم جهينة ومزينة وأشجع وغفار وأسلم ، ذكره جمع من المفسرين كالبغوي والواحدي وابن الجوزي والنسفي والخازن والسيوطي وغيرهم وفيه إشكال لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا لهؤلاء القبائل ، فإن صح هذا النقل فحمل الآية على القليل منهم ، لأن لفظة { من } للتبعيض ، ويحمل الدعاء لهم على الأكثر والأغلب ، وبهذا يمكن الجمع بينهما .

وأطلق الطبري القول ولم يعين أحدا من القبائل المذكورة بل قال من القوم الذين حول مدينتكم ؛ أيها المؤمنون من الأعراب منافقون { ومن أهل المدينة } قوم أو ناس { مردوا على النفاق } قال البغوي : أي من الأوس والخزرج . وقيل المعنى وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا ، وأصل مرد وتمرد اللين والملاسة والتجرد كأنهم تجردوا للنفاق ، ومنه غصن أمرد لا ورق عليه ، وفرس أمرد لا شعر فيه ، وغلام أمرد لا شعر بوجهه ، وأرض مرداء لا نبات فيها وصرح ممرد مجرد مملس ، كما قال :

في منزل شيد بنيانه يزل عنه ظفر الطائر

فالمعنى أنهم أقاموا على النفاق وثبتوا عليه ولم ينثنوا عنه ولم يتوبوا منه ، قال ابن زيد : معناه لجوا فيه وأبوا غيره .

قال الخفاجي : أصل معنى التمرد التمرن أي الاعتياد والتدرب في الأمر حتى يصير ماهرا فيه لاتخاذه صنعة وديدنا له ، ولذا خفي نفاقهم عليه صلى الله عليه وآله وسلم مع كمال فطنته وفراسته .

وقال الراغب : أنه من قولهم شجرة مرداء أي لا ورق عليها أي أنهم خلوا من الخير . وروى أهل الجنة جرد مرد وهو محمول على ظاهره ، أو المراد أنهم خالصون من الشوائب والقبائح .

وجملة { لا تعلمهم } مبنية للجملة الأولى وهي مردوا على النفاق أي ثبتوا عليه ثبوتا شديدا ومهروا فيه حتى خفي أمرهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكيف سائر المؤمنين ، والمراد عدم علمه صلى الله عليه وآله وسلم بأعيانهم لا من حيث الجملة ، فإن للنفاق دلائل لا تخفى عليه صلى الله عليه وآله وسلم .

ولا ينافي هذا قوله تعالى : { ولتعرفنهم في لحن القول } لأن آية النفي نزلت قبل آية الإثبات ، وهذه الجملة صفة المنافقين أو مستأنفة ، والعلم هنا إما على بابه فيتعدى لاثنين أي لا تعلمهم منافقين أو عرفاني فيتعدى لواحد . قاله أبو البقاء .

وأما قوله : { نحن نعلمهم } فلا يجوز أن يكون إلا على بابه وهي مقررة لما قبلها لما فيها من الدلالة على مهارتهم في النفاق ورسوخهم فيه على وجه يخفى على البشر ، ولا يظهر لغير الله سبحانه لعلمه بما يخفى وما تجنه الضمائر وتنطوي عليه السرائر . ثم توعدهم سبحانه فقال : { سنعذبهم مرتين } قيل المراد بهما عذاب الدنيا بالقتل والسبي وعذاب الآخرة ، وقيل الفضيحة بانكشاف نفاقهم والعذاب في الآخرة ، وقيل المصائب في أموالهم وأولادهم وعذاب القبر . قال مجاهد مرتين يعني بالجوع والقتل .

وعن أبي مالك قال : بالجوع وعذاب القبر . وعن قتادة قال : عذاب في القبر وعذاب في النار ، وقد روي عن جماعة من السلف نحو هذا في تعيين العذابين وقيل غير ذلك مما يطول ذكره مع عدم الدليل على أنه المراد بعينه ، والظاهر أن هذا العذاب المكرر هو في الدنيا بما يصدق عليه اسم العذاب وأنهم يعذبون مرة بعد مرة ثم يردون بعد ذلك إلى عذاب الآخرة ، وهو المراد بقوله : { ثم يردون إلى عذاب عظيم } .

ومن قال أن العذاب في المرة الثانية هو عذاب الآخرة قال معنى قوله { ثم يردون } أنهم يردون بعد عذابهم في النار كسائر الكفار إلى الدرك الأسفل منها أو أنهم يعذبون في النار عذابا خاصا بهم دون سائر الكفار ثم يردون بعد ذلك إلى العذاب الشامل لهم ولسائر الكفار .

وفي مسند أحمد عن ابن مسعود : خطبنا رسول صلى الله عليه وآله وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( إن منكم منافقين فمن سميته فليقمن ثم قال : قم يا فلان حتى سمى ستة وثلاثين ) {[916]} .


[916]:- الإمام أحمد 5/ 272.