أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ} (144)

{ قد نرى } ربما نرى { تقلب وجهك في السماء } تردد وجهك في جهة السماء تطلعا للوحي ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع في روعه ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ، وأقدم القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان ، ولمخالفة اليهود ، وذلك يدل على كمال أدبه حيث انتظر ولم يسأل { فلنولينك قبلة } فلنمكننك من استقبالها من قولك : وليته كذا ، إذا صيرته واليا له ، أو فلنجعلنك تلي جهتها { ترضاها } تحبها وتتشوق إليها ، لمقاصد دينية وافقت مشيئة الله وحكمته . { فول وجهك } اصرف وجهك . { شطر المسجد الحرام } نحوه . وقيل : الشطر في الأصل لما انفصل عن الشيء إذا انفصل ، ودار شطور : أي منفصلة عن الدور ، ثم استعمل لجانبه ، وإن لم ينفصل كالقطر ، والحرام المحرم أي محرم فيه القتال ، أو ممنوع من الظلمة أن يتعرضوه ، وإنما ذكر المسجد دون الكعبة لأن عليه الصلاة والسلام كان في المدينة ، والبعيد يكفيه مراعاة الجهة ، فإن استقبال عينها حرج عليه بخلا القريب . روي : أنه عليه الصلاة والسلام قدم المدينة ، فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ، ثم وجه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين . وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر ، فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب ، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم ، فسمي المسجد مسجد القبلتين . { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } خص الرسول بالخطاب تعظيما له وإيجابا لرغبته ، ثم عمم تصريحا بعموم الحكم وتأكيدا لأمر القبلة وتضيضا للأمة على المتابعة . { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } جملة لعلمهم بأن عادته تعالى تخصيص كل شريعة بقبلة ، وتفصيلا لتضمن كتبهم أنه صلى الله عليه وسلم يصلي إلى القبلتين ، والضمير للتحويل أو التوجه { وما الله بغافل عما تعملون } وعد ووعيد للفريقين . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالياء .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ} (144)

استئناف ابتدائي وإفضاء لِشرع استقبال الكعبة ونَسْخِ استقبال بيت المقدس فهذا هو المقصود من الكلام المفتتح بقوله : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } [ البقرة : 142 ] بَعْد أن مَهَّد الله بما تقدم من أفانين التهيئة وإعدادِ الناس إلى ترقبه ابتداء من قوله : { ولله المشرق والمغرب ثم قوله : ولن ترضى عنك اليهود } [ البقرة : 120 ] ثم قوله : { وإذا جعلنا البيت } [ البقرة : 125 ] ثم قوله : { سيقول السفهاء } .

و ( قد ) في كلام العرب للتحقيق أَلاَ ترى أهلَ المعاني نَظَّروا هل في الاستفهام بقد في الخبر فقالوا من أجل ذلك إن هل لطلب التصديق فحرف قد يفيد تحقيق الفعل فهي مع الفعل بمنزلة إِنَّ مع الأسماء ولذلك قال الخليل إنها جواب لقوم ينتظرون الخبر ولو أخبروهم لا ينتظرونه لم يقل قد فعل كذا اهـ .

ولما كان علم الله بذلك مما لا يَشُك فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى يُحتاجَ لتحقيق الخبر به كان الخبر به مع تأكيده مستعملاً في لازمه على وجه الكناية لدفع الاستبطاء عنه وأن يُطَمئِنهَ لأن النبي كان حريصاً على حصوله ويَلزم ذلكَ الوعدُ بحصوله فتحصل كنايتان مترتبان .

وجيء بالمضارع مَعَ ( قد ) للدلالة على التجدد والمقصود تجدد لازمه ليكون تأكيداً لذلك اللازم وهو الوعد ، فمن أجْل ذلك غلب على قد الداخلة على المضارع أن تكون للتكثير مثل ربما يفعل . قال عبيد بن الأَبْرَص :

قد أَتْركُ القِرن مُصْفَرَّا أَنامِلُه *** كَأَنَّ أَثوابه مُبحَّت بفِرصاد

وستجيء زيادة بيان لهذا عند قوله تعالى : { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } [ الأنعام : 33 ] في سورة الأنعام .

والتقلب مطاوع قَلَّبه إذا حَوَّله وهو مثل قلبهُ بالتخفيف ، فالمراد بتقليب الوجه الالتفات به أي تحويله عن جهته الأصلية فهو هنا ترديده في السماء ، وقد أخذوا من العدول إلى صيغة التفعيل الدلالةَ على معنى التكثير في هذا التحويل ، وفيه نظر إذ قد يكون ذلك لما في هذا التحويل من الترقب والشدة فالتفعيل لقوة الكيفية ، قالوا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقع في رُوعه إلهاماً أن الله سيحوله إلى مكة فكان يردد وجهه في السماء فقيل ينتظر نزول جبريل بذلك ، وعندي أنه إذا كان كذلك لزم أن يكون تقليب وجهه عند تهيؤ نزول الآية وإلاّ لما كان يترقب جبريل فدل ذلك على أنه لم يتكرر منه هذا التقليب .

والفاء في { فلنولينك } فاء التعقيب لتأكيد الوعد بالصراحة بعد التمهيد لها بالكناية في قوله : { قد نرى تقلب وجهك } ، والتولية تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } [ البقرة : 142 ] ، فمعنى { فلنولينك قبلة } لنوجهنك إلى قبلة ترضاها . فانتصب { قبلة } على التوسع بمنزلة المفعول الثاني وأصله لنولينك مِن قِبلة وكذلك قوله : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } .

والمعنى أن تولية وجهه للكعبة سيحصل عقب هذا الوعد . وهذا وعد اشتمل على أداتي تأكيد وأداةِ تعقيب وذلك غاية اللطف والإحسان .

وعبر بترضاها للدلالة على أن ميله إلى الكعبة ميل لقصد الخير بناء على أن الكعبة أجدر بيُوتِ الله بأن يدل على التوحيد كما تقدم فهو أجدر بالاستقبال من بيت المقدس ، ولأن في استقبالها إيماء إلى استقلال هذا الدين عن دين أهل الكتاب . ولما كان الرضى مشعراً بالمحبة الناشئة عن تعقل اختير في هذا المقام دون تُحبها أو تهواها أو نحوهما فإن مقام النبي صلى الله عليه وسلم يربو عن أن يتعلق ميله بما ليس بمصلحة راجحة بعد انتهاء المصلحة العارضة لمشروعية استقبال بيت المقدس ، ألا ترى أنه لما جاء في جانب قبلتهم بعد أن نسخت جاء بقوله : { ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم } الآية .

وقوله : { فول وجهك } تفريع على الوعد وتعجيل به والمعنى فول وجهك في حالة الصلاة وهو مستفاد من قرينة سياق الكلام على المجادلة مع السفهاء في شأن قبلة الصلاة .

والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والأمر متوجه إليه باعتبار ما فيه من إرضاء رغبته ، وسيعقبه بتشريك الأمة معه في الأمر بقوله : { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } .

والشَّطْر بفتح الشين وسكون الطاء الجهة والناحية وفسره قتادة بتلقاء ، وكذلك قرأه أبي بن كعب ، وفَسر الجُبَّائي وعبد الجبار الشطر هنا بأنه وسَط الشيء ، لأن الشطر يطلق على نصف الشيء فلما أضيف إلى المسجد والمسجد مكان اقتضى أن نصفه عبارة عن نصف مقداره ومساحته وذلك وسطه ، وجعَلا شطر المسجد الحرام كناية عن الكعبة لأنها واقعة من المسجد الحرام في نصف مساحته من جميع الجوانب ( أي تقريباً ) قال عبد الجبار ويدل على أن المراد ما ذكرنا وجهان أحدهما أن المصلى لو وقف بحيث يكون متوجهاً إلى المسجد ولا يكون متوجهاً إلى الكعبة لا تصح صلاته ، الثاني لو لم نفسر الشطر بما ذكرنا لم يبق لذكر الشطر فائدة إذ يغني أن يقول : { فول وجهك المسجد الحرام } ولكان الواجب التوجه إلى المسجد الحرام لا إلى خصوص الكعبة .

فإن قلت ما فائدة قوله : { فلنولينك قبلة ترضاها } قبل قوله : { فول وجهك } وهلا قال : في السماء فول وجهك إلخ ، قلت فائدته إظهار الاهتمام برغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها بحيث يعتنى بها كما دل عليه وصف القبلة بجملة { ترضاها } .

ومعنى ( نولينك ) نوجهنك ، وفي التوجيه قرب معنوي لأن ولي المتعدي بنفسه إذا لم يكن بمعنى القرب الحقيقي فهو بمعنى الارتباط به ، ومنه الولاء والولي ، والظاهر أن تعديته إلى مفعول ثان من قبيل الحذف والتقدير ولى وجهه إلى كذا ثم يَعدونه إلى مفعول ثالث بحرف عن فيقولون ولَّى عن كذا وينزلونه منزلة اللازم بالنسبة للمفعولين الآخرين فيقدرون ولى وجهه إلى جهة كذا منصرفاً عن كذا أي الذي كان يليه من قبل ، وباختلاف هاته الاستعمالات تختلف المعاني كما تقدم .

فالقبلة هنا اسم للمكان الذي يستقبله المصلى وهو إما مشتق من اسم الهيئة وإما من اسم المفعول كما تقدم .

والمسجد الحرام المسجد المعهود عند المسلمين والحرام المجعول وصفاً للمسجد هو الممنوع . أي الممنوع منع تعظيم وحرمة فإن مادة التحريم تؤذن بتجنب الشيء فيفهم التجنب في كل مقام بما يناسبه . وقد اشتهر عند العرب وصف مكة بالبلد الحرام أي الممنوع عن الجبابرة والظلمة والمعتدين ووصف بالمحرم في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : { عند بيتك الحرام } [ إبراهيم : 37 ] ، أي المعظم المحترم وسمي الحرم قال تعالى : { أولم نمكن لهم حرماً أمناً } [ القصص : 57 ] فوصف الكعبة بالبيت الحرام وحرم مكة بالحرم أوصاف قديمة شائعة عند العرب فأما اسم المسجد الحرام فهو من الألقاب القرآنية جعل علماً على حريم الكعبة المحيط بها وهو محل الطواف والاعتكاف ولم يكن يعرف بالمسجد في زمن الجاهلية إذ لم تكن لهم صلاة ذات سجود والمسجد مكان السجود فاسم المسجد الحرام علم بالغلبة على المساحة المحصورة المحيطة بالكعبة ولها أبواب منها باب الصفا وباب بني شيبة ولما أطلق هذا العلم على ما أحاط بالكعبة لم يتردد الناس من المسلمين وغيرهم في المراد منه فالمسجد الحرام من الأسماء الإسلامية قبل الهجرة وقد ورد ذكره في سورة الإسراء وهي مكية .

والجمهور على أن المراد بالمسجد الحرام هنا الكعبة لاستفاضة الأخبار الصحيحة بأن القبلة صرفت إلى الكعبة وأن رسول الله أمر أن يستقبل الكعبة وأنه صلى إلى الكعبة يوم الفتح وقال هذه القبلة ، قال ابن العربي « وَذَكَرَ المسجد الحرام والمراد به البيت لأن العرب تعبر عن البيت بما يجاوره أو بما يشتمل عليه » وعن ابن عباس البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب . قال الفخر وهذا قول مالك ، وأقول لا يعرف هذا عن مالك في كتب مذهبه .

وانتصب { شطر المسجد } على المفعول الثاني لولِّ وليس منصوباً على الظرفية .

وقوله : { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } تنصيص على تعميم حكم استقبال الكعبة لجميع المسلمين بعموم ضميري { كنتم } و { وجوهكم } لوقوعهما في سياق عموم الشرط بحيثما وحينما لتعميم أقطار الأرض لئلا يظن أن قوله : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن قوله : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم اقتضى الحال تخصيصه بالخطاب به لأنه تفريع على قوله : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } ليكون تبشيراً له ويعلم أن أمته مثله لأن الأصل في التشريعات الإسلامية أن تعم الرسول وأمته إلاّ إذا دل دليل على تخصيص أحدهما ، ولما خيف إيهام أن يكون هذا الحكم خاصاً به أو أن تجزىء فيه المرة أو بعض الجهات كالمدينة ومكة أريد التعميم في المكلفين وفي جميع البلاد ، ولذلك جيء بالعطف بالواو لكن كان يكفي أن يقول وولوا وجوهكم شطره فزيد عليه ما يدل على تعميم الأمكنة تصريحاً وتأكيداً لدلالة العموم المستفاد من إضافة { شطر } إلى ضمير { المسجد الحرام } لأن شطر نكرة أشبهت الجمع في الدلالة على أفراد كثيرة فكانت إضافتها كإضافة الجموع ، وتأكيداً لدلالة الأمر التشريعي على التكرار تنويهاً بشأن هذا الحكم فكأنه أفيد مرتين بالنسبة للمكلفين وأحوالهم أولاهما إجمالية والثانية تفصيلية .

وهذه الآيات دليل على وجوب هذا الاستقبال وهو حكمة عظيمة ، ذلك أن المقصود من الصلاة العبادة والخضوع لله تعالى وبمقدار استحضار المعبود يقوى الخضوع له فتترتب عليه آثاره الطيبة في إخلاص العبد لربه وإقباله على عبادته وذلك ملاك الامتثال والاجتناب . ولهذا جاء في الحديث الصحيح : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ولما تنزه الله تعالى عن أن يحيط به الحس تعين لمحاول استحضار عظمته أن يجعل له مذكراً به من شيء له انتساب خاص إليه ، قال فخر الدين : ( إن الله تعالى خلق في الإنسان قوة عقلية مدركة للمجردات والمعقولات ، وقوة خيالية متصرفة في عالم الأجسام ، وقلما تنفك القوة العقلية عن مقارنة القوة الخيالية ، فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقلي مجرد وجب أن يضع له صورة خيالية يحسها حتى تكون تلك الصورة الخيالية معينة على إدراك تلك المعاني العقلية ، ولما كان العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم لا بد من أن يستقبله بوجهه ويبالغ في الثناء عليه بلسانه وفي الخدمة له ، فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلاً للملك ، والقرآنُ والتسبيحات تجري مجرى الثناء عليه ، والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة ) اهـ .

فإذا تعذر استحضار الذات المطلوبة بالحس فاستحضارها يكون بشيء له انتساب إليها مباشرة كالديار أو بواسطة كالبرق والنسيم ونحو ذلك أو بالشبه كالغزال عند المحبين ، وقديماً ما استهترت الشعراء بآثار الأحبة كالأطلال في قوله : * قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * وأقوالهم في البرق والريح ، وقال مالك بن الرَّيب :

دَعاني الهَوى من أهل ودي وجيرتي *** بذِي الطَّيِّسَيْنِ فالتفتُّ وَرائيا

والله تعالى منزه عن أن يحيط به الحس فوسيلة استحضار ذاته هي استحضار ما فيه مزيد دلالة عليه تعالى . لا جرم أن أولى المخلوقاتِ بأن يجعل وسيلة لاستحضار الخالق في نفس عبده هي المخلوقات التي كان وجودها لأجل الدلالة على توحيد الله وتنزيهه ووصفه بصفات الكمال مع تجردها عن كل ما يوهم أنها المقصودة بالعبادة وتلك هي المساجد التي بناها إبراهيم عليه السلام وجردها من أن يضع فيها شيئاً يوهم أنه المقصود بالعبادة ، ولم يسمها باسم غير الله تعالى فبنى الكعبة أول بيت ، وبنى مسجداً في مكان المسجد الأقصى ، وبنى مساجد أخرى ورد ذكرها في التوراة بعنوان مذابح ، فقد بنت الصابئة وأهل الشرك بعد نوح هيَاكل لتمجيد الأوثان وتهويل شأنها في النفوس فأضافوها إلى أسماء أناس مثل ود وسواع ، أو إلى أسماء الكواكب ، وذكر المسعودي في « مروج الذهب » عدة من الهياكل التي أقيمت في الأمم الماضية لهذا الشأن ومنها هيكل سندوساب ببلاد الهند وهيكل مصلينا في جهة الرقة بناه الصابئة قبل إبراهيم وكان آزر أبو إبراهيم من سدنته ، وقيل إن عاداً بنوا هياكل منها جلق هيكل بلاد الشام .

فإذا استقبل المؤمن بالله شيئاً من البيوت التي أقيمت لمناقضة أهل الشرك وللدلالة على توحيد الله وتمجيده كان من استحضار الخالق بما هو أشدُّ إضافةً إليه ، بيد أن هذه البيوت على كثرتها لا تتفاضل إلاّ بإخلاص النية من إقامتها ، وبكون إقامتها لذلك وبأسبقية بعضها على بعض في هذا الغرض ، وإن شئت جعلت كل هذه المعاني ثلاثةً في معنى واحد وهو الأسبقية لأن السابق منها قد امتاز على اللاَّحق بكونه هو الذي دل مؤسسَ ذلك اللاحق على تأسيسه قال تعالى : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه } [ التوبة : 108 ] ، وقال في ذكر مسجد الضرار : { لا تقم فيه أبداً } ، أي لأنه أسس بنية التفريق بين المؤمنين ، وقال : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين } [ آل عمران : 96 ] فجعله هدى للناس لأنه أول بيت فالبيوت التي أقيمت بعده كبيت المقدس من آثار اهتداء اهتداه بانُوها بالبيت الأول .

وقد قال بعض العلماء إن الكعبة أول هيكل أقيم للعبادة وفيه نظر سيأتي عند قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة } في سورة آل عمران ، ولا شك أن أول هيكل أقيم لتوحيد الله وتنزيهه وإعلان ذلك وإبطال الإشراك هو الكعبة التي بناها إبراهيم أول من حاج الوثنيين بالأدلة وأول من قاوم الوثنية بقوة يده فجعل الأوثان جذاذاً ، ثم أقام لتخليد ذكر الله وتوحيده ذلك الهيكل العظيم ليعلم كل أحد يأتي أن سبب بنائه إبطال عبادة الأوثان ، وقد مضت على هذا البيت العصور فصارت رؤيته مذكرة بالله تعالى ، ففيه مزية الأولية ، ثم فيه مزية مباشرة إبراهيم عليه السلام بناءه بيده ويد ابنه إسماعيل دون معونة أحد ، فهو لهذا المعنى أعرق في الدلالة على التوحيد وعلى الرسالة معاً وهما قطبا إيمان المؤمنين وفي هذه الصفة لا يشاركه غيره .

ثم سَن الحج إليه لتجديد هذه الذكرى ولتعميمها في الأمم الأخرى ، فلا جرم أن يكون أولى الموجودات بالاستقبال لمن يريد استحضار جلال الربوبية الحقة وما بنيت بيوت الله مثل المسجد الأقصى إلاّ بعده بقرون طويلة ، فكان هو قبلة المسلمين .

قدمنا آنفاً أن شرط استقبال جهة معينة لم يكن من أحكام الشرائع السالفة وكيف يكون كذلك والمسجد الأقصى بني بعد موسى بما يزيد على أربعمائة سنة وغاية ما كان من استقباله بعد دعوة سليمان أنه استقبال لأجل تحقق قبول الدعاء والصلاة لا لكونه شرطاً ، ثم إن اختيار ذلك الهيكل للاستقبال وإن كان دعوة فهي دعوة نبيء لا تكون إلاّ عن إلهام إلهي فلعل حكمة ذلك حينئذٍ أن الله أراد تعمير البلد المقدس كما وعد إبراهيم ووعد موسى فأراد زيادة تغلغل قلوب الإسرائيليين في التعلق به فبين لهم استقبال الهيكل الإيماني الذي أقامه فيه نبيه سليمان ليكون ذلك المعبد مما يدعو نفوسهم إلى الحرص على بقاء الأقطار بأيديهم .

ويجوز أن يكون قد شرع الله لهم الاستقبال بعد ذلك على ألسنة الأنبياء بعد سليمان وفيه بعد لأن أنبياءهم لم يأتوا بزيادة على شريعة موسى وإنما أتوا معززين ، فتشريعه الله تعالى استقبال المسلمين في صلاتهم لجهة معينة تكميل لمعنى الخشوع في صلاة الإسلام فيكون من التكملات التي ادخرها الله تعالى لهذه الشريعة لتكون تكملة الدين تشريفاً لصاحبها ولأمته إن كان الاحتمال الأول ، فإن كان الثاني فالأمر لنا بالاستقبال لئلا تكون صلاتنا أضعف استحضاراً لجلال الله تعالى من صلاة غيرنا .

ولذلك اتفق علماؤنا على أن الاستقبال لجهة معينة كان مقارناً لمشروعية الصلاة في الإسلام فإن كان استقباله جهة الكعبة عن اجتهاد من النبي فعلَّته أنه المسجد الذي عظمه أهل الكتابين والذي لم يداخله إشراك ولا نصبت فيه أصنام فكان ذلك أقرب دليل لاستقبال جهته ممن يريد استحضار وحدانية الله تعالى ، وإن كان استقبال بيت المقدس بوحي من الله تعالى فلعل حكمته تأليف قلوب أهل الكتابين وليظهر بعد ذلك للنبيء وللمسلمين من اتبعهم من أهل الكتاب حقاً ومن اتبعهم نفاقاً لأن الأخيرين قد يتبعون الإسلام ظاهراً ويستقبلون في صلاتهم قبلتهم القديمة فلا يرون حرجاً على أنفسهم في ذلك فإذا تغيرت القبلة خافوا من قصدهم لاستدبارها فأظهروا ما كانوا مستبطنيه من الكفر كما أشار له قوله تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول } [ البقرة : 142 ] الآية .

ولعل العدول عن الأمر باستقبال الكعبة في صدر الإسلام كان لخضد شوكة مكابرة قريش وطعنهم في الإسلام فإنه لو استقبل مكة لشمخوا بأنوفهم وقالوا هذا بلدنا ونحن أهله واستقباله حنين إليه وندامة على الهجرة منه ، كما قد يكون قوله تعالى : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } [ البقرة : 114 ] وقوله : { ولله المشرق والمغرب } [ البقرة : 115 ] إيماء إليه كما قدمناه ، وعليه ففي تحويل القبلة إلى الكعبة بعد ذلك بشارة للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن أمر قريش قد أشرف على الزوال وأن وقعة بدر ستكون الفيصل بين المسلمين وبينهم ، ثم أمر الله بتحويل القبلة إلى البيت الذي هو أولى بذلك وإلى جهته للبعيد عنه .

اعتراض بين جملة : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } وجملة { ومن حيث خرجت فول وجهك } [ البقرة : 149 ] الآية . والأظهر أن المراد بالذين أوتوا الكتاب أحبار اليهود وأحبار النصارى كما روى عن السُّدِّي كما يشعر به التعبير عنهم بصلة : { أوتوا الكتاب } دونَ أن يقال وإنَّ أهل الكتاب . ومعنى كونهم يعلمون أنه الحق أن عِلْمهم بصدق محمد صلى الله عليه وسلم حسب البشارة به في كتبهم يتضمن أن ما جاء به حق . والأظهر أيضاً أن المراد بالذين أوتوا الكتاب هم الذين لم يزالوا على الكفر ليظهر موقع قوله : { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } فإن الإخبار عنهم بأنهم يعلمون أنه الحق مع تأكيده بمؤكِّدَين ، يقتضي أن ظاهر حالهم إذ أنكروا استقبال الكعبة أنهم أنكروه لاعتقادهم بطلانه وأن المسلمين يظنونهم معتقدين ذلك ، وليظهر موقع قوله { وما الله بغافل عما يعلمون } الذي هو تهديد بالوعيد .

وقد دل التعريف في قوله : { أنه الحق } على القصر أي يعلمون أن الاستقبال للكعبة هو الحق دون غيره تبعاً للعلم بنسخ شريعتهم بشريعة الإسلام ، وقيل إنهم كانوا يجدون في كتبهم أن قبلتهم ستبطل ولعل هذا مأخوذ من إنذارات أنبيائهم مثل أرميا وأشعيا المنادية بخراب بيت المقدس فإن استقباله يصير استقبال الشيء المعدوم .

وقوله : { وما الله بغافل عما يعملون } قرأه الجمهور بياء الغيبة والضميرُ للذين أوتوا الكتاب أي عن عملهم بغير ما علموا فالمراد بما يعملون هذا العملُ ونحوه من المكابرة والعناد والسفه . وهذا الخبر كناية عن الوعيد بجزائهم عن سوء صنعهم لأن قول القادر ما أنا بغافل عن المجرم تحقيق لعقابه إذ لا يحول بين القادر وبين الجزاء إلاّ عدم العلم فلذلك كان وعيداً لهم ووعيدُهم يستلزم في المقام الخطابي وَعْداً للمسلمين لدلالته على عظيم منزلتهم فإن الوعيد إنما ترتب على مخالفتهم للمؤمنين فلا جرم أن سيلزم جزاء للمؤمنين على امتثال تغيير القبلة ، ولأن الذي لا يغفل عن عمل أولئك لا يَغفل عن عمل هؤلاء فيجازي كلاً بما يستحق .

وقَرأه ابنُ عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر ورَوْح عن يعقوب بتاء الخطاب فهو كناية عن وعد للمسلمين على الامتثال لاستقبال الكعبة . ويستلزم وعيداً للكافرين على عكس ما تقتضيه القراءة السابقة ؛ وعلى القراءتين فهو تذييل إجمالي لِيأخُذ كلٌّ حظهُ منه وهو اعتراض بين جملة : { وإن الذين أوتوا } وجملة : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب } [ البقرة : 145 ] الآية .

وفي قوله : { ليعلمون } وقوله : { عما يعملون } [ البقرة : 96 ] الجناس التام المُحَرَّف على قراءة الجمهور والجناسُ الناقص المضارع على قراءة ابن عامر ومن وافقه .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ} (144)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{قد نرى تقلب وجهك في السماء}: نرى أنك تديم نظرك إلى السماء.

{فلنولينك}: لنحولنك إلى {قبلة ترضاها}، لأن الكعبة كانت أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المقدس.

{فول}: فحول {وجهك شطر}: تلقاء {المسجد الحرام}.

{وحيث ما كنتم}: من الأرض، {فولوا وجوهكم شطره}: فحولوا وجوهكم في الصلاة تلقاءه.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في مسجد بني سلمة، فصلى ركعة، ثم حولت القبلة إلى الكعبة، وفرض الله صيام رمضان، وتحويل القبلة، والصلاة إلى الكعبة قبل بدر بشهرين...

{وإن الذين أوتوا الكتاب}: أهل التوراة، وهم اليهود، [قالوا]: يا محمد، ما أمرت بهذا الأمر، وما هذا إلا شيء ابتدعته، يعني في أمر القبلة، فأنزل الله عز وجل: {وإن الذين أوتوا الكتاب}، يعني أهل التوراة، {ليعلمون أنه الحق من ربهم}: بأن القبلة هي الكعبة، فأوعدهم الله، فقال:

{وما الله بغافل عما يعملون}: عما يعملون من كفرهم بالقبلة...

تفسير الشافعي 204 هـ :

في قوله: {وَإِنَّ اَلذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} يقال: يجدون في ما نزل عليهم أن النبي الأمي من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام يخرج من الحرم، وتعود قبلته وصلاته مَخْرَجَهُ، يعني الحرم.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قد نرى يا محمد نحن تقلب وجهك في السماء. ويعني بالتقلب: التحوّل والتصرّف. ويعني بقوله:"في السّماء" نحو السماء وقِبَلها.

وإنما قيل له ذلك صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا، لأنه كان قبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة يرفع بصره إلى السماء ينتظر من الله جل ثناؤه أمره بالتحويل نحو الكعبة.

ثم اختلف في السبب الذي من أجله كان صلى الله عليه وسلم يهوى قبلة الكعبة.

قال بعضهم: كره قبلة بيت المقدس، من أجل أن اليهود قالوا: يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا... فكان يدعو الله جل ثناؤه، ويستفرض للقبلة، فنزلت: "قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ "وانقطع قول يهود: يخالفنا ويتبع قبلتنا في صلاة الظهر، فجعل الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال.

وقال آخرون: بل كان يَهْوَى ذلك من أجل أنه كان قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام. "فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا": فلنصرفنك عن بيت المقدس إلى قبلة ترضاها: تهواها وتحبها.

"فَوَلّ وَجْهَكَ": يعني اصرف وجهك وحوّله. وقوله: "شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ" يعني بالشطر: النحو والقصد والتلقاء.

ثم اختلفوا في المكان الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يولي وجهه إليه من المسجد الحرام.

فقال بعضهم: القبلة التي حوّل إليها النبي صلى الله عليه وسلم وعناها الله تعالى ذكره بقوله: فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا حيال ميزاب الكعبة.

وقال آخرون: بل ذلك البيت كله قبلة، وقبلة البيت الباب.

والصواب من القول في ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ فالمولّي وجهه شطر المسجد الحرام هو المصيب القبلة. وإنما على من توجه إليه النية بقلبه أنه إليه متوجه، كما أن على من ائتمّ بإمام فإنما عليه الائتمام به وإن لم يكن محاذيا بدنه بدنه، وإن كان في طرف الصف والإمام في طرف آخر عن يمينه أو عن يساره، بعد أن يكون من خلفه مؤتما به مصليا إلى الوجه الذي يصلي إليه الإمام. فكذلك حكم القبلة، وإن لم يكن يحاذيها كل مصلّ ومتوجه إليها ببدنه غير أنه متوجه إليها، فإن كان عن يمينها أو عن يسارها مقابلها فهو مستقبلها بعد ما بينه وبينها، أو قرب من عن يمينها أو عن يسارها بعد أن يكون غير مستدبرها ولا منحرف عنها ببدنه ووجهه... عن عليّ: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ قال: شطره قِبَله.

وقبلة البيت: بابه، كما حدثني يعقوب بن إبراهيم، والفضل بن الصباح، قالا: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك، عن عطاء قال: قال أسامة بن زيد: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من البيت أقبل بوجهه إلى الباب فقال: «هَذِهِ القِبْلَةُ، هَذِهِ القِبْلَةُ».

فأخبر صلى الله عليه وسلم أن البيت هو القبلة، وأن قبلة البيت بابه.

"وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ": فأينما كنتم من الأرض أيها المؤمنون فحوّلوا وجوهكم في صلاتكم نحو المسجد الحرام وتلقاءه. والهاء التي في «شطره» عائدة إلى المسجد الحرام.

فأوجب جلّ ثناؤه بهذه الآية على المؤمنين فرض التوجه نحو المسجد الحرام في صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبارك وتعالى. وأدخلت الفاء في قوله: فَوَلّوا جوابا للجزاء، وذلك أن قوله: حَيْثُمَا كُنْتُمْ جزاء، ومعناه: حيثما تكونوا فولّوا وجوهكم شطره.

"وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ": وإن الذين أوتوا الكتاب أحبار اليهود وعلماء النصارى. وقد قيل إنما عنى بذلك اليهود خاصة... يعني هؤلاء الأحبار والعلماء من أهل الكتاب، يعلمون أن التوجه نحو المسجد الحقّ الذي فرضه الله عزّ وجلّ على إبراهيم وذرّيته وسائر عباده بعده.

"مِنْ رَبّهِمْ": أنه الفرض الواجب على عباد الله تعالى ذكره، وهو الحقّ من عند ربهم فرضه عليهم.

"وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ": وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون في اتباعكم أمره وانتهائكم إلى طاعته فيما ألزمكم من فرائضه وإيمانكم به في صلاتكم نحو بيت المقدس ثم صلاتكم من بعد ذلك شطر المسجد الحرام، ولا هو ساهٍ عنه، ولكنه جل ثناؤه يحصيه لكم ويدّخره لكم عنده حتى يجازيكم به أحسن جزاء، ويثيبكم عليه أفضل ثواب.

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

{وما الله بغافل عما تعملون}. قرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء، قال ابن عباس يريد أنكم يا معشر المؤمنين تطلبون مرضاتي وما أنا بغافل عن ثوابكم وجزائكم. وقرأ الباقون بالياء يعني ما أنا بغافل عما يفعل اليهود، فأجازيهم في الدنيا والآخرة...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{قَدْ نرى}: ومعناه: كثرة الرؤية.

{تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} تردّد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقع من ربه أن يحوّله إلى الكعبة؛ لأنها قبلة أبيه إبراهيم، وأدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم، ولمخالفة اليهود. فكان يراعي نزول جبريل عليه السلام والوحي بالتحويل {فَلَنُوَلّيَنَّكَ} فلنعطينّك ولنمكننك من استقبالها، من قولك: وليته كذا. إذا جعلته والياً له، أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس {تَرْضَاهَا} تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله وحكمته {شَطْرَ المسجد الحرام} نحوه.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

المسألة الثانية: قوله {ترضاها} فيه وجوه.

(أحدها): ترضاها تحبها وتميل إليها، لأن الكعبة كانت أحب إليه من غيرها بحسب ميل الطبع... فكان طبعه يميل إلى الصلاة مع أن المصلحة كانت موافقة لذلك.

(وثانيها): {قبلة ترضاها} أي تحبها بسبب اشتمالها على المصالح الدينية.

(وثالثها) قال الأصم: أي كل جهة وجهك الله إليها فهي لك رضا لا يجوز أن تسخط، كما فعل من انقلب على عقيبه من العرب الذين كانوا قد أسلموا، فلما تحولت القبلة ارتدوا.

(ورابعها): {ترضاها} أي ترضى عاقبتها لأنك تعرف بها من يتبعك للإسلام، فمن يتبعك لغير ذلك من دنيا يصيبها أو مال يكتسبه.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما بشره سبحانه بالتحويل أولاً وأوقع المبشر به ثانياً أشار إلى بشارة ثالثة بتكثير أمته ونشرهم في أقطار الأرض فجمعهم إليه في قوله: {وحيث ما كنتم} أي من جهات الأرض التي أورثكم إياها {فولوا وجوهكم شطره} بتوجيه قلوبكم إليّ...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

قالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتشوف لتحويل القبلة من بيت المقدس ويرجوه بل قال (الجلال) إنه كان ينتظره، لأن الكعبة قبلة أبيه إبراهيم والتوجه إليها أدعى إلى إيمان العرب أي وعلى العرب المعول في ظهور هذا الدين العام، لأنهم كانوا أكمل استعدادا له من جميع الأنام.

قال (الأستاذ الإمام): ولا بعد في تشوفه على قبلة إبراهيم، وقد جاء بإحياء ملته، وتجديد دعوته، ولا يعد هذا من الرغبة عن أمر الله تعالى إلى هوى نفسه. كلا إن هوى الأنبياء لا يعدو أمر الله تعالى وموافقة رضوانه. ولو كان لأحد منهم هوى ورغبة في أمر الله تعالى به ورضيه، بل المقام أدق، والسر أخفى، إن روح النبي منطوية على الدين في جملته من قبل أن ينزل عليه الوحي بتفصيل مسائله، فهي تشعر بصفائها وإشراقها بحاجة الأمة التي بعث فيها شعورا إجماليا كليا لا يكاد يتجلى في جزئيات المسائل وآحاد الأحكام إلا عند شدة الحاجة إليها، والاستعداد لتشريعها، عند ذلك يتوجه قلب النبي إلى ربه طالبا بلسان استعداده بيان ما يشعر به مجملا، وإيضاح ما يلوح له مبهما، فينزل الروح الأمين على قلبه، ويخطبه بلسان قومه عن ربه. وهكذا الوحي إمداد، في موطن استعداد، لا كسب فيه للعباد. وإذا كان حكم شرع لسبب مؤقت، وزمن في علم الله معين، فإن روح النبي تشعر بذلك في الجملة. فإذا تم الميقات، وأزف وقت الرقي إلى ما هو آت، وجدت من الشعور بالحاجة إلى النسخ ما يوجهها إلى الشارع العليم، والديان الحكيم، كما كان يتقلب وجه نبينا في السماء تشوفا إلى تحويل القبلة فذلك قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} أي أننا نرى تقلب وجهك أيها الرسول وتردده المرة بعد المرة في السماء، مصدر الوحي وقبلة الدعاء، انتظارا لما ترجوه من نزول الأمر بتحويل القبلة.

فسر بعضهم تقلب الوجه بالدعاء، وحقيقة الدعاء هي شعور القلب بالحاجة إلى عناية الله تعالى فيما يطلب، وصدق التوجيه إليه فيما يرغب، ولا يتوقف على تحريك اللسان بالألفاظ، فإن الله ينظر إلى القلوب وما أسرت فإن وافقتها الألسنة فهي تبع لها، وإلا كان الدعاء لغوا يبغضه الله تعالى، فالدعاء الديني لا يتحقق إلا بإحساس الداعي بالحاجة إلى عناية الله تعالى، وعن هذا الإحساس يعبر اللسان بالضراعة والابتهال، فهذا التفسير ليس بأجنبي من سابقه. فتقلب الوجه في السماء عبارة عن التوجه إلى الله تعالى انتظارا لما كانت تشعر به روح النبي صلى الله عليه وسلم وترجوه من نزول الوحي بتحويل القبلة. ولا تدل الآية على أنه كان يدعو بلسانه طالبا هذا التحويل ولا تنفي ذلك.

وقال بعض المحققين: من كمال أدبه صلى الله عليه وسلم أنه انتظر ولم يسأل. وهذا التوجه هو الذي يحبه الله تعالى ويهدي قلب صاحبه إلى ما يرجوه ويطلبه لذلك قال عز وجل: {فلنولينك قبلة ترضاها} أي فلنجعلنك متوليا قبلة تحبها وترضاها، وقرن الوعد بالأمر فقال {فول وجهك شطر المسجد الحرام} تولية الوجه المكان أو الشيء هي جعله قبالته وأمامه، والتوالي عند جعله وراءه. والشطر في الأصل القسم المنفصل من الشيء تقول جعله شطرين ومنه شطر البيت من الشعر وهو المصرع منه، وكذا المتصل كشطري الناقة وأشطرها وهي أخلافها: شطران أماميان وشطران خلفيان. ويطلق على النحو والجهة وهو المراد هنا، فالواجب استقبال جهة الكعبة في حال البعد وعدم رؤيتها، ولا يجب استقبال عينها إلا على من يراها بعينه، أو يلمسها بيده أو بدنه. فإن صح إطلاق الشطر على عين الشيء في اللغة فلا يصح أن يراد هنا لما فيه من الحرج الشديد لاسيما على الأمة الأمية.

ثم أمر بذلك المؤمنين عامة فقال {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} أي وفي أي مكان كنتم فاستقبلوا جهته بوجوهكم في صلاتكم، وهذا يقتضي أن يصلي المسلمون في بقاع الأرض إلى جميع الجهات لا كالنصارى الذين يلتزمون جهة المشرق، ويقتضي أن يعرفوا موقع البيت الحرام وجهته حيثما كانوا ولذلك وضعوا علم سمت القبلة وتقويم البلدان (الجغرافية الفلكية والأرضية).

وقد عهد من أسلوب القرآن أن يكون الأمر يؤمر به النبي ولا يذكر أنه خاص به أمرا له وللمؤمنين به، فإذا أريد التخصيص جيء بما يدل عليه كقوله تعالى: {ومن الليل فتجهد به نافلة لك} (الإسراء: 79) وقوله: {خالصة لك من دون المؤمنين} (الأحزاب: 50). وإنما أمر الله المؤمنين في هذه الآية بما أمر به النبي فيها نصا صريحا للتأكيد الذي اقتضته الحال في حادثة القبلة، فإنها كانت حادثة كبيرة استتبعت فتنة عظيمة، فأراد الله أن يعلم المؤمنين بعنايته بها ويقررها في أنفسهم، فأكد الأمر بها وشرفهم بالخطاب مع خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام لتشتد قلوبهم وتطمئن نفوسهم، ويتلقوا تلك الفتنة التي أثارها المنافقون والكافرون بالحزم والثبات على الإتباع ولئلا يتوهم من سابق الكلام أنه خاص به عليه الصلاة والسلام.

بعد هذا عاد إلى بيان حال السفهاء مثيري الفتنة في مسألة تحويل القبلة فقال {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم} أي أن تولي المسجد الحرام هو الحق المنزل من الله على نبيه. وجمهور المفسرين على أن أكثر أولئك الفاتنين كانوا من أهل الكتاب المقيمين في الحجاز، ولولا ذلك لم تكن الفتنة عظيمة لأن كلام المشركين في مسائل الوحي والتشريع قلما يلتفت إليه. وأما أهل الكتاب فقد كانوا معروفين بين العرب بالعلم، ومن كان كذلك فإن عامة الناس تتقبل كلامه ولو نطق بالمحال، لأن الثقة بمظهره، تصد عن تمحيص خبره، فهو في حاله الظاهرة شبهة إذا أنكر، وحجة إذا اعترف، ولأن الجماهير من الناس قد اعتادوا تقليد مثله من غير بحث ولا دليل.

وقد جرى أصحاب المظاهر العلمية والدينية على الانتفاع بغرور الناس بهم، فصار الغرض لهم من أقوالهم التأثير في نفوس الناس، فهم يقولون ما لا يعتقدون لأجل ذلك، ويسندون ما يقولون إلى كتبهم كذبا صريحا أو تأويلا بعيدا، كما كان أحبار اليهود يطعنون في النبي عليه الصلاة والسلام وما جاء به، ويذكرون للناس أقوالهم على أنها كتبهم وما هي من كتبهم، إن يريدون إلا خداعا، وقد كذب الله هؤلاء الخادعين، وبين أنهم يقولون غير ما يعتقدون، كأنه يقول: إن هؤلاء قد قام عندهم الدليل على ما سبقت به بشارة أنبيائهم من صحة نبوة الرسول ويعلمون أن أمر القبلة كغيرها من أمور الدين ما جاء به الوحي عن الله تعالى وأنه الحق لا محيص عنه، لا مكان معين بذاته لذاته، {وما الله بغفل عما تعلمون} فهو المطلع على الظواهر والضمائر، الحسيب على ما في السرائر، الرقيب على الأعمال، فيخبر نبيه بما شاء أن يخبره وإليه المرجع والمصير وعليه الحساب والجزاء.

سبق القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على هداية أهل الكتاب راجيا بإيمانهم ما لا يرجوه من إيمان المشركين، فبمقدار حرصه ورجائه كان يحزنه عروض الشبه لهم في الدين، ويتمنى لو أعطي من الآيات والدليل ما يمحو كل شبهة لهم، فلما كانت فتنة تحويل القبلة بمخادعتهم الناس أخبره الله تعالى بأنهم غير مشتبهين في الحق فتزال شبهتهم، وإنما هم قوم معاندون جاحدون على علم، ثم أعلمه بأن الآيات لا تؤثر في المعاند ولا ترجع الجاحد عن غيه.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

ففيها اشتراط استقبال الكعبة، للصلوات كلها، فرضها، ونفلها، وأنه إن أمكن استقبال عينها، وإلا فيكفي شطرها وجهتها، وأن الالتفات بالبدن، مبطل للصلاة، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، ولما ذكر تعالى فيما تقدم، المعترضين على ذلك من أهل الكتاب وغيرهم، وذكر جوابهم، ذكر هنا، أن أهل الكتاب والعلم منهم، يعلمون أنك في ذلك على حق وأمر، لما يجدونه في كتبهم، فيعترضون عنادا وبغيا، فإذا كانوا يعلمون بخطئهم فلا تبالوا بذلك، فإن الإنسان إنما يغمه اعتراض من اعترض عليه، إذا كان الأمر مشتبها، وكان ممكنا أن يكون معه صواب

فأما إذا تيقن أن الصواب والحق مع المعترض عليه، وأن المعترض معاند، عارف ببطلان قوله، فإنه لا محل للمبالاة، بل ينتظر بالمعترض العقوبة الدنيوية والأخروية، فلهذا قال تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} بل يحفظ عليهم أعمالهم، ويجازيهم عليها، وفيها وعيد للمعترضين، وتسلية للمؤمنين.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره)..

من كل اتجاه، في أنحاء الأرض جميعا.. قبلة واحدة تجمع هذه الأمة وتوحد بينها على اختلاف مواطنها، واختلاف مواقعها من هذه القبلة، واختلاف أجناسها وألسنتها وألوانها.. قبلة واحدة، تتجه إليها الأمة الواحدة في مشارق الأرض ومغاربها. فتحس أنها جسم واحد، وكيان واحد، تتجه إلى هدف واحد، وتسعى لتحقيق منهج واحد. منهج ينبثق من كونها جميعا تعبد إلها واحدا، وتؤمن برسول واحد، وتتجه إلى قبلة واحدة.

وهكذا وحد الله هذه الأمة. وحدها في إلهها ورسولها ودينها وقبلتها. وحدها على اختلاف المواطن والأجناس والألوان واللغات. ولم يجعل وحدتها تقوم على قاعدة من هذه القواعد كلها؛ ولكن تقوم على عقيدتها وقبلتها؛ ولو تفرقت في مواطنها وأجناسها وألوانها ولغاتها.. إنها الوحدة التي تليق ببني الإنسان؛ فالإنسان يجتمع على عقيدة القلب، وقبلة العبادة، إذا تجمع الحيوان على المرعى والكلأ والسياج والحظيرة!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

فالقبلة هنا اسم للمكان الذي يستقبله المصلى وهو إما مشتق من اسم الهيئة وإما من اسم المفعول كما تقدم.

والمسجد الحرام المسجد المعهود عند المسلمين والحرام المجعول وصفاً للمسجد هو الممنوع. أي الممنوع منع تعظيم وحرمة فإن مادة التحريم تؤذن بتجنب الشيء فيفهم التجنب في كل مقام بما يناسبه. وقد اشتهر عند العرب وصف مكة بالبلد الحرام أي الممنوع عن الجبابرة والظلمة والمعتدين ووصف بالمحرم في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: {عند بيتك الحرام} [إبراهيم: 37]، أي المعظم المحترم وسمي الحرم قال تعالى: {أولم نمكن لهم حرماً أمناً} [القصص: 57] فوصف الكعبة بالبيت الحرام وحرم مكة بالحرم أوصاف قديمة شائعة عند العرب فأما اسم المسجد الحرام فهو من الألقاب القرآنية جعل علماً على حريم الكعبة المحيط بها وهو محل الطواف والاعتكاف ولم يكن يعرف بالمسجد في زمن الجاهلية إذ لم تكن لهم صلاة ذات سجود والمسجد مكان السجود فاسم المسجد الحرام علم بالغلبة على المساحة المحصورة المحيطة بالكعبة ولها أبواب منها باب الصفا وباب بني شيبة ولما أطلق هذا العلم على ما أحاط بالكعبة لم يتردد الناس من المسلمين وغيرهم في المراد منه فالمسجد الحرام من الأسماء الإسلامية قبل الهجرة وقد ورد ذكره في سورة الإسراء وهي مكية.

والجمهور على أن المراد بالمسجد الحرام هنا الكعبة لاستفاضة الأخبار الصحيحة بأن القبلة صرفت إلى الكعبة وأن رسول الله أمر أن يستقبل الكعبة وأنه صلى إلى الكعبة يوم الفتح وقال هذه القبلة، قال ابن العربي « وَذَكَرَ المسجد الحرام والمراد به البيت لأن العرب تعبر عن البيت بما يجاوره أو بما يشتمل عليه» وعن ابن عباس البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب. قال الفخر وهذا قول مالك، وأقول لا يعرف هذا عن مالك في كتب مذهبه.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

الحق سبحانه وتعالى يعطينا صورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. أنه يحب ويشتاق أن يتجه إلى الكعبة بدلا من بيت المقدس.. وكان عليه الصلاة والسلام قد اعتاد أن يأتيه الوحي من علو.. فكأنه صلى الله عليه وسلم كان يتجه ببصره إلى السماء مكان إيتاء الوحي.. ولا يأتي ذلك إلا إذا كان قلبه متعلقا بأن يأتيه الوحي بتغيير القبلة.. فكأن هذا أمر شغله.

إن الله سبحانه يحيط رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه قد رأى تقلب وجه رسوله الكريم في السماء وأجابه ليتجه إلى القبلة التي يرضاها.. فهل معنى ذلك أن القبلة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي بيت المقدس لم يكن راضيا عنها؟ نقول لا.. وإنما الرضا دائما يتعلق بالعاطفة، وهناك فرق بين حب العاطفة وحب العقل.. ولذلك لا يقول أحد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن راضيا عن قبلة بيت المقدس.. وإنما كان يتجه إلى بيت المقدس وفي قلبه عاطفة تتجه إلى الكعبة.. هذا يدل على الطاعة والالتزام.

الله يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام:"فلنولينك قبلة ترضاها" أي تحبها بعاطفتك.. ورسول الله عليه الصلاة والسلام كان يتطلع إلى هذا التغيير، فكأن عواطفه صلى الله عليه وسلم اتجهت لتضع مقدمات التحويل.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

...

.

خطاب عام:

كل خطابات القرآن هي دون شك شاملة لكل المسلمين وإن اتجهت إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (اللهم إلاّ في مواضع دل الدليل على أنّها خاصّة بالنّبي)، من هنا يطرح سؤال بشأن سبب اتّجاه الآية الّتي نحن بصددها في الخطاب إلى النّبي تارة تأمره أن يصلي شطر المسجد الحرام، وتارة أخرى إلى عامة المسلمين.

هذا التكرار قد يعود إلى أنّ تغيير القبلة مسألة مثيرة حساسة، ومن الممكن أن تؤدي الضجة التي تثيرها هذه المسألة إلى اضطراب بين المسلمين، وقد يتذرع بعض في وسط هذه الضجة بأن الخطاب «فولّ وجهك» موجه إلى النّبي خاصة، فلا يصلي تجاه الكعبة. لذلك خاطبت الآية الرّسول مرة وعامة المسلمين مرّة أخرى لتؤكد أن هذا التغيير غير خاص بالرّسول، بل يشمل عامّة المسلمين أيضاً.

هل الهدف من هذا التغيير تحقيق رضى النّبي؟

عبارة «قِبْلَةً تَرْضَاهَا» قد توهم أن هذا التغيير تم إرضاءً للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويزول هذا التوهم لو علمنا أن بيت المقدس كان قبلة مؤقتة، وأن النّبي كان ينتظر القبلة النهائية، وبصدور أمر التغيير وضع حد لطعن اليهود من جهة، وتوفرت أرضية استمالة أهل الحجاز المرتبطين ارتباطاً خاصاً بالكعبة نحو الإِسلام من جهة أخرى، كما أن إعلان بيت المقدس كقبلة أولى أزال عن الإسلام الطابع القومي، وأسقط إعتبار الأصنام المتواجدة في الكعبة.

الكعبة مركز دائرة كبرى:

لو نظر شخص من خارج الكرة الأرضية إلى المصلين المسلمين لرأى دوائر متعددّة بعضها داخل بعض وتضيق بالتدريج لتصل إلى المركز الأصلي المتمثل بالكعبة. وهذه الصورة توضح محورية ومركزية بيت الله الحرام. وهذه ظاهرة متميزة في الإسلام دون سواه من الأديان.

جدير بالذكر أن ضرورة اتجاه المسلمين شطر المسجد الحرام كان باعثاً على تطور علم الهيئة وعلم الجغرافيا والفلك عند المسلمين بسرعة مدهشة خلال العصور الإسلامية الأولى، لأن معرفة جهة القبلة في مختلف بقاع الأرض ما كانت متيسّرة من دون معرفة بهذه العلوم.