/قوله( {[4565]} ) : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ) [ 143 ] .
إلى قوله : ( وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) [ 145 ] .
أي : قد نرى يا محمد تصرف نظرك( {[4566]} ) نحو السماء .
روي أنه صلى الله عليه وسلم كان قبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة يرفع بصره إلى السماء ينتظر من الله الأمر بالتحويل إلى الكعبة( {[4567]} ) .
وقال قتادة : " كان النبي [ صلى الله عليه وسلم( {[4568]} ) ] يقلّب وجهه إلى السماء ، يحب أن يصرفه الله( {[4569]} ) تعالى إلى الكعبة حتى صرفه( {[4570]} ) الله عز وجل إليها( {[4571]} ) " .
وهذا يدل على أنه لم يصلِّ إلى بيت المقدس إلا بوحي ، فكان ينتظر متى يؤمر بترك ما أمر به . ولو كان إنما صلّى إلى بيت المقدس( {[4572]} ) باختياره لم ينتظر الأمر فيه ، ولرجع إلى الكعبة باختياره أيضاً . وقد قال تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى ) [ النجم : 3 ] . فكيف يأمرهم بالصلاة إلى بيت المقدس من عند نفسه . هذا بعيد .
وقال بعض العلماء : " إنما أحب النبي [ عليه السلام ] ( {[4573]} ) أن( {[4574]} ) يُرَدَّ إلى الكعبة لأن اليهود كانوا( {[4575]} ) يقولون : يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا ! /فلما ردّه الله إلى الكعبة انقطع قول اليهود " ( {[4576]} ) .
وقال ابن زيد : " قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) فقال النبي [ عليه السلام ]( {[4577]} ) " هَؤُلاَءِ قَوْمٌ يَهُودٌ يَسْتَقْبلُونَ( {[4578]} ) بَيْتاً مِنْ بُيُوتِ الله عز وجل ، فَلَوْ أَنَّا اسْتَقْبَلْنَاهَا " فَاسْتَقْبَلَ النبي( {[4579]} ) [ عليه السلام ]( {[4580]} ) معهم بيت المقدس ستة عشر شهراً ، فبلغه أن اليهود تقول : واللها درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم . فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ورفع وجهه إلى السماء . فأنزل الله عليه( {[4581]} ) ( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ )( {[4582]} ) الآية( {[4583]} ) " .
فهذا يدل على أنه استقبل بيت المقدس من غير أمر أتاه من عند الله( {[4584]} ) ، وأنه( {[4585]} ) إنما( {[4586]} ) أتاه من الله الإباحة باستقبال أي موضع شاء . ثم نسخ فعله لأنه كان صلى الله عليه وسلم يتبع آثار الأنبياء صلى الله عليهم( {[4587]} ) وسلم ، فلذلك صلّى نحو بيت المقدسع( {[4588]} ) ما طمع به من استمالة اليهود أن يؤمنوا به .
وقال ابن عباس : " كان النبي عليه السلام لما هاجر( {[4589]} ) إلى المدينة –وكان أكثر أهلها اليهود- أمره الله [ جلَّ وعزَّ ]( {[4590]} ) أن يستقبل المقدس ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة أبيه إبراهيم( {[4591]} ) وكان يدعو وينظر إلى السماء ، فأنزل الله عز وجل : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ) إلى ( صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )( {[4592]} ) . فهذا يدل على أن الله سبحانه( {[4593]} ) أمره باستقبال بيت المقدس ثم نسخها بالكعبة( {[4594]} ) .
وروي أن النبي [ عليه السلام ]( {[4595]} ) كان يصلي بمكة( {[4596]} ) نحو بيت المقدس مع استقباله الكعبة ، فلما هاجر إلى المدينة صلى نحو بيت المقدس( {[4597]} ) أيضاً( {[4598]} )/سبعة( {[4599]} ) عشر شهراً ، ووقع في نفسه الصلاة نحو الكعبة ، فأقبل يقلّب وجهه إلى السماء كيف يستقبل الكعبة . فأتاه جبريل عليه السلام ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " لَوَدِدْتُ يَا جِبْرِيلُ أَنَّ اللَّهَ صَرَفَنِي عَنْ قِبْلَةِ اليَهُودِ إِلَى غَيْرِهَا " ، فقال له جبريل عليه السلام : إنماأنا عبد مثلك ، وأنت كريم على الله ، فادعه وسله( {[4600]} ) ، ثم ارتفع جبريل ، وجعل النبي( {[4601]} ) يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأل ، فأنزل الله جل ذكره : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ ) ( {[4602]} ) الآية( {[4603]} ) .
وقال إبراهيم بن( {[4604]} ) اسحاق : " أول أَمْر( {[4605]} ) الصلاة أنها فرضت ركعتين بمكة في أول النهار ، وركعتين في آخره . فلما كانت ليلة سبع عشرة من شهر ربيع( {[4606]} ) الآخر قبل الهجرة بسنة ، أسري به صلى الله عليه وسلم وفرض عليه خمسون صلاة ، ثم نقصت إلى خمس صلوات( {[4607]} ) ، فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم فأمَّهُ عند البيت ، فأول ما صلّى به الظهر نحو بيت المقدس( {[4608]} ) مع استقبال الكعبة . ثم قدم المدينة في شهر ربيع الأول( {[4609]} ) ، فصلى إلى بيت المقدس( {[4610]} ) تمام سنة إحدى عشرة( {[4611]} ) وصلى من سنة اثنتين( {[4612]} ) ستة أشهر ثم حوّلت القبلة في رجب( {[4613]} ) .
وروى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن( {[4614]} ) كعب بن مالك( {[4615]} ) أن القبلة صرفت في جمادى .
وقال الواقدي( {[4616]} ) : " في النصف من شعبان صرفت " . فوقع الاختلاف على مقدار اختلافهم في عدة الأشهر التي صلى في المدينة إلى بيت المقدس .
وقيل( {[4617]} ) : إنما نسخ الله باستقبال الكعبة( {[4618]} ) قوله : ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ )( {[4619]} ) . فأباح له أن يستقبل إلى أي ناحية شاء . ثم نسخ ذلك بقوله : ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ )( {[4620]} ) .
وقال ابن عباس : " أول ما نسخ من القرآن شأن( {[4621]} ) القبلة " ( {[4622]} ) .
قال الله( {[4623]} ) عز وجل لنبيه : ( وَلِلهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) . فصلى نبيه عليه السلام نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق ثم صرفه( {[4624]} ) الله( {[4625]} ) إلى البيت العتيق فقال( {[4626]} ) : ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ )/ .
ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن( {[4627]} ) دينار( {[4628]} ) عن ابن عمر أنه قال : " بينا( {[4629]} ) الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم/إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة " ( {[4630]} ) .
وحدث مالك عن ابن المسيب أنه كان يقول : " صلى النبي( {[4631]} ) صلى الله عليه وسلم بعد أن قدم المدينة/ستة( {[4632]} ) عشر( {[4633]} ) شهراً نحو بيت المقدس ، ثم حوّلت القبلة قبل بدر بشهرين " ( {[4634]} ) . وذكر البراء في ذلك كله نحوه( {[4635]} ) .
وقال أنس : " مرّ بهم رجل وهم ركوع نحو بيت المقدس ، فنادى : " ألا( {[4636]} ) إن القبلة قد صرفت إلى الكعبة " . فمالوا كما هم ركوعاً " ( {[4637]} ) .
قال الواقدي : " صرفت/يوم الثلاثاء للنصف من شعبان سنة اثنتين " ( {[4638]} ) .
وقال ابن شعبان : " صرفت إلى الكعبة في رجب " ( {[4639]} ) .
وقال : ( سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التِي كَانُوا عَلَيْهَا ) [ 141 ] .
يعنون بيت المقدس ، فأنزل الله : ( قُل لِلّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَّشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )( {[4640]} ) .
وروى ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " إن الصلاة أول( {[4641]} ) ما فرضت ، إنما فرضت ركعتين( {[4642]} ) ، ثم أتمّ( {[4643]} ) الله صلاة الحضر ، وأُقِرَّت( {[4644]} ) صلاة السفر على حالها " ( {[4645]} ) . قال ابن شهاب : فقلت لعروة : فما حمل عائشة على( {[4646]} ) أن تصلي في السفر أربع ركعات ؟ فقال عروة : تأولت عائشة في ذلك ما تأول عثمان [ بن عفان ]( {[4647]} ) في إتمام الصلاة بمنى " .
قال أبو عبيد : " تأول عثمان في إتمام الصلاة بمنى ثلاثة أوجه : فيقال : إنه اتخذ أهلاً بمكة . ويقال : إنه تأول : إني( {[4648]} ) الخليفة فحيثما( {[4649]} ) كنت فهو عملي . والوجه الثالث : أنه بلغه أن أعرابياً صلّى معه ركعتين فظن أن الفريضة ركعتان فانصرف إلى منزله فلم يزل يصلي ركعتين السنة كلها ، فلما بلغه ذلك أتم الصلاة . /وأما( {[4650]} ) عائشة رضي الله عنها فتأولت أنها أم المؤمنين فحيثما كانت فكأنها مع ولدها مقيمة " .
وروي أن( {[4651]} ) أول من صلى إلى( {[4652]} ) الكعبة من المسلمين بالمدينة( {[4653]} ) البراء بن( {[4654]} ) معرور( {[4655]} ) من بني سلمة ، وذلك أنه كان( {[4656]} ) قد بايع النبي [ عليه السلام ] على( {[4657]} ) العقبة( {[4658]} ) وكان نقيباً ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " إِنِّي رَمَقْتُكَ فَأُحِبُّ( {[4659]} ) أَنْ تَعُودَ إِلَيَّ حَتَّى تُهَاجِرَ مَعِي فَتكُونَ لَكَ مَعَ النَّصْرَةِ هِجْرَةٌ " . فلما توجه إلى المدينة مع السبعين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم( {[4660]} ) من الأنصار على العقبة ، مرض بالمدينة فكان( {[4661]} ) يصلي إلى الكعبة لموعدة( {[4662]} ) النبي صلى الله عليه وسلم . فلما حضرته الوفاة ، قال : اجعلوا مالي ثلاثة أثلاث : ثلثاً لله وثلثاً لرسوله( {[4663]} ) وثلثاً لوليي( {[4664]} ) ، وإذا مت فحوّلوا وجهي نحو محمد صلى الله عليه وسلم لموعدي معه . فكان أول من صلى( {[4665]} ) إلى الكعبة ، وأول من دفن نحوها ، وأول من( {[4666]} ) أوصى بثلثه( {[4667]} ) . فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أخبر بوفاته وبالوصية ، فقال( {[4668]} ) : " أَمَّا ثُلُثِي فَرَدٌّ( {[4669]} ) عَلَى وَلَدِهِ ، وَأَمَّا/[ ثُلُثُ الله ]( {[4670]} ) فَأُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل " . وكان له ابن صالح من خيار( {[4671]} ) النقباء اسمه بشرين( {[4672]} ) البراء( {[4673]} ) ، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم : " هُوَ سَيِّدُ بَنِي سَلَمَة " . وهو الذي أكل من الشاة التي سمّت( {[4674]} ) للنبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك مات يوم خيبر( {[4675]} ) .
/وقوله : ( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ) [ 143 ] : أي : فلنصرفنك إلى قبلة ترضاها( {[4676]} ) وهي الكعبة . ومعنى ترضاها : تهواها وتحبها .
ثم قال : ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ ) [ 143 ] .
قال عبد الله بن( {[4677]} ) عمر : " صرفت( {[4678]} ) قبلته حيال ميزاب الكعبة " . وكان يجلس في المسجد الحرام حيال الميزاب ، فإذا سئل عن ذلك تلا هذه الآية( {[4679]} ) .
وقال( {[4680]} ) ابن عباس : ولّى وجهه نحو [ البيت ]( {[4681]} ) كله( {[4682]} ) " ، وهو قول أكثر العلماء . وقد قال أسامة بن زيد( {[4683]} ) : " رأيت النبي [ عليه السلام ]( {[4684]} ) حين خرج من البيت أقبل بوجهه إلى الباب فقال : هَذِهِ القِبْلَةُ هَذِهِ( {[4685]} ) القِبْلَةُ " ( {[4686]} ) .
وروى عنه( {[4687]} ) صلى الله عليه وسلم أنه( {[4688]} ) صلى ركعتين مستقبلاً باب الكعبة وقال : " هَذِهِ القِبْلَةُ " ، مرتين( {[4689]} ) .
ثم قال : ( وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) [ 143 ] .
أي : وأينما كنتم أيها المؤمنون فولّوا وجوهكم بصلاتكم نحو المسجد الحرام .
فالهاء في " شَطْرِهِ " عائدة( {[4690]} ) على المسجد الحرام .
فأوجب الله بهذه الآية على المؤمنين فرض التوجه نحو المسجد الحرام في صلاتهم حيث ما كانوا من الأرض .
ثم قال تعالى : ( وَإِنَّ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ) [ 143 ] .
أي : وإن أحبار( {[4691]} ) اليهود وعلماء النصارى ليعلمون أن التوجه نحو المسجد الحرام الحق( {[4692]} ) الذي فرض( {[4693]} ) الله( {[4694]} ) على إبراهيم [ عليه السلام ]( {[4695]} ) وذريته وسائر عباده بعده ، فرض ذلك عليهم( {[4696]} ) .
قال قتادة والضحاك : " يعرفون أن القبلة هي الكعبة " ( {[4697]} ) .
قال الضحاك : " كمعرفتهم أبناءهم " .
والهاء في " أنه " تعود( {[4698]} ) على التولية إلى الكعبة ، ودل على التولية قوله : ( فَوَلِّ )( {[4699]} ) .
وعن( {[4700]} ) الكسائي أنه قال : " الهاء تعود على الشطر " .
ثم قال : ( وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) [ 143 ] .
من قرأ بالتاء( {[4701]} ) رده على الخطاب في قوله : ( وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) . ومن قرأه بالياء( {[4702]} ) رده على الإخبار/ عن الذين أوتوا الكتاب لتقدم ذكرهم .