الانقلاب : الانصراف والارتجاع ، وهو للمطاوعة ، قلبته فانقلب .
عقب الرجل : معروف ، والعقب : النسل ، ويقال : عقب ، بسكون القاف .
الرأفة والرحمة : متقاربان في المعنى .
وقيل : الرأفة أشد الرحمة ، واسم الفاعل جاء للمبالغة على فعول ، كضروب ، وجاء على فعل ، كحذر ، وجاء على فعل ، كندس ، وجاء على فعل ، كصعب .
التقلب : التردّد ، وهو للمطاوعة ، قلبته فتقلب .
الشطر : النصف ، والجزء من الشيء والجهة ، قال الشاعر :
ألا من مبلغ عني رسولاً *** وما تغني الرسالة شطر عمرو
أقول لأمّ زنباع أقيمي ***صدور العيس شطر بني تميم
وقد أظلكم من شطر ثغركم *** هول له ظلم يغشاكم قطعا
تعدو بنا شطر نجد وهي عاقدة *** قد كارب العقد من إيقاده الحقبا
إن العشير بها داء مخامرها *** وشطرها نظر العينين مسجور
ويقال : شطر عنه : بعد ، وشطر إليه : أقبل ، والشاطر من الشباب : البعيد من الجيران ، الغائب عن منزله .
يقال : شطر شطوراً ، والشطير : البعيد ، منزل شطير : أي بعيد .
الحرام والحرم والحرم : الممتنع ، وقد تقدّم الكلام في ذلك في قوله : { وهو محرم عليكم إخراجهم }
{ قد نرى تقلب وجهك في السماء } : تقدّم حديث البراء ، وتقدّم ذكر الخلاف في هذه الآية .
وقوله : { سيقول السفهاء } : أيهما نزل قبل ؟ ونرى هنا مضارع بمعنى الماضي ، وقد ذكر بعض النحويين أن مما يصرف المضارع إلى الماضي قد ، في بعض المواضع ، ومنه : { قد يعلم ما أنتم عليه } { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك } { قد يعلم الله المعوقين منكم } وقال الشاعر :
لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم*** مرابط للأمهار والعكر الدثر
قال الزمخشري : قد نرى : ربما نرى ، ومعناه : كثرة الرؤية ، كقوله :
قد أترك القرن مصفراً أنامله***
وشرحه هذا على التحقيق متضادّ ، لأنه شرح قد نرى بربما نرى .
ورب ، على مذهب المحققين من النحويين ، إنما تكون لتقليل الشيء في نفسه ، أو لتقليل نظيره .
ثم قال : ومعناه كثرة الرؤية ، فهو مضادّ لمدلول رب على مذهب الجمهور .
ثم هذا المعنى الذي ادّعاه ، وهو كثرة الرؤية ، لا يدل عليه اللفظ ، لأنه لم يوضع لمعنى الكثرة .
هذا التركيب ، أعني تركيب قد مع المضارع المراد منه الماضي ، ولا غير المضي ، وإنما فهمت الكثرة من متعلق الرؤية ، وهو التقلب ، لأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة ، لا يقال فيه : قلب بصره في السماء ، وإنما يقال : قلب إذا ردّد .
فالتكثير ، إنما فهم من التقلب الذي هو مطاوع التقليب ، نحو : قطعته فتقطع ، وكسرته فتكسر ، وما طاوع التكثير ففيه التكثير .
والوجه هنا قيل : أريد به مدلول ظاهره .
قال قتادة والسدّي وغيرهما : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى قبلة مكة .
وقيل : كان يقلب وجهه ليؤذن له في الدعاء .
وقال الزمخشري : كان يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ، وأدعى للعرب إلى الإيمان ، لأنها مفخرهم ومزارهم ومطافهم ، ولمخالفة اليهود ، فكان يراعي نزول جبريل عليه السلام والوحي بالتحويل .
انتهى كلامه ، وهو كلام الناس قبله .
فالأول : قول ابن عباس ، وهو ليصيب قبلة إبراهيم .
والثاني : قول السدّي والربيع ، وهو ليتألف العرب لمحبتها في الكعبة .
والثالث : قول مجاهد ، وهو قول اليهود : ما علم محمد دينه حتى اتبعنا ، فأراد مخالفتهم .
وقيل : كنى بالوجه عن البصر ، لأنه أشرف ، وهو المستعمل في طلب الرغائب .
تقول : بذلت وجهي في كذا ، وفعلت لوجه فلان .
وهو من الكناية بالكل عن الجزء ، ولا يحسن أن يقال : إنه على حذف مضاف ، ويكون التقدير بصر وجهك ، لأن هذا لا يكاد يستعمل ، إنما يقال : بصرك وعينك وأنفك ؛ لا يكاد يقال : أنف وجهك ، ولا خد وجهك .
في السماء : متعلق بالمصدر ، وهو تقلب ، وهو يتعدى بفي ، فهي على ظاهرها .
قال تعالى : { لا يغرّّنك تقلب الذين كفروا في البلاد } أي في نواحي السماء ، في هذه الجهة ، وفي هذه الجهة .
وقيل : في السماء متعلق بنرى ، وفي : بمعنى من ، أي قد نرى من السماء تقلب وجهك ، وإن كان الله تعالى يرى من كل مكان ، ولا تتحيز رؤيته بمكان دون مكان .
وذكرت الرؤية من السماء لإعظام تقلب وجهه ، لأن السماء مختصة بتعظيم ما أضيف إليها ، ويكون كما جاء : بأن الله يسمع من فوق سبعة أرقعة ، والظاهر الأول ، وهو تعلق المجرور بالمصدر ، وأن في على حقيقتها .
واختص التقلب بالسماء ، لأن السماء جهة تعود منها الرحمة ، كالمطر والأنوار والوحي ، فهم يجعلون رغبتهم حيث توالت النعم ، ولأن السماء قبلة الدعاء ، ولأنه كان ينتظر جبريل ، وكان ينزل من السماء .
{ فلنولينك قبلة ترضاها } : هذا يدل على أن في الجملة السابقة حالاً محذوفة ، التقدير : قد نرى تقلب وجهك في السماء طالباً قبلة غير التي أنت مستقبلها .
وجاء هذا الوعد على إضمار قسم مبالغة في وقوعه ، لأن القسم يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها .
وجاء الوعد قبل الأمر لفرح النفس بالإجابة ، ثم بإنجاز الوعد ، فيتوالى السرور مرتين ، ولأن بلوغ المطلوب بعد الوعد به أنس في التوصل من مفاجأة وقوع المطلوب .
ونكر القبلة ، لأنه لم يجر قبلها ما يقتضي أن تكون معهودة ، فتعرف بالألف واللام .
وليس في اللفظ ما يدل على أنه كان يطلب باللفظ قبلة معينة ، ووصفها بأنها مرضية له لتقربها من التعيين ، لأن متعلق الرضا هو القلب ، وهو كان يؤثر أن تكون الكعبة ، وإن كان لا يصرّح بذلك .
قالوا : ورضاه لها ، إما لميل السجية ، أو لاشتمالها على مصالح الدين .
والمعنى : لنجعلنك تلي استقبال قبلة مرضية لك ، ولنمكننك من ذلك .
{ فولّ وجهك شطر المسجد الحرام } : أي استقبل بوجهك في الصلاة نحو الكعبة .
وبهذا الأمر نسخ التوجه إلى بيت المقدس .
قالوا : وإنما لم يذكر في الصلاة ، لأن الآية نزلت وهو في الصلاة ، فأغنى التلبس بالصلاة عن ذكرها .
ومن قال نزلت في غير الصلاة ، فأغنى عن ذكر الصلاة أن المطلوب لم يكن إلا ذلك ، أعني : التوجه في الصلاة .
وأقول : في قوله : { فلنولينك قبلة ترضاها } ما يدل على أن المقصود هو في الصلاة ، لأن القبلة هي التي يتوجه إليها في الصلاة .
وأراد بالوجه : جملة البدن ، لأن الواجب استقبالها بجملة البدن .
وكنى بالوجه عن الجملة ، لأنه أشرف الأعضاء ، وبه يتميز بعض الناس عن بعض .
وقد يطلق ويراد به نفس الشيء ، ولأن المقابلة تقتضي ذلك ، وهو أنه قابل قوله : { قد نرى تقلب وجهك } بقوله : { فولّ وجهك } .
وتقدّم أن الشطر يطلق ويراد به النصف ، ويطلق ويراد به النحو .
وأكثر المفسرين على أن المراد بالشطر تلقاؤه وجانبه ، وهو اختيار الشافعي .
وقال الجبائي ، وهو اختيار القاضي : المراد منه وسط المسجد ومنتصفه ، لأن الشطر هو النصف ، والكعبة بقعة في وسط المسجد .
والواجب هو التوجه إلى الكعبة ، وهي كانت في نصف المسجد ، فحسن أن يقال : { فولّ وجهك شطر المسجد } ، يعني النصف من كل جهة ، وكأنه عبارة عن بقعة الكعبة .
أن المصلي خارج المسجد متوجهاً إلى المسجد ، لا إلى منتصف المسجد الذي هو الكعبة ، لم تصح صلاته .
وأنه لو فسرنا الشطر بالجانب ، لم يكن لذكره فائدة ، ويكون لا يدل على وجوب التوجه إلى منتصفه الذي هو الكعبة .
قال ابن عباس وغيره : وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت كله .
وقال ابن عمر : إنما وجه هو وأمّته حيال ميزاب الكعبة ، والميزاب هو قبلة المدينة والشام ، وهناك قبلة أهل الأندلس بتقريب ، ولا خلاف أن الكعبة قبلة من كل أفق ، وفي حرف عبد الله ، فول وجهك تلقاء المسجد الحرام .
والقائلون بأن معنى الشطر : النحو ، اختلفوا ، فقال ابن عباس : البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب ، وهذا قول مالك .
وقال آخرون : القبلة هي الكعبة ، والظاهر أن المقصود بالشطر : النحو والجهة ، لأن في استقبال عين الكعبة حرجاً عظيماً على من خرج لبعده عن مسامتتها .
وفي ذكر المسجد الحرام ، دون ذكر الكعبة ، دلالة على أن الذي يجب هو مراعاة جهة الكعبة ، لا مراعاة عينها .
واستدل مالك من قوله : { فولّ وجهك شطر المسجد الحرام } ، على أن المصلي ينظر أمامه ، لا إلى موضع سجوده ، خلافاً للثوري والشافعي والحسن بن حيّ ، في أنه يستحب أن ينظر إلى موضع سجوده ، وخلافاً لشريك القاضي ، في أنه ينظر القائم إلى موضع سجوده ، وفي الركوع إلى موضع قدميه ، وفي السجود إلى موضع أنفه ، وفي القعود إلى موضع حجره .
قال الحافظ أبو بكر بن العربي : إنما قلنا ينظر أمامه ، لأنه إن حنى رأسه ذهب ببعض القيام المعترض عليه في الرأس ، وهو أشرف الأعضاء ، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج ، { وما جعل عليكم في الدين من حرج } { وحيثما كنتم } : هذا عموم في الأماكن التي يحلها الإنسان ، أي في أيّ موضع كنتم ، وهو شرط وجزاء ، والفاء جواب الشرط ، وكنتم في موضع جزم .
وحيث : هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة ، فهي مقتضية ، الخفض بعدها ، وما اقتضى الخفض لا يقتضي الجزم ، لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال ، والإضافة موضحة لما أضيف ، كما أن الصلة موضحة فينا في اسم الشرط ، لأن الشرط مبهم .
فإذا وصلت بما زال منها معنى الإضافة ، وضمنت معنى الشرط ، وجوزي بها ، وصارت إذ ذاك من عوامل الأفعال .
وقد تقدم لنا ما شرط في المجازاة بها ، وخلاف الفراء في ذلك .
{ فولوا وجوهكم شطره } : وهذا أمر لأمّة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما تقدّم أمره بذلك ، أراد أن يبين أن حكمه وحكم أمته في ذلك واحد ، مع مزيد عموم في الأماكن ، لئلا يتوهم أن هذه القبلة مختصة بأهل المدينة ، فبين أنهم في أيما حصلوا من بقاع الأرض ، وجب أن يستقبلوا شطر المسجد .
ولما كان صلى الله عليه وسلم هو المتشوف لأمر التحويل ، بدأ بأمره أولاً ثم أتبع أمر أمته ثانياً لأنهم تبع له في ذلك ، ولئلا يتوهم أن ذلك مما اختص به صلى الله عليه وسلم .
وفي حرف عبد الله : فولوا وجوهكم قبله .
وقرأ ابن أبي عبلة : فولوا وجوهكم تلقاءه ، وهذا كله يدل على أن المراد بالشطر : النحو .
{ وإن الذين أوتوا الكتاب } : أي رؤساء اليهود والنصارى وأحبارهم .
{ ليعلمون أنه } : أي التوجه إلى المسجد الحرام ، { الحق } : الذي فرضه الله على إبراهيم وذريته .
وقال قتادة والضحاك : إن القبلة هي الكعبة .
وقال الكسائي : الضمير يعود على الشطر ، وهو قريب من القول الثاني ، لأن الشطر هو الجهة .
وقيل : يعود على محمد صلى الله عليه وسلم ، أي يعرفون صدقه ونبوّته ، قاله قتادة أيضاً ومجاهد .
فمفسر ضمير التحويل والتوجه قوله : { فولّ وجهك } ، فيعود على المصدر المفهوم من قوله : { فولوا } ، ومفسر ضمير القبلة قوله : { قبلة ترضاها } ، ومفسر ضمير الشطر قوله : { شطر المسجد الحرام } ، ومفسر ضمير الرسول ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم .
فعلى هذا الوجه يكون التفاتان .
والعلم هنا يحتمل أن يكون مما يتعدى إلى اثنين ، ويحتمل أن يكون مما يتعدى إلى واحد ، لأن معموله هو أن وصلتها ، فيحتمل الوجهين ، وعلمهم بذلك ، إما لأن في كتابهم التوجه إلى الكعبة ، قاله أبو العالية ، وإما لأن في كتابهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي صادق ، فلا يأمر إلا بالحق ، وإما لجواز النسخ ، وإما لأن في بشارة الأنبياء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى القبلتين .
{ من ربهم } : جار ومجرور في موضع الحال ، أي ثابتاً من ربهم .
وفي ذلك دليل على أن التحول من بيت المقدس إلى الكعبة لم يكن باجتهاد ، إنما هو بأمر من الله تعالى .
وفي إضافة الرب إليهم تنبيه على أنه يجب اتباع الحق الذي هو مستقر ممن هو معتن بإصلاحك ، كما قال تعالى : { الحق من ربك } .
{ وما الله بغافل عما يعملون } : قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب .
فيحتمل أن يراد به المؤمنون لقوله : { فولوا وجوهكم شطره } ، ويحتمل أن يراد به أهل الكتاب ، فتكون من باب الالتفات .
ووجهه أن في خطابهم بأن الله لا يغفل عن أعمالهم ، تحريكاً لهم بأن يعملوا بما علموا من الحق ، لأن المواجهة بالشيء تقتضي شدة الإنكار وعظم الشيء الذي ينكر .
ومن قرأ بالياء ، فالظاهر أنه عائد على أهل الكتاب لمجيء ذلك في نسق واحد من الغيبة .
وعلى كلتا القراءتين ، فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد ، ولا يغفل عنها ، وهو متضمن الوعيد .