السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ} (144)

{ قد } للتحقيق { نرى تقلب } أي : تردّد { وجهك في السماء } أي : في جهتها متطلعاً إلى الوحي ومتشوّقاً إلى الأمر باستقبال الكعبة ، وهذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة فهي متقدّمة في المعنى ، فإنها رأس القصة ، وأمر القبلة أوّل ما نسخ من أمور الشرع وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون بمكة إلى الكعبة ، فلما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يصلي إلى نحو صخرة بيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه إذا صلى إلى قبلتهم مع ما يجدونه من نعته في التوراة ، وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة ، لأنها كانت قبلة إبراهيم أبيه صلى الله عليه وسلم .

وقال مجاهد : كان يحب ذلك من أجل أنّ اليهود كانوا يقولون : يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا ، فقال لجبريل عليه السلام : وددت لو حوّلني الله تعالى إلى الكعبة ، فإنها قبلة أبي إبراهيم ، فقال جبريل : إنما أنا عبد ملك وأنت كريم على ربك ، فسل أنت ربك فإنك عند الله بمكان ، فعرج جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن ينزل جبريل بما يحب من أمر القبلة ، وذلك يدل على كمال أدبه حيث انتظر ولم يسأل ، فنزل قوله تعالى : { فلنولينك } أي : فلنحوّلنك { قبلة } أي : إلى قبلة { ترضاها } أي : تحبها وتهواها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته { فول } أي : اصرف { وجهك شطر } أي : نحو { المسجد الحرام } أي : الكعبة أي : استقبل عينها بصدرك في الصلاة وإن كنت بعيداً عنها . وقول البيضاوي : والبعيد يكفيه مراعاة الجهة ، فإنّ في استقبال عينها حرجاً عليه وجه ضعيف ، والحرام المحرم فيه القتال وممنوع من الظلمة أن يتعرّضوه .

وقوله تعالى : { وحيث ما كنتم } من بحر أو برّ ، شرق أو غرب خطاب للأمة { فولوا وجوهكم } في الصلاة { شطره } وكان تحويل القبلة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين . وقول البيضاوي : وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر ، فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب وتبادل الرجال والنساء صفوفهم ، فسمي المسجد مسجد القبلتين فيه تحريف ، فإن ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم كان إماماً في قصة بني سلمة وأنه تحول في الصلاة وليس كذلك ، فقد روى البخاريّ عن ابن عمر أنه قال : ( بينما الناس يصلون في صلاة الصبح إذ أتاهم آت أي : من بني سلمة فقال : إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة ) .

ولما تحوّلت القبلة قالت اليهود : وما هو إلا شيء يبتدعه محمد من تلقاء نفسه ، فتارة يصلي إلى بيت المقدس ، وتارة إلى الكعبة ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره ، فأنزل الله تعالى { وإنّ الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه } أي : التولي إلى الكعبة { الحق } أي : الثابت { من ربهم } لما في كتبهم من نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم من أنه يحوّل إليها وقوله تعالى : { وما الله بغافل عما تعملون } قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب للمؤمنين أي : وما أنا بغافل عن جزائكم وثوابكم ، والباقون بالياء على الغيب أي : عما يعمل اليهود أي : فأجازيهم في الدنيا والآخرة ، ففي الآية وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين ، ولما قالت اليهود والنصارى ائتنا بآية على أنّ الكعبة قبلة .