الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ} (144)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{قد نرى تقلب وجهك في السماء}: نرى أنك تديم نظرك إلى السماء.

{فلنولينك}: لنحولنك إلى {قبلة ترضاها}، لأن الكعبة كانت أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المقدس.

{فول}: فحول {وجهك شطر}: تلقاء {المسجد الحرام}.

{وحيث ما كنتم}: من الأرض، {فولوا وجوهكم شطره}: فحولوا وجوهكم في الصلاة تلقاءه.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في مسجد بني سلمة، فصلى ركعة، ثم حولت القبلة إلى الكعبة، وفرض الله صيام رمضان، وتحويل القبلة، والصلاة إلى الكعبة قبل بدر بشهرين...

{وإن الذين أوتوا الكتاب}: أهل التوراة، وهم اليهود، [قالوا]: يا محمد، ما أمرت بهذا الأمر، وما هذا إلا شيء ابتدعته، يعني في أمر القبلة، فأنزل الله عز وجل: {وإن الذين أوتوا الكتاب}، يعني أهل التوراة، {ليعلمون أنه الحق من ربهم}: بأن القبلة هي الكعبة، فأوعدهم الله، فقال:

{وما الله بغافل عما يعملون}: عما يعملون من كفرهم بالقبلة...

تفسير الشافعي 204 هـ :

في قوله: {وَإِنَّ اَلذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} يقال: يجدون في ما نزل عليهم أن النبي الأمي من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام يخرج من الحرم، وتعود قبلته وصلاته مَخْرَجَهُ، يعني الحرم.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قد نرى يا محمد نحن تقلب وجهك في السماء. ويعني بالتقلب: التحوّل والتصرّف. ويعني بقوله:"في السّماء" نحو السماء وقِبَلها.

وإنما قيل له ذلك صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا، لأنه كان قبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة يرفع بصره إلى السماء ينتظر من الله جل ثناؤه أمره بالتحويل نحو الكعبة.

ثم اختلف في السبب الذي من أجله كان صلى الله عليه وسلم يهوى قبلة الكعبة.

قال بعضهم: كره قبلة بيت المقدس، من أجل أن اليهود قالوا: يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا... فكان يدعو الله جل ثناؤه، ويستفرض للقبلة، فنزلت: "قَدْ نَرَىَ تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ "وانقطع قول يهود: يخالفنا ويتبع قبلتنا في صلاة الظهر، فجعل الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال.

وقال آخرون: بل كان يَهْوَى ذلك من أجل أنه كان قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام. "فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا": فلنصرفنك عن بيت المقدس إلى قبلة ترضاها: تهواها وتحبها.

"فَوَلّ وَجْهَكَ": يعني اصرف وجهك وحوّله. وقوله: "شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ" يعني بالشطر: النحو والقصد والتلقاء.

ثم اختلفوا في المكان الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يولي وجهه إليه من المسجد الحرام.

فقال بعضهم: القبلة التي حوّل إليها النبي صلى الله عليه وسلم وعناها الله تعالى ذكره بقوله: فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا حيال ميزاب الكعبة.

وقال آخرون: بل ذلك البيت كله قبلة، وقبلة البيت الباب.

والصواب من القول في ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ فالمولّي وجهه شطر المسجد الحرام هو المصيب القبلة. وإنما على من توجه إليه النية بقلبه أنه إليه متوجه، كما أن على من ائتمّ بإمام فإنما عليه الائتمام به وإن لم يكن محاذيا بدنه بدنه، وإن كان في طرف الصف والإمام في طرف آخر عن يمينه أو عن يساره، بعد أن يكون من خلفه مؤتما به مصليا إلى الوجه الذي يصلي إليه الإمام. فكذلك حكم القبلة، وإن لم يكن يحاذيها كل مصلّ ومتوجه إليها ببدنه غير أنه متوجه إليها، فإن كان عن يمينها أو عن يسارها مقابلها فهو مستقبلها بعد ما بينه وبينها، أو قرب من عن يمينها أو عن يسارها بعد أن يكون غير مستدبرها ولا منحرف عنها ببدنه ووجهه... عن عليّ: فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ قال: شطره قِبَله.

وقبلة البيت: بابه، كما حدثني يعقوب بن إبراهيم، والفضل بن الصباح، قالا: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك، عن عطاء قال: قال أسامة بن زيد: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من البيت أقبل بوجهه إلى الباب فقال: «هَذِهِ القِبْلَةُ، هَذِهِ القِبْلَةُ».

فأخبر صلى الله عليه وسلم أن البيت هو القبلة، وأن قبلة البيت بابه.

"وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ": فأينما كنتم من الأرض أيها المؤمنون فحوّلوا وجوهكم في صلاتكم نحو المسجد الحرام وتلقاءه. والهاء التي في «شطره» عائدة إلى المسجد الحرام.

فأوجب جلّ ثناؤه بهذه الآية على المؤمنين فرض التوجه نحو المسجد الحرام في صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبارك وتعالى. وأدخلت الفاء في قوله: فَوَلّوا جوابا للجزاء، وذلك أن قوله: حَيْثُمَا كُنْتُمْ جزاء، ومعناه: حيثما تكونوا فولّوا وجوهكم شطره.

"وَإنّ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ": وإن الذين أوتوا الكتاب أحبار اليهود وعلماء النصارى. وقد قيل إنما عنى بذلك اليهود خاصة... يعني هؤلاء الأحبار والعلماء من أهل الكتاب، يعلمون أن التوجه نحو المسجد الحقّ الذي فرضه الله عزّ وجلّ على إبراهيم وذرّيته وسائر عباده بعده.

"مِنْ رَبّهِمْ": أنه الفرض الواجب على عباد الله تعالى ذكره، وهو الحقّ من عند ربهم فرضه عليهم.

"وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ": وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون في اتباعكم أمره وانتهائكم إلى طاعته فيما ألزمكم من فرائضه وإيمانكم به في صلاتكم نحو بيت المقدس ثم صلاتكم من بعد ذلك شطر المسجد الحرام، ولا هو ساهٍ عنه، ولكنه جل ثناؤه يحصيه لكم ويدّخره لكم عنده حتى يجازيكم به أحسن جزاء، ويثيبكم عليه أفضل ثواب.

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

{وما الله بغافل عما تعملون}. قرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء، قال ابن عباس يريد أنكم يا معشر المؤمنين تطلبون مرضاتي وما أنا بغافل عن ثوابكم وجزائكم. وقرأ الباقون بالياء يعني ما أنا بغافل عما يفعل اليهود، فأجازيهم في الدنيا والآخرة...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{قَدْ نرى}: ومعناه: كثرة الرؤية.

{تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} تردّد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقع من ربه أن يحوّله إلى الكعبة؛ لأنها قبلة أبيه إبراهيم، وأدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم، ولمخالفة اليهود. فكان يراعي نزول جبريل عليه السلام والوحي بالتحويل {فَلَنُوَلّيَنَّكَ} فلنعطينّك ولنمكننك من استقبالها، من قولك: وليته كذا. إذا جعلته والياً له، أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس {تَرْضَاهَا} تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله وحكمته {شَطْرَ المسجد الحرام} نحوه.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

المسألة الثانية: قوله {ترضاها} فيه وجوه.

(أحدها): ترضاها تحبها وتميل إليها، لأن الكعبة كانت أحب إليه من غيرها بحسب ميل الطبع... فكان طبعه يميل إلى الصلاة مع أن المصلحة كانت موافقة لذلك.

(وثانيها): {قبلة ترضاها} أي تحبها بسبب اشتمالها على المصالح الدينية.

(وثالثها) قال الأصم: أي كل جهة وجهك الله إليها فهي لك رضا لا يجوز أن تسخط، كما فعل من انقلب على عقيبه من العرب الذين كانوا قد أسلموا، فلما تحولت القبلة ارتدوا.

(ورابعها): {ترضاها} أي ترضى عاقبتها لأنك تعرف بها من يتبعك للإسلام، فمن يتبعك لغير ذلك من دنيا يصيبها أو مال يكتسبه.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما بشره سبحانه بالتحويل أولاً وأوقع المبشر به ثانياً أشار إلى بشارة ثالثة بتكثير أمته ونشرهم في أقطار الأرض فجمعهم إليه في قوله: {وحيث ما كنتم} أي من جهات الأرض التي أورثكم إياها {فولوا وجوهكم شطره} بتوجيه قلوبكم إليّ...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

قالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتشوف لتحويل القبلة من بيت المقدس ويرجوه بل قال (الجلال) إنه كان ينتظره، لأن الكعبة قبلة أبيه إبراهيم والتوجه إليها أدعى إلى إيمان العرب أي وعلى العرب المعول في ظهور هذا الدين العام، لأنهم كانوا أكمل استعدادا له من جميع الأنام.

قال (الأستاذ الإمام): ولا بعد في تشوفه على قبلة إبراهيم، وقد جاء بإحياء ملته، وتجديد دعوته، ولا يعد هذا من الرغبة عن أمر الله تعالى إلى هوى نفسه. كلا إن هوى الأنبياء لا يعدو أمر الله تعالى وموافقة رضوانه. ولو كان لأحد منهم هوى ورغبة في أمر الله تعالى به ورضيه، بل المقام أدق، والسر أخفى، إن روح النبي منطوية على الدين في جملته من قبل أن ينزل عليه الوحي بتفصيل مسائله، فهي تشعر بصفائها وإشراقها بحاجة الأمة التي بعث فيها شعورا إجماليا كليا لا يكاد يتجلى في جزئيات المسائل وآحاد الأحكام إلا عند شدة الحاجة إليها، والاستعداد لتشريعها، عند ذلك يتوجه قلب النبي إلى ربه طالبا بلسان استعداده بيان ما يشعر به مجملا، وإيضاح ما يلوح له مبهما، فينزل الروح الأمين على قلبه، ويخطبه بلسان قومه عن ربه. وهكذا الوحي إمداد، في موطن استعداد، لا كسب فيه للعباد. وإذا كان حكم شرع لسبب مؤقت، وزمن في علم الله معين، فإن روح النبي تشعر بذلك في الجملة. فإذا تم الميقات، وأزف وقت الرقي إلى ما هو آت، وجدت من الشعور بالحاجة إلى النسخ ما يوجهها إلى الشارع العليم، والديان الحكيم، كما كان يتقلب وجه نبينا في السماء تشوفا إلى تحويل القبلة فذلك قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} أي أننا نرى تقلب وجهك أيها الرسول وتردده المرة بعد المرة في السماء، مصدر الوحي وقبلة الدعاء، انتظارا لما ترجوه من نزول الأمر بتحويل القبلة.

فسر بعضهم تقلب الوجه بالدعاء، وحقيقة الدعاء هي شعور القلب بالحاجة إلى عناية الله تعالى فيما يطلب، وصدق التوجيه إليه فيما يرغب، ولا يتوقف على تحريك اللسان بالألفاظ، فإن الله ينظر إلى القلوب وما أسرت فإن وافقتها الألسنة فهي تبع لها، وإلا كان الدعاء لغوا يبغضه الله تعالى، فالدعاء الديني لا يتحقق إلا بإحساس الداعي بالحاجة إلى عناية الله تعالى، وعن هذا الإحساس يعبر اللسان بالضراعة والابتهال، فهذا التفسير ليس بأجنبي من سابقه. فتقلب الوجه في السماء عبارة عن التوجه إلى الله تعالى انتظارا لما كانت تشعر به روح النبي صلى الله عليه وسلم وترجوه من نزول الوحي بتحويل القبلة. ولا تدل الآية على أنه كان يدعو بلسانه طالبا هذا التحويل ولا تنفي ذلك.

وقال بعض المحققين: من كمال أدبه صلى الله عليه وسلم أنه انتظر ولم يسأل. وهذا التوجه هو الذي يحبه الله تعالى ويهدي قلب صاحبه إلى ما يرجوه ويطلبه لذلك قال عز وجل: {فلنولينك قبلة ترضاها} أي فلنجعلنك متوليا قبلة تحبها وترضاها، وقرن الوعد بالأمر فقال {فول وجهك شطر المسجد الحرام} تولية الوجه المكان أو الشيء هي جعله قبالته وأمامه، والتوالي عند جعله وراءه. والشطر في الأصل القسم المنفصل من الشيء تقول جعله شطرين ومنه شطر البيت من الشعر وهو المصرع منه، وكذا المتصل كشطري الناقة وأشطرها وهي أخلافها: شطران أماميان وشطران خلفيان. ويطلق على النحو والجهة وهو المراد هنا، فالواجب استقبال جهة الكعبة في حال البعد وعدم رؤيتها، ولا يجب استقبال عينها إلا على من يراها بعينه، أو يلمسها بيده أو بدنه. فإن صح إطلاق الشطر على عين الشيء في اللغة فلا يصح أن يراد هنا لما فيه من الحرج الشديد لاسيما على الأمة الأمية.

ثم أمر بذلك المؤمنين عامة فقال {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} أي وفي أي مكان كنتم فاستقبلوا جهته بوجوهكم في صلاتكم، وهذا يقتضي أن يصلي المسلمون في بقاع الأرض إلى جميع الجهات لا كالنصارى الذين يلتزمون جهة المشرق، ويقتضي أن يعرفوا موقع البيت الحرام وجهته حيثما كانوا ولذلك وضعوا علم سمت القبلة وتقويم البلدان (الجغرافية الفلكية والأرضية).

وقد عهد من أسلوب القرآن أن يكون الأمر يؤمر به النبي ولا يذكر أنه خاص به أمرا له وللمؤمنين به، فإذا أريد التخصيص جيء بما يدل عليه كقوله تعالى: {ومن الليل فتجهد به نافلة لك} (الإسراء: 79) وقوله: {خالصة لك من دون المؤمنين} (الأحزاب: 50). وإنما أمر الله المؤمنين في هذه الآية بما أمر به النبي فيها نصا صريحا للتأكيد الذي اقتضته الحال في حادثة القبلة، فإنها كانت حادثة كبيرة استتبعت فتنة عظيمة، فأراد الله أن يعلم المؤمنين بعنايته بها ويقررها في أنفسهم، فأكد الأمر بها وشرفهم بالخطاب مع خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام لتشتد قلوبهم وتطمئن نفوسهم، ويتلقوا تلك الفتنة التي أثارها المنافقون والكافرون بالحزم والثبات على الإتباع ولئلا يتوهم من سابق الكلام أنه خاص به عليه الصلاة والسلام.

بعد هذا عاد إلى بيان حال السفهاء مثيري الفتنة في مسألة تحويل القبلة فقال {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم} أي أن تولي المسجد الحرام هو الحق المنزل من الله على نبيه. وجمهور المفسرين على أن أكثر أولئك الفاتنين كانوا من أهل الكتاب المقيمين في الحجاز، ولولا ذلك لم تكن الفتنة عظيمة لأن كلام المشركين في مسائل الوحي والتشريع قلما يلتفت إليه. وأما أهل الكتاب فقد كانوا معروفين بين العرب بالعلم، ومن كان كذلك فإن عامة الناس تتقبل كلامه ولو نطق بالمحال، لأن الثقة بمظهره، تصد عن تمحيص خبره، فهو في حاله الظاهرة شبهة إذا أنكر، وحجة إذا اعترف، ولأن الجماهير من الناس قد اعتادوا تقليد مثله من غير بحث ولا دليل.

وقد جرى أصحاب المظاهر العلمية والدينية على الانتفاع بغرور الناس بهم، فصار الغرض لهم من أقوالهم التأثير في نفوس الناس، فهم يقولون ما لا يعتقدون لأجل ذلك، ويسندون ما يقولون إلى كتبهم كذبا صريحا أو تأويلا بعيدا، كما كان أحبار اليهود يطعنون في النبي عليه الصلاة والسلام وما جاء به، ويذكرون للناس أقوالهم على أنها كتبهم وما هي من كتبهم، إن يريدون إلا خداعا، وقد كذب الله هؤلاء الخادعين، وبين أنهم يقولون غير ما يعتقدون، كأنه يقول: إن هؤلاء قد قام عندهم الدليل على ما سبقت به بشارة أنبيائهم من صحة نبوة الرسول ويعلمون أن أمر القبلة كغيرها من أمور الدين ما جاء به الوحي عن الله تعالى وأنه الحق لا محيص عنه، لا مكان معين بذاته لذاته، {وما الله بغفل عما تعلمون} فهو المطلع على الظواهر والضمائر، الحسيب على ما في السرائر، الرقيب على الأعمال، فيخبر نبيه بما شاء أن يخبره وإليه المرجع والمصير وعليه الحساب والجزاء.

سبق القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على هداية أهل الكتاب راجيا بإيمانهم ما لا يرجوه من إيمان المشركين، فبمقدار حرصه ورجائه كان يحزنه عروض الشبه لهم في الدين، ويتمنى لو أعطي من الآيات والدليل ما يمحو كل شبهة لهم، فلما كانت فتنة تحويل القبلة بمخادعتهم الناس أخبره الله تعالى بأنهم غير مشتبهين في الحق فتزال شبهتهم، وإنما هم قوم معاندون جاحدون على علم، ثم أعلمه بأن الآيات لا تؤثر في المعاند ولا ترجع الجاحد عن غيه.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

ففيها اشتراط استقبال الكعبة، للصلوات كلها، فرضها، ونفلها، وأنه إن أمكن استقبال عينها، وإلا فيكفي شطرها وجهتها، وأن الالتفات بالبدن، مبطل للصلاة، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، ولما ذكر تعالى فيما تقدم، المعترضين على ذلك من أهل الكتاب وغيرهم، وذكر جوابهم، ذكر هنا، أن أهل الكتاب والعلم منهم، يعلمون أنك في ذلك على حق وأمر، لما يجدونه في كتبهم، فيعترضون عنادا وبغيا، فإذا كانوا يعلمون بخطئهم فلا تبالوا بذلك، فإن الإنسان إنما يغمه اعتراض من اعترض عليه، إذا كان الأمر مشتبها، وكان ممكنا أن يكون معه صواب

فأما إذا تيقن أن الصواب والحق مع المعترض عليه، وأن المعترض معاند، عارف ببطلان قوله، فإنه لا محل للمبالاة، بل ينتظر بالمعترض العقوبة الدنيوية والأخروية، فلهذا قال تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} بل يحفظ عليهم أعمالهم، ويجازيهم عليها، وفيها وعيد للمعترضين، وتسلية للمؤمنين.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره)..

من كل اتجاه، في أنحاء الأرض جميعا.. قبلة واحدة تجمع هذه الأمة وتوحد بينها على اختلاف مواطنها، واختلاف مواقعها من هذه القبلة، واختلاف أجناسها وألسنتها وألوانها.. قبلة واحدة، تتجه إليها الأمة الواحدة في مشارق الأرض ومغاربها. فتحس أنها جسم واحد، وكيان واحد، تتجه إلى هدف واحد، وتسعى لتحقيق منهج واحد. منهج ينبثق من كونها جميعا تعبد إلها واحدا، وتؤمن برسول واحد، وتتجه إلى قبلة واحدة.

وهكذا وحد الله هذه الأمة. وحدها في إلهها ورسولها ودينها وقبلتها. وحدها على اختلاف المواطن والأجناس والألوان واللغات. ولم يجعل وحدتها تقوم على قاعدة من هذه القواعد كلها؛ ولكن تقوم على عقيدتها وقبلتها؛ ولو تفرقت في مواطنها وأجناسها وألوانها ولغاتها.. إنها الوحدة التي تليق ببني الإنسان؛ فالإنسان يجتمع على عقيدة القلب، وقبلة العبادة، إذا تجمع الحيوان على المرعى والكلأ والسياج والحظيرة!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

فالقبلة هنا اسم للمكان الذي يستقبله المصلى وهو إما مشتق من اسم الهيئة وإما من اسم المفعول كما تقدم.

والمسجد الحرام المسجد المعهود عند المسلمين والحرام المجعول وصفاً للمسجد هو الممنوع. أي الممنوع منع تعظيم وحرمة فإن مادة التحريم تؤذن بتجنب الشيء فيفهم التجنب في كل مقام بما يناسبه. وقد اشتهر عند العرب وصف مكة بالبلد الحرام أي الممنوع عن الجبابرة والظلمة والمعتدين ووصف بالمحرم في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: {عند بيتك الحرام} [إبراهيم: 37]، أي المعظم المحترم وسمي الحرم قال تعالى: {أولم نمكن لهم حرماً أمناً} [القصص: 57] فوصف الكعبة بالبيت الحرام وحرم مكة بالحرم أوصاف قديمة شائعة عند العرب فأما اسم المسجد الحرام فهو من الألقاب القرآنية جعل علماً على حريم الكعبة المحيط بها وهو محل الطواف والاعتكاف ولم يكن يعرف بالمسجد في زمن الجاهلية إذ لم تكن لهم صلاة ذات سجود والمسجد مكان السجود فاسم المسجد الحرام علم بالغلبة على المساحة المحصورة المحيطة بالكعبة ولها أبواب منها باب الصفا وباب بني شيبة ولما أطلق هذا العلم على ما أحاط بالكعبة لم يتردد الناس من المسلمين وغيرهم في المراد منه فالمسجد الحرام من الأسماء الإسلامية قبل الهجرة وقد ورد ذكره في سورة الإسراء وهي مكية.

والجمهور على أن المراد بالمسجد الحرام هنا الكعبة لاستفاضة الأخبار الصحيحة بأن القبلة صرفت إلى الكعبة وأن رسول الله أمر أن يستقبل الكعبة وأنه صلى إلى الكعبة يوم الفتح وقال هذه القبلة، قال ابن العربي « وَذَكَرَ المسجد الحرام والمراد به البيت لأن العرب تعبر عن البيت بما يجاوره أو بما يشتمل عليه» وعن ابن عباس البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب. قال الفخر وهذا قول مالك، وأقول لا يعرف هذا عن مالك في كتب مذهبه.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

الحق سبحانه وتعالى يعطينا صورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. أنه يحب ويشتاق أن يتجه إلى الكعبة بدلا من بيت المقدس.. وكان عليه الصلاة والسلام قد اعتاد أن يأتيه الوحي من علو.. فكأنه صلى الله عليه وسلم كان يتجه ببصره إلى السماء مكان إيتاء الوحي.. ولا يأتي ذلك إلا إذا كان قلبه متعلقا بأن يأتيه الوحي بتغيير القبلة.. فكأن هذا أمر شغله.

إن الله سبحانه يحيط رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه قد رأى تقلب وجه رسوله الكريم في السماء وأجابه ليتجه إلى القبلة التي يرضاها.. فهل معنى ذلك أن القبلة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي بيت المقدس لم يكن راضيا عنها؟ نقول لا.. وإنما الرضا دائما يتعلق بالعاطفة، وهناك فرق بين حب العاطفة وحب العقل.. ولذلك لا يقول أحد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن راضيا عن قبلة بيت المقدس.. وإنما كان يتجه إلى بيت المقدس وفي قلبه عاطفة تتجه إلى الكعبة.. هذا يدل على الطاعة والالتزام.

الله يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام:"فلنولينك قبلة ترضاها" أي تحبها بعاطفتك.. ورسول الله عليه الصلاة والسلام كان يتطلع إلى هذا التغيير، فكأن عواطفه صلى الله عليه وسلم اتجهت لتضع مقدمات التحويل.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

...

.

خطاب عام:

كل خطابات القرآن هي دون شك شاملة لكل المسلمين وإن اتجهت إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (اللهم إلاّ في مواضع دل الدليل على أنّها خاصّة بالنّبي)، من هنا يطرح سؤال بشأن سبب اتّجاه الآية الّتي نحن بصددها في الخطاب إلى النّبي تارة تأمره أن يصلي شطر المسجد الحرام، وتارة أخرى إلى عامة المسلمين.

هذا التكرار قد يعود إلى أنّ تغيير القبلة مسألة مثيرة حساسة، ومن الممكن أن تؤدي الضجة التي تثيرها هذه المسألة إلى اضطراب بين المسلمين، وقد يتذرع بعض في وسط هذه الضجة بأن الخطاب «فولّ وجهك» موجه إلى النّبي خاصة، فلا يصلي تجاه الكعبة. لذلك خاطبت الآية الرّسول مرة وعامة المسلمين مرّة أخرى لتؤكد أن هذا التغيير غير خاص بالرّسول، بل يشمل عامّة المسلمين أيضاً.

هل الهدف من هذا التغيير تحقيق رضى النّبي؟

عبارة «قِبْلَةً تَرْضَاهَا» قد توهم أن هذا التغيير تم إرضاءً للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويزول هذا التوهم لو علمنا أن بيت المقدس كان قبلة مؤقتة، وأن النّبي كان ينتظر القبلة النهائية، وبصدور أمر التغيير وضع حد لطعن اليهود من جهة، وتوفرت أرضية استمالة أهل الحجاز المرتبطين ارتباطاً خاصاً بالكعبة نحو الإِسلام من جهة أخرى، كما أن إعلان بيت المقدس كقبلة أولى أزال عن الإسلام الطابع القومي، وأسقط إعتبار الأصنام المتواجدة في الكعبة.

الكعبة مركز دائرة كبرى:

لو نظر شخص من خارج الكرة الأرضية إلى المصلين المسلمين لرأى دوائر متعددّة بعضها داخل بعض وتضيق بالتدريج لتصل إلى المركز الأصلي المتمثل بالكعبة. وهذه الصورة توضح محورية ومركزية بيت الله الحرام. وهذه ظاهرة متميزة في الإسلام دون سواه من الأديان.

جدير بالذكر أن ضرورة اتجاه المسلمين شطر المسجد الحرام كان باعثاً على تطور علم الهيئة وعلم الجغرافيا والفلك عند المسلمين بسرعة مدهشة خلال العصور الإسلامية الأولى، لأن معرفة جهة القبلة في مختلف بقاع الأرض ما كانت متيسّرة من دون معرفة بهذه العلوم.