في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ} (144)

142

بعد ذلك يعلن استجابة الله لرسوله [ ص ] في أمر القبلة ؛ ويعلن عن هذه القبلة مع تحذير المسلمين من فتنة يهود ، وكشف العوامل الحقيقية الكامنة وراء حملاتهم ودسائسهم . . في صورة تكشف عن مدى الجهد الذي كان يبذل لإعداد تلك الجماعة المسلمة ، ووقايتها من البلبلة والفتنة :

قد نرى تقلب وجهك في السماء ، فلنولينك قبلة ترضاها ، فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره . وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ، وما الله بغافل عما يعملون . ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ، وما أنت بتابع قبلتهم ، وما بعضهم بتابع قبلة بعض . ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين . الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون . الحق من ربك فلا تكونن من الممترين . ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ، أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا ، إن الله على كل شيء قدير . ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام . وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون . ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، لئلا يكون للناس عليكم حجة . إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ، ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون . .

وفي مطلع هذه الآيات نجد تعبيرا مصورا لحالة النبي [ ص ] :

( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) . .

وهو يشي بتلك الرغبة القوية في أن يوجهه ربه إلى قبلة غير القبلة التي كان عليها . بعدما كثر لجاج اليهود وحجاجهم ؛ ووجدوا في اتجاه الجماعة المسلمة لقبلتهم وسيلة للتمويه والتضليل والبلبلة والتلبيس . . فكان [ ص ] يقلب وجهه في السماء ، ولا يصرح بدعاء ، تأدبا مع ربه ، وتحرجا أن يقترح عليه شيئا ، أو أن يقدم بين يديه شيئا .

ولقد إجابه ربه إلى ما يرضيه . والتعبير عن هذه الاستجابة يشي بتلك الصلة الرحيمة الحانية الودود :

( فلنولينك قبلة ترضاها ) . .

ثم يعين له هذه القبلة التي علم - سبحانه - أنه يرضاها :

( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) . .

قبلة له ولأمته . من معه منها ومن يأتي من بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها :

( وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) . .

من كل اتجاه ، في أنحاء الأرض جميعا . . قبلة واحدة تجمع هذه الأمة وتوحد بينها على اختلاف مواطنها ، واختلاف مواقعها من هذه القبلة ، واختلاف أجناسها وألسنتها وألوانها . . قبلة واحدة ، تتجه إليها الأمة الواحدة في مشارق الأرض ومغاربها . فتحس أنها جسم واحد ، وكيان واحد ، تتجه إلى هدف واحد ، وتسعى لتحقيق منهج واحد . منهج ينبثق من كونها جميعا تعبد إلها واحدا ، وتؤمن برسول واحد ، وتتجه إلى قبلة واحدة .

وهكذا وحد الله هذه الأمة . وحدها في إلهها ورسولها ودينها وقبلتها . وحدها على اختلاف المواطن والأجناس والألوان واللغات . ولم يجعل وحدتها تقوم على قاعدة من هذه القواعد كلها ؛ ولكن تقوم على عقيدتها وقبلتها ؛ ولو تفرقت في مواطنها وأجناسها وألوانها ولغاتها . . إنها الوحدة التي تليق ببني الإنسان ؛ فالإنسان يجتمع على عقيدة القلب ، وقبلة العبادة ، إذا تجمع الحيوان على المرعى والكلأ والسياج والحظيرة !

ثم . . ما شأن أهل الكتاب وهذه القبلة الجديدة ؟

( وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ) . .

إنهم ليعلمون أن المسجد الحرام هو بيت الله الأول الذي رفع قواعده إبراهيم . جد هذه الأمة الوارثة وجد المسلمين أجمعين . وإنهم ليعلمون أن الأمر بالتوجه إليه حق من عند الله لا مرية فيه . .

ولكنهم مع هذا سيفعلون غير ما يوحيه هذا العلم الذي يعلمونه . فلا على المسلمين منهم ؛ فالله هو الوكيل الكفيل برد مكرهم وكيدهم :

( وما الله بغافل عما يعملون ) . .

إنهم لن يقتنعوا بدليل ، لأن الذي ينقصهم ليس هو الدليل ؛ إنما هو الإخلاص والتجرد من الهوى ، والاستعداد للتسليم بالحق حين يعلمونه :