قال العلماء : هذه الآيةُ متقدِّمةٌ في النزول على قَوْلِهِ تَعَالى :
{ سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ } [ البقرة : 143 ] .
ومَعْنَى " تقلُّب وَجْهِكَ " : تحرُّك وَجْهِكَ إلى السَّمَاءِ .
اعلم أنَّ " قَدْ " هذه قال فيها بعضُهم : إنها تَصْرفُ المضارعَ إلى مَعْنى المُضِيّ ، وجَعَلَ مِنْ ذلك هذه الآيةَ وأمثالَها ، وقوْلَ الشاعِرِ : [ الطويل ]
829 - لِقَوْمٍ لَعَمْرِي قَدْ نَرَى أَمْسِ فِيهُمُ *** مَرَابِطَ للأَمْهَارِ وَالعَكَرِ الدَّثِرْ{[1842]}
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : " قَدْ نَرَى " : رُبَّما نَرَى ، ومعناه كثرةُ الرؤية ؛ كقوله : [ البسيط ]
830 - قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُضفَرًّا أَنَامِلُهُ *** كَأَنَّ أَثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفُرْصَادِ{[1843]}
قال أَبُو حَيَّان{[1844]} : وشرحه هذا على التحقيق مُتَضَادّ ؛ لأنه شرح " قَدْ نَرَى " ب " رُبَّمَا نَرَى " ، و " ربّ " على مَذْهب المحققين إنما تكون لِتَقْلِيل الشَّيْءِ في نَفْسِه ، أو لتقليل نَظِيره .
ثُمَّ قال : " ومعناه كثرةُ الرُّؤْيةِ " فهو مضادٌّ لمدلولِ " رُبّ " على مذهب الجمهور .
ثم هذا الذي ادَّعاه من كثرة الرؤية لا يدل عليه اللفظ ، لأنه لم توضع للكثرة " قد " مع المضارع ، سواء أريد به المضي أم لا ، وإنَّما فُهِمَتِ الكَثْرة من متعلّق الرؤية ، وهو التقلب .
قوله : " في السَّمَاءِ " في متعلّق الجار ثلاثةُ أَقْوالٍ :
أحدهما : أنه المصدرُ ، وهو " تَقَلُّب " ، وفي " في " حينئذٍ وَجْهَان :
أحدهما : أنها على بَابِهَا من الظرفية ، وهو الواضِحُ .
والثَّاني : أنها بمعنى " إلَى " أي : إلى السَّمَاءِ ولا حاجةَ لذلك ، فإنَّ هذا المصْدَرَ قد ثَبَت تعديه ب " في " ، قال تعالى : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ } [ آل عمران : 196 ] .
والثاني من الأقوال : أنه " نَرَى " ، وحينئذٍ تَكُون " فِي " بمعنى " مِنْ " أي : قد نرى من السَّماءِ ، وذِكْرُ السماءِ وإن كان تَعَالى لا يتحيّز في جِهَةٍ على سَبيل التشريفِ .
والثالث : أنه محل نَصْب على الحَال من " وَجْهِكَ " ذكره أَبُو البَقَاءِ ، فيتعلّق حينئذ بمحذُوفٍ ، والمصدرُ هنا مضافٌ إلى فَاعِله ، ولا يجوزُ أنْ يكُونَ مُضَافاً إلى مَنْصُوبه ؛ لأنه مصدرُ ذلك التقلِيبِ ، ولا حَاجَةَ إلى حَذْفٍ ، ومِنْ قَوْلِه : " وَجْهَكَ " وهو بَصَر وَجْهِك ، لأن ذلك لا يكاد يستعمل ، بل ذكر الوجه ؛ لأنه أشرف الأعضاء ، وهو الذي يقلبه السَّائل في حاجته ، وقيل : كنى بالوجه عن البصر ؛ لأنه محلّه .
قوله : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً } " الفَاء " هنا للِتَّسَبُّب وهو وَاضِحٌ ، وهذا جوابُ قَسَم مَحْذُوفٍ ، أيْ : فوالله لنولّينَّكَ ، و " نُولِّي " يتعدّى لاثْنين : الأولُ الكَافُ ، والثَّانِي " قِبْلَةُ " و " تَرْضَاهَا " الجملة في محلّ نَصْبٍ صفةً ل " قبلة " .
قال أَبُو حَيَّان{[1845]} : وهذا ؛ يعني : " فَلَنولّينك " يدلّ على أن الجملةَ السابقةَ محذوفة تقديرهُ : قَدْ نَرَى تقلّب وَجْهِكَ في السَّماء طَالِباً قبلة غير التي أَنْت مُسْتقبلها .
القولُ الأولُ : وهو المشهورُ الذي عليه أَكْثر المُفَسِّرين أن ذلك كان لانتظارِ تَحْوِيله من " بيتِ المقْدِس " إلى الكَعْبة ، وذكروا في ذلك وجوهاً :
أحدها : أنه كان يكره التوجّه إلى بيت المقْدِس ، ويحبّ التوجّه إلى الكَعْبة ، إلاّ أنه ما كان يتكلَّم بذلك ، فكان يقلّب وجْهَهُ في السَّماء لهذا المعنى .
رُوي عن عباس أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : " يَا جِبريلُ وَدِدْتُ أنَّ اللَّهَ - تَعَالى - صَرَفَنِي عَنْ قِبْلَةِ اليَهُود ، إلَى عَيْنِهَا فَقَدْ كَرِهْتُهَا " .
فقال جبريلُ عليه الصلاة والسلام " أنَا عَبْدٌ مِثْلُكَ فَاسْأَلْ ربَّكَ ذَلِكَ " .
فجَعَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُدِيمُ النَّظرَ إلى السماء ؛ رجاء مجيء جِبْرِيلَ بما سأَلَ ، فأَنْزل الله تعالى هذه الآية{[1846]} ، وهؤلاءِ ذكروا في سببِ هذه المِحْنة أموراً :
الأولُ : أنَّ اليَهُودَ كانوا يَقُولُونَ : إنه يُخَالِفُنَا ، ثم إنه يتبع قِبْلَتَنَا ، ولولا نحْنُ لم يدر أَيْن يستقبل . فعند ذلك كَرِهَ أن يتوجّه إلى قِبْلتهم{[1847]} .
الثَّاني : أنَّ الكَعْبة كانتِ قِبْلة إبْراهيم عليه الصلاة والسلام .
[ الثَّالث : أنه - صلوات الله وسلامه عليه - كان يقدِّرُ أن يَصِير ذلك سبباً لاسْتمالة العرب ، ولدخولهم في الإسلامِ .
الرَّابع : أنه - عليه الصلاة والسلام - أَحَبَّ{[1848]} ] أن يحصل هذا الشرفُ للمسجدِ الذي في بلْدَتِهِ ومَنْشَئه لا في مسجدٍ آخر .
واعترض القَاضِي على هذا الوجْهِ ، وقال : إنه لا يَلِيقُ به - عليه الصلاة والسلام - أن يكره قِبْلَةً أُمِرَ أَنْ يُصَلِّي إليها ، ويحبّ أن يحوله ربُّه عنها إلى قِبْلَةٍ يَهْوَاها بطبْعِه ، ويميلُ إِلَيْها بحسب شَهْوتِه ؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - علم أنَّ الصَّلاحَ في خلاف الطَّبْعِ والمَيْلِ .
قال ابنُ الخَطِيب : وهذا قليلُ التحْصِيل ؛ لأنَّ المُسْتنكَرَ من الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يعرض عما أمره الله - تعالى - به ، ويشتغل بما يدعوه طبعه إليه .
فأما أن يميل قلبه إلى شيء ، فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه ، فذلك مما لا إنكار عليه ، لا سيما إذا لم ينطق به ، [ أي بعد في أن يميل طبع الرسول إلى شيء ، فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه ، وهذا مما لا استبعاد فيه بوجه من الوجوه ]{[1849]} .
الوجهُ الثاني : أنه - عليه الصلاةُ والسلامُ - قد استأذَنَ جبريل - عليه السلام - في أن يدعو الله - تعالى - بذلك ، فأخبره جبريل - عليه الصلاة والسلام - بأن الله قد أذن له في هذا الدعاء ، وذلك لأن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئاً إلا بإذن منه ، لئلا يسألون ما لا صَلاَحَ فيه ، فلا يجابوا إليه ، فيفضي ذلك إلى تحقير شأنهم ، فلما أذن الله - تعالى - له في الإجابة ، علم أنه يستجاب إليه ، فكان يقلّب وجهه في السَّماء ينتظر مجيء جبريل - عليه السلام - بالوَحْيِ في الإجابة .
الوجه الثالث : قال الحسن : إن جبريل - عليه السلام - أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره أن الله - تعالى سيحوّل القبلة عن بيت المقدس إلى قبلة أخرى ، ولم يبين له إلى أي موضع يحوّلها ، ولم تكن قبلة أحبّ إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - من الكَعْبة ، فكان رسول الله يقلّب وجهه في السّماء ينتظر الوحي ؛ لأنه - عليه السلام - على أنّ الله تعالى لا يتركه بغير صلاة ، فأتاه جبريل عليه السلام ، فأمره أن يصلّي نحو الكعبة .
والقائلون بهذا الوجه اختلفوا ، فمنهم من قال : إنه - عليه السلام - منع من استقبال " بيت المقدس " ولم يعين له القِبْلة ، فكان يخاف أن يرد وقت الصلاة ، ولم تظهر القبلة ، فتتأخر صلاته ، فلذلك كان يقلّب وجهه . عن الأصم .
وقال آخرون : بل وعد بذلك ، وقِبْلة بيت المقدس باقية ، بحيث تجوز الصلاة إليها ، لكن لأجل الوعد كان يتوقع ذلك ، ولأنه كان يرجو عند التحويل عن " بيت المقدس " إلى " الكعبة " وجوهاً كثيرة من المصالح الدينية :
نحو : رغبة العرب في الإسلام ، والمُبَاينة عن اليهود ، وتَمْيِيز المُوافق من المُنَافِق ، لهذا كان يقلّب وجهه ، وهذا الوجه أولى ، وإلاّ لما كانت القِبْلَة الثانية ناسخة للأُولى ، [ بل كانت مبتدأه .
والمفسرون أجمعوا على أنها ناسخة للأولى{[1850]} ] ، ولأنه لا يجوز أن يؤمر بالصلاة إلاَّ مع بيان موضع التوجّه .
الرابع : أن تقلب وجهه في السَّماء هو الدعاء .
القول الثاني : وهو قول أبي مسلم الأَصْفَهَاني ، قال : لولا الأخبار التي دلّت على هذا القول ، وإلا فلفظ الآية يحتمل وجهاً آخر ، وهو أنه يحتمل أنه - عليه الصلاة والسلام - إنما كان يقلّب وجهه في أول مقدمه " المدينة " .
فقد روي أنه - عليه السلام - كان إذا صلّى ب " مكة " جعل الكعبة بينه وبين " بيت المقدس " ، وهذه صلاة إلى الكعبة ، فلما هاجر لم يعلم أين يتوجه ، فانتظر أمر الله - تعالى - حتى نزل قوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
اختلفوا في صلاته إلى بيت المقدس ، فقال قوم : كان ب " مكة " يصلي إلى الكعبة{[1851]} فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه [ إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً .
وقال قوم : بل كان ب " مكة " يصلي إلى بيت المقدس ، إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبينها .
وقال قوم : بل كان يصلي إلى بيت المقدس فقط وب " المدينة " أولاً سبعة عشر شهراً ، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة لما فيه من الصلاح .
واختلفوا في توجه النبي صلى الله عليه وسلم ]{[1852]}إلى بيت المقدس هل كان فرضاً لا يجوز غيره ، أو كان مخيراً في التوجه إليه وإلى غيره ، فقال الربيع بن أنس : قد كان مخيراً في ذلك . وقال ابن عباس : كان التوجه إليه فرضاً .
وعلى كلا الوجهين صار منسوخاً ، واحتج الأولون بالقرآن والخبر .
أما القرآن فقوله تعالى : { وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } [ البقرة : 115 ] .
وذلك يقتضي كونه مخيراً في التوجه إلى أي جهة شاء .
وأما الخبر فما روى أبو بكر الرّازي في كتاب " أحكام القرآن " : أن نَفَراً قصدوا الرسول - عليه الصلاة والسلام - من " المدينة " إلى " مكة " للبيعة قبل الهِجْرَةِ ، وكان فيهم البراء بن معرور ، فتوجّه بصلاته إلى الكعبة في طريقه ، وأبى الآخرون ، وقالوا : إنه - عليه الصلاة والسلام - يتوجّه إلى بيت المقدس ، فلما قدموا " مكة " سألوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له : قد كنت على قبلة يعني بيت المقدس لو ثَبَتَّ عليها أجزأك ، ولم يأمره باستئناف الصلاة ، فدلّ على أنهم قد كانوا مخيرين .
واحتجّ الذاهبون إلى القول الثَّاني بأنه - تعالى - قال : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } فدلّ على أنه - عليه السلام - ما كان يرتضي القبلة الأولى ، فلو كان مخيراً بينها وبين الكعبة ما كان يتوجّه إليها ، فحيث توجّه إليها مع أنه كان ما يرتضيها علمنا أنه ما كان مخيراً بينها وبين الكَعْبة .
فصل في نسخ التوجه إلى بيت المقدس
المشهور أن التوجّه إلى " بيت المقدس " إنما صار منسوخاً [ بالأمر بالتوجّه إلى الكعبة .
ومن الناس من قال : التوجّه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله تعالى : { وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } ثم إن ذلك صار منسوخاً بقوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
أما القرآن فهو أنه تعالى ذكر أولاً قوله : { وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } ] {[1853]} ثم ذكر بعده : { سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] ثم ذكر بعده : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام } .
وهذا الترتيب يقتضي صحّة المذهب الذي قلناه بأن التوجّه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
فلزم أن يكون قوله تعالى : { سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاس } [ متأخراً في النزول والدرجة عن قوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام } فحينئذ يكون تقديمه عليه في الترتيب على خلاف الأصل ، فثبت ما قلناه .
وأما الأثر فما{[1854]} ] روي عن ابن عباس أن أمر القبلة أول ما نسخ من القُرْآن ، والأمر بالتوجه إلى بيت المقدس غير مذكور في القرآن ، إنما المذكور في القرآن { وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } فوجب أن يكون قوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ناسخاً لذلك ، لا للأمر بالتوجه إلى " بيت المقدس " .
قوله : " فَلَنُوَلِّيَنَكَ " : فلنعطينّك ولنمكننّك من استقبالها من قولك : ولّيته كذا ، إذ جعلته والياً له ، أو فلنجعلنّك تَلِي سَمْتها دون سَمْت بيت المقدس .
قوله : " تَرْضَاهَا " فيه وجوه :
أحدها : ترضاها : تحبّها وتميل إليها ؛ لأن الكعبة كانت أحبّ إليه من غيرها بحسب ميل الطبع ، وتقدم كلام القاضي عليه وجوابه .
وثانيها : " قِبْلَةً تَرْضَاهَا " أي : تحبها بسبب اشتمالها على المَصَالح الدينية .
وثالثها : قال الأصم : أي : كل جهة وجّهك الله إليها ، فهي لك رضا لا يجوز أن تسخط كما فعل من انقلب على عقبيه من العرب الذين كانوا قد أسلموا ، فلما تحولت القبلة ارتدوا .
ورابعها : " تَرْضَاهَا " أي : ترضى عاقبتها ؛ لأنك تعرف بها من يتبعك للإسلام ، مما يتبعك لغير ذلك من دنيا يصيبها ، أو مال يكتسبه .
قوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } " ولّى " يتعدى لاثنين :
ويجوز أن ينتصب " شَطْرَ " على الظرف المكاني ، فيتعدى الفعل لواحد ، وهو قول النحاس ، ولم يذكر الزمخشري غيره .
والأول : أوضح ، وقد يتعدى إلى ثانيهما ب " إلى " . [ والمراد من الوجه ها هنا جملة بدن الإنسان ؛ لان الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط ، والوجه قد يُراد به العضو ، وقد يعبر عن كل الذات بالوجه .
قال أهل اللغة : " الشطر " اسم مشترك يقع على معنيين :
أحدهما : النصف من الشيء والجزء منه ، يقال : شطرت الشيء ، أي : جعلته نصفين ، ويقال في المَثَل : اجلب جلباً لك شطره ، أي : نصفه .
ومنه الحديث : " الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ " .
ويقال : شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه ، وشطر من كذا إذا ابتعد عنه وأعرض ، ويكون بمعنى الجهة والنحو ، واستشهد الشافعي - رضي الله عنه - في كتاب " الرسالة " في هذا بأربعة أبيات ]{[1855]} قال : [ الوافر ]
831 - أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي رَسُولاً *** وَمَا تُغْنِي الرِّسَالَةُ شَطْرَ عَمْرِو{[1856]}
832 - أَقُولُ لأُمِّ زِنْبَاعِ أَقِيمِي *** صُدُورَ العِيْسِ شَطْرَ بَنِي تَمِيمِ{[1857]}
833 - وَقَدْ أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمُ *** هَوْلٌ لَهُ ظُلَمٌ يَغْشَاكُمْ قِطَعَا{[1858]}
وقال ابْنُ أَحْمَر : [ البسيط ]
834 - تَعْدُو بِنَا شَطْرَ نَجْدٍ وَهْيَ عَاقِدَةٌ *** قَدْ قَارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفادِهَا الحُقبَا{[1859]}
835 - وَأَطْعَنُ بِالرُّمْحِ شَطْرَ المُلُو *** كِ . . . {[1860]}
836 - إِنَّ العَسِيرَ بِهَا دَاءٌ يُخَامِرُهَا *** وَشَطْرَهَا نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ{[1861]}
كل ذلك بمعنى : " نحو " و " تلقاء " [ فعلى هذا المراد الجهة ، وهو قول جمهور المفسّرين من الصحابة والتابعين والمتأخرين ، واختار الشافعي - رضي الله عنه - أن المراد جهة المسجد الحرام وتلقاءه . وقرأ أبي بن كعب تلقاء المسجد الحرام .
قال القرطبي : وهو في حرف ابن مسعود : " تِلْقَاء المسجد الحرام " ، وقال الجبائي : المراد من التشطير هاهنا وسط المسجد ، ومنتصفه ؛ لأن الشطر هو النصف ، والكعبة لما كانت واقعة في نصف المسجد حسن أن يقول : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } يعني : النصف من كل جهة ، كأنه عبارة عن بُقْعة الكعبة ، وهذا اختيار القاضي ، ويدل عليه وجهان :
الأول : أن المصلي خارج المسجد لو وقف بحيث يكون متوجهاً إلى المسجد ولكن لا يكون متوجهاً إلى منتصف المسجد الذي هو موضع الكعبة لم تنفع صلاته .
الثاني : لو فسرنا الشطر بالجانب لم يَبْق لذكر الشطر مزيد فائدة ؛ لأنك لو قلت : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } لحصلت الفائدة المطلوبة .
وإذا فسرنا الشطر بما ذكرناه كان لذكره فائدة زائدة ]{[1862]} .
ويقال : شَطر : بعد ، ومنه : الشّاطر ، وهو الشّاب البعيد من الجيران الغائب عن منزله ، ويقال : شَطَر شُطُوراً .
والشَّطِيرُ : البعيد ، ومنه : منزل شَطِيرٌ ، وشطر إليه أي : أقبل .
وقال الراغب : وصار يعبر بالشّاطر عن البعيد ، وجمعه : شُطُرٌ ، والشاطر أيضاً لمن يتباعد من الحق ، وجمعه شُطَّارٌ .
[ فصل في الكلام على المسجد الحرام
قال الأزرقي : ذرع المسجد الحرام مقصراً مائة ألف وعشرون ألف ذِرَاع ، وعدد أساطينه من شقّه الشَّرْقي : مائة وثلاث أُسْطُوَانات . ومن شقّه الغربي : مائة وخمس أُسْطُوانات ، ومن شقّه الشّامي : مائة وخمس وثلاثون أسطوانة ، ومن شقّه اليمني : مائة وإحدى وأربعون أسطوانة .
وذرع ما بين كل أُسطوانتين ستة أذرع وثلاثة عشر إصبعاً .
وللمسجد الحرام ثلاثة وعشرون باباً ، وعدد شُرُفاته مائتا شرفة واثنان وسبعون شرفة ونصف شرفة ، ويطلق المسجد الحرام ، وَيُرَاد به الكعبة .
قال تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
وقال عليه الصلاة والسلام : " لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ لِثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ : المَسْجِدِ الحَرَامِ " إلى آخره{[1863]} ، ويطلق ويراد به " مَكّة " كلها ، قال سبحانه وتعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [ الإسراء : 1 ] قال المفسرون : كان الإسراء من بيت أُمِّ هانئ بنت أبي طالب .
ويطلق ويراد به " مكة " كلها ، قال سبحانه وتعالى : { ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
قال البعض : حاضرو المسجد الحرام من كان منه دون مسافة نفر .
وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } ، وهل تعتبر هذه المسافة من نفس " مكة " أو من طرف الحرم ؟ والأصح أنها من طرف الحرم ]{[1864]} .
اختلفوا في المراد من المسجد الحرام .
روي عن ابن عباس ، أنه قال : البيت قِبْلة لأهل المسجد{[1865]} ، والمسجد قِبْلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب ، وهذا قول مالك رضي الله عنه .
وقال آخرون : القِبْلة هي الكعبة ، والدليل عليه ما أخرج في " الصحيحين " عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ، قال : أخبرني أسامة بن زيد ، قال : إنه لمّا دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نَوَاحيه كلها ، ولم يصلِّ حتى خرج منه ، فلما خرج صلى ركعتين في قُبُل الكعبة ، وقال : هذه القبلة{[1866]} .
قال القفال : وقد وردت الأخبار الكثيرة في صرف القِبْلة إلى الكعبة .
وفي خبر البراء بن عازب : ثم صرف إلى الكعبة ، وكان يحبّ أن يتوجّه إلى الكعبة .
وفي خبر ابن عمر في صلاة أهل قباء : فأتاهم آت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حول إلى الكعبة .
وفي رواية ثمامة بن عبد الله بن أنس : جاء منادي رسول الله ، فنادى أن القبلة حولت إلى الكعبة . هكذا عامة الروايات .
وقال آخرون : بل المراد المسجد الحرام الحرمُ كلّه ، قالوا : لأن الكلام يجب إجراؤه على ظاهر لفظه ، إلاّ إذا منع منه مانع .
وقال آخرون : المراد من المسجد الحرام الحرمُ كلّه ، والدليل عليه قوله تعالى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }
[ الإسراء : 1 ] وهو - عليه الصلاة والسلام - إنما أسري به خارج المسجد ، فدلّ هذا على أن الحرم كله مسمى بالمسجد الحرام .
وقوله تعالى : { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ } هنا وجهان :
أظهرهما : أنها شرطية ، وشرط كونها كذلك زيادة " ما " بعدها خلافاً للفراء ، ف " كنتم " في محلّ جزم بها ، و " فولُّوا " جوابها ، وتكون هي منصوبة على الظرفية ب " كنتم " فتكون هي عاملة فيه الجزم ، وهو عامل فيها النصب نحو :{ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَآءَ الْحُسْنَى } [ الإسراء : 110 ] .
واعلم أن " حَيْثُ " من الأسماء اللازمة للإضافة فالجملة التي بعدها كان القياس يقتضي أن تكون في محلّ خفض بها ، ولكن منع من ذلك مانع ، وهو كونها صارت من عوامل الأفعال .
قال أبو حيان : وحيث هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة ، فهي مقتضية للخفض بعدها ، وما اقتضى الخفض لا يقتضي الجزم ؛ لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال والإضافة موضحة لما أضيف ، كما أن الصلة موضحة ، فينافي اسم الشرط ؛ لأن اسم الشرط مبهم ، فإذا وصلت ب " ما " زال منها معنى الإضافة ، وضمنت معنى الشرط وجُوزِيَ بها ، وصارت من عوامل الأفعال .
والثاني : أنها ظرف غير مضمن معنى الشرط ، والناصب له قوله : " فولّوا " قاله أبو البقاء ، وليس بشيء ، لأنه متى زيدت عليها " ما " وجب تضمّنها معنى الشرط . وأصل " ولّوا " : وليوا ، فاستثقلت الضمة على الياء ، فحذفت ، فالتقى ساكنان فحذف أولهما ، وهو الياء وضم ما قبله ليجانس الضمير ، فوزنه " فعوا " .
وقوله : " شَطْرَهُ " فيه القولان ، وهما : إما المفعول به ، وإما الظرفية كما تقدم .
فصل في الصلاة في المسجد الحرام
قال صاحب التهذيب : الجماعة إذا صلوا في المسجد الحرام يستحب أن يقف الإمام خلف المقام ، والقوم يقفون مستدبرين البيت ، فإن كان بعضهم أقرب إلى البيت من الإمام جاز ، فلو امتدّ الصف في المسجد ، فإنه لا تصحّ صلاة من خرج عن مُحَاذاة الكعبة .
وعند أبي حنيفة تصحّ ؛ لأن عنده الجهة كافية . وحجة الشّافعي رضي الله عنه : القرآن والخبر والقياس .
أما القرآن فهو ظاهر هذه الآية ، وذلك لأنا دللنا على أن المراد من شطر المسجد الحرام جانبه ، وجانب الشيء هو الذي يكون محاذياً له ، وواقعاً في سَمْته ، والدليل عليه أنه لو كان كل واحد منهما إلى جانب المشرق ، إلا أنه لا يكون وجه أحدهما محاذياً لوجه الآخر ، لا يقال : إنه ولّى وجهه إلى جانب عمرو ، فثبت دلالة الآية على أن استقبال عين الكعبة واجب .
وأما الخبر فما روينا أنه - عليه الصلاة والسلام - لما خرج من الكعبة ركع ركعتين في قِبْلة الكعبة ، وقال : " هَذِهِ القِبْلَةُ " .
وهذه الكلمة تفيد الحصر ، فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة ، وكذلك سائر الأخبار التي رَوَيْنَاها في أن القبلة هي الكعبة .
وأما القياس فهو أن مبالغة الرسول صلى الله عليه وسلم في تعظيم الكعبة أمر بلغ التواتر ، والصلاة من أعظم شعائر الدين ، وتوقيف صحتها على استقبال عين الكعبة مما يوجب حصول مزيد شرف الكعبة ، فوجب أن يكون مشروعاً ، ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم ، وكون غيرها قبلة أمر مَشْكُوك ، والأَوْلَى رعاية الاحتياط في الصلاة ، فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال الكعبة .
واحتج أبو حنيفة بظاهر الآية ؛ لأنه - تعالى - أوجب على المكلف أن يولّي وجهه إلى جانبه ، فمن ولى وجهه إلى الجانب الذي حصلت الكعبة فيه ، فقد أتى بما أمر به ، سواء كان مستقبلاً الكعبة أم لا ، فوجب أن يخرج على العهدة .
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ قِبْلَةٌ " {[1867]} .
قال أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى : ليس المراد من هذا الحديث أن كلّ ما يصدق عليه أنه بين مشرق ومغرب فهو قبلة ؛ لأن جانب القُطب الشمالي يصدق عليه ذلك ، وهو بالاتفاق ليس بقبلة ، بل المراد أن الشيء الذي هو بين مشرق معين ، ومغرب معين قبلة ، ونحن نحمل ذلك على الذي يكون بين المشرق الشتوي ، وبين المغرب الصيفي ، فإن ذلك قبلة ، وذلك لأن المشرق الشتوي جنوبي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل ، والمغرب الصيفي شمالي متباعد عن خطّ الاستواء بمقدار الميل ، والذي بينهما هو سَمْت " مكة " .
قالوا : فهذا الحديث بأن يدل على مذهبنا أَوْلى منه بالدلالة على مذهبكم ، أما فعل الصحابة فمن وجهين :
الأول : أن أهل مسجد " قباء " كانوا في صلاة الصبح ب " المدينة " مستقبلين لبيت المقدس ، مستدبرين للكعبة ؛ لأن " المدينة " بينهما .
فقيل لهم : ألا إن القبلة قد حوّلت إلى الكعبة ، فاستداروا في أثناء الصَّلاة من غير طَلَبِ دلالة ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ، وسمى مسجدهم ب " ذي القبلتين " ومقابلة العين من المدينة إلى " مكة " لا تعرف إلا بأدلّة هندسية يطول النظر فيها ، فكيف أدركوها على البديهة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل ؟
الثاني : أن الناس من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام ، ولم يحضروا قط مهندساً عند تسوية المحراب ، ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة .
الأول : لو كان استقبال عين الكعبة واجباً ، إما علماً أو ظنّاً ، وجب ألاّ تصح صلاة أحد قط ؛ لأنه إذا كان مُحَاذاة الكعبة مقدار نيف وعشرين ذراعاً ، فمن المعلوم أن أهل المشرق والمغرب يستحيل أن يقفوا في مُحَاذاة هذا المقدار ، بل المعلوم أن الذي يقع منهم في مُحَاذاة هذا القدر القليل قليل بالنسبة إلى كثير .
ومعلوم أن العبرة في أحكام الشرع بالغالب ، والنادر ملحق به ، فوجب ألاَّ تصح صلاة أحد منهم لا سيما وذلك الذي وقع في مُحَاذاة الكعبة لا يمكنه أن يعرف أنه وقع في مُحَاذاتها ، وحيث اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أن المحاذاة معتبرة .
فإن قيل : الدائرة وإن كانت عظيمة إلا أن جميع النقط المفروضة عليها تكون محاذية لمركز الدائرة ، فالصفوف الواقعة في العالم بأسرها كأنها دائرة بالكعبة ، والكعبة كأنها نقطة لتلك الدائرة إلا أن الدائرة إذا صَغُرت صغر التَّقَوُّس والانحناء في جميعها ، وإن اتسعت وعظمت لم يظهر التقوس والانحناء في كل واحد من قسمها ، بل نرى كل قطعة منها شبيهاً بالخطّ المستقيم ، فلا جرم صحت الجماعة بصفّ طويل في المشرق والمغرب يزيد طولها على أضعاف البيت ، والكلّ يسمون متوجهين إلى عين الكعبة .
قلنا : هَبْ أن الأمر على ما ذكرتموه ، ولكن القطعة من الدائرة العظيمة ، وإن كانت شبيهة بالخط المستقيم في الحس ، إلا أنها لا بد وأن تكون منحنيةً في نفسها ؛ لأنها لو كانت في نفسها مستقيمة ، وكذا القول في جميع قطع تلك الدائرة ، فحينئذ تكون الدَّائرة مركبة من خطوط مستقيمة يتّصل بعضها ببعض ، فيلزم أن تكون الدائرة إما مضلعة أو خطّاً مستقيماً ، وكل ذلك محال ، فعلمنا أن كل قطعة من الدائرة الكبيرة فهي في نفسها منحنيةٌ ، فالصفوف المتصلة في أطراف العالم إنما يكون كل واحد منها مستقبلاً لعين الكعبة لو لم تكن تلك الصفوف واقعة على خط مستقيم ، بل إذ حصل فيها ذلك الانحناء القليل إلاَّ أن ذلك الانحناء القليل الذي لا يفي بإدراكه الحس ألبتة ، لا يمكن أن يكون في محلّ التكليف ، وإذا كان كذلك كان كل واحد من هؤلاء الصفوف جاهلا بأنه هل هو مستقبل لعين الكعبة أو لا ؟
فلو كان استقبال عين الكعبة شرطاً لكان حصول هذا الشرط مجهولاً للكلّ والشّك في حصول الشرط يقتضي الشَّك في حصول المشروط ، فوجب أن يبقى كل واحد من أهل هذه الصفوف شاكّاً في صحة صلاته ، وذلك يقتضي أن لا يخرج عن العُهْدَة ألبتة .
وحيث اجتمعت الأمة على أنه ليس كذلك علمنا أن استقبال العين ليس بشرط لا علماً ولا ظنّاً ، وهذا كلام بيّن .
الثاني : أنه لو كان استقبال عين الكعبة واجباً لا سبيل إليه إلاّ بالدلالة الهندسية ، وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب ، فكان يلزم أن يكون تعلم الدلالة الهندسية واجباً على كل واحد ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب .
فإن قيل : عندنا استقبال عين الجهة واجب ظنّاً لا يقيناً ، والمفتقر إلى الدلائل الهندسية هو الاستقبال يقيناً لا ظنّاً .
قلنا : لو كان استقبال عين الكعبة واجباً لكان القادر على تحصيل اليقين ، لا يجوز له الاكتفاء بالظن ، والقادر على تحصيل ذلك بواسطة تعلم الدلائل الهندسية ، فكان يجب عليه تعلم تلك الدلائل ، ولما لم يجب ذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب .
الثالث : لو كان استقبال العين واجباً إما علماً أو ظنّاً ، ومعلوم أنه لا سبيل إلى ذلك الظن إلا بنوع من أنواع الأمارات ، وما لا يتأدّى الواجب إلاَّ به فهو واجب ، فكان يلزم أن يكون تعلم تلك الأمارات فرض عَيْن على كل واحد من المكلفين ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال العين غير واجب .
فصل في وجوب الاستقبال في عموم الأمكنة
دلّ قوله تعالى : { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } على وجوب الاستقبال في عموم الأمكنة في الصلاة وغيرها ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : " خَيْرُ المَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ القِبْلَةُ " خرج منه الصلاة حال المُسَايفة ، والخوف ، والمطلوب والخائف والهارب من العدود ، ويبقى فيما عداه على مقتضى الدليل .
فإن قيل : قوله تعالى : { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَه } تكرار لقوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
فالجواب : أن هذا ليس بتَكْرَار ، وبيانه من وجهين :
أحدهما : أن قوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } خطاب مع الرسول - عليه السلام - لا مع الأمة .
وقوله : { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَه } خطاب مع الكل .
وثانيهما : أن المراد بالأولى مخاطبتهم ، وهم ب " المدينة " خاصة ، وقد كان من الجائز لو وقع الاقتصار عليه أن يظن أن هذه القبلة قبلة لأهل " المدينة " خاصة ، فبيّن الله تعالى أنهم أينما حصلوا من بقاع الأرض يجب أن يستقبلوا نحو هذه القبلة .
[ قوله تعالى : { وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } .
قال السُّدٍّي : هم اليهود خاصة ، والكتاب : التوراة{[1868]} .
وقال غيره : أحبار اليهود ، وعلماء النصارى ؛ لعموم اللفظ ، والكتاب التوراة والإنجيل .
فلا بد أن يكون عدداً قليلاً ؛ لأن الكثير لا يجوز عليهم التواطؤ على الكتمان ]{[1869]} .
قوله تعالى : " أَنَّهُ الحَقُّ " يحتمل أن تكون " أن " واسمها وخبرها سادّة مسدّ المفعولين ل " يعلمون " عند الجمهور ، ومسدّ أحدهما عند الأخفش ، والثاني محذوف على أنها تتعدى لاثنين ، وأن تكون سادّة مسد مفعول واحد على أنها بمعنى العِرْفان ، وفي الضمير ثلاثة أقوال :
أحدها : يعود على التولّي المدلول عليه بقوله : " فولّوا " .
والثالث : على النبي صلى الله عليه وسلم ، [ أي : يعلمون أن الرسول مع شرعه ونبوّته حقّ ]{[1870]} ويكون على هذا التفاتاً من خطابه بقوله : " فلنولِّينَّك " إلى الغيبة .
[ قوله تعالى : " من ربهم " متعلق بمحذوف على أنه حال من الحق ، أي كائناً من ربهم ]{[1871]} .
اختلفوا في كيفية معرفتهم فذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : أن قوماً من علماء اليهود كانوا عرفوا في كتب أنبيائهم خبر الرسول ، وخبر القبلة ، وأنه يصلي إلى القبلتين .
وثانيها : أنهم كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله - تعالى - قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام .
وثالثها : أنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لما ظهر عليه من المعجزات ، ومتى علموا نبوته ، فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق ، فكان هذا التحويل حقّاً .
قوله تعالى : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } تقدم معناه .
وقرأ ابن عامر{[1872]} وحمزة والكسائي " تعملون " بالتاء على الخطاب للمسلمين وهو الظاهر أو ل " للذين " على الالتفات تحريكاً لهم وتنشيطاً ، والباقون بالغيبة ردّاً على الذين أوتوا الكتاب ، أو ردّاً على المؤمنين ، ويكون التفاتاً من خطابهم بقوله : " وجوهكم - كنتم " فإن جعلناه خطاباً للمسلمين ، فهو وعد لهم ، وبشارة أي : لا يخفى عليَّ جدّكم واجتهادكم في قَبُول الدين ، فلا أخل بثوابكم .
وإن جعلناه كلاماً مع اليهود ، فهو وعيد وتهديد لهم ، ويحتمل أيضاً أنه ليس بغافل عن مكافأتهم ومجازاتهم ، وإن لم يعجلها لهم ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ } [ إبراهيم : 42 ] .