التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ} (144)

قوله تعالى : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذي أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون ) .

جاء في سبب هذه الآية ما ذكر عن ابن عباس قوله : كان أول ما نسخ من القرآن القبلة وذلك أن رسول الله ( ص ) لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله ( ص ) بضعة عشر شهرا وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء ، فأنزل الله ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) إلى قوله : ( فولوا وجوهكم شطره ) .

وذكر عن البراء أن النبي ( ص ) قبل بيت المقدس سنة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان يعجبه قبلته قبل البيت ، وأنه صلى صلاة العصر وصلى قوم فخرج رجل ممن كان يصلي معه ، فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال : أشهد بلله لقد صليت مع رسول الله ( ص ) قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت .

وفي رواية عن البراء كذلك قال : لما قدم رسول الله ( ص ) المدينة صلى نحو المقدس ستة عشرا شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان رسول الله ( ص ) يحب أن يحول نحو الكعبة فنزلت ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) فصرف إلى الكعبة{[153]} .

إن الله يرى ويعلم تحول وجه النبي ( ص ) إلى السماء متمنيا أن يأمره الله بتحويل قبلته وهو في الصلاة إلى مكة حيث الكعبة الشريفة .

وقد استجاب الله تباركت أسماؤه لهذه الرغبة المستكنة وهذا المطلب القدسي الذي يعتبر عن أصدق معاني الإخلاص والتشوف لأعظم مكان في الأرض ، مكة حيث الكعبة التي جعلها الله مثابة للناس وأمنا .

استجاب الله لما كان يتمناه النبي ( ص ) إذ أعلمه أنه منجز له رغبته بالفعل حتى يرضى وتطمئن نفسه ( فلنولينك قبلة ترضاها ) وذلك هو الوعد اليقين من الله ، الوعد الذي لا يتخلف وهو تحقق حالما أمره الله بالتوجه ناحية الكعبة هو ومن معه ومن بعده من المسلمين إلى قيام الساعة ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) والشطر معناه الجهة أو القصد أو الناحية أو الحيال{[154]} .

واختلف العلماء في حقيقة المراد بالجهة أو الناحية هنا والتي ينبغي على المصلي أن يتوجه صوبها حال الصلاة . فقد ذهب فريق من أهل العلم منهم الشافعي إلى أن المراد بالشطر هنا هو عين الكعبة ، فلا تتم صلاة المسلم إلا إذا استقبل عين الكعبة ، وذلك استنادا إلى ظاهر قوله : ( شطره ) أي جهته المعينة وهي الكعبة . وشطر منصوب على الظرفية المكانية . والهاء ضمير في محل جر مضاف إليه .

وذهب فريق آخر من العلماء وهم الأكثر إلى أن المقصود استقبال الجهة لا العين ، وبذلك يكون معنى شطره جهته أو قبله . وذلك هو الراجح في تقديرنا للأدلة التالية :

أولا : ما رواه ابن عباس أن رسول الله ( ص ) قال : " البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي " وفي حديث آخر عن النبي ( ص ) : " مابين المشرق والمغرب قبله " {[155]} .

ثانيا : أن التكليف باستقبال العين غير مقدور عليه وهو من باب التكليف بالمحال أو بما يشق كثيرا ؛ إذ ليس محققا أن يكون في مستطاع المصلي استقبال البيت عينه . ويمكن أن ينبني على ذلك :

ثالثا : ما لو تصورنا صفا طويلا من المصلين ، فإن من المحال أن يتجه جميعهم إلى نفس البيت ، وحقيقة ذلك ما لو كان طول الصف أضعاف طول البيت ، فإنه لا يكون في استقباله عينا إلا الذين يتساوى مجموع طولهم مع طول البيت نفسه ، أما الآخرون من الصف فلا يستطيعون البتة أن يكونوا قبل البيت بالعين والتحديد ؛ لذلك يمكن الجزم بأن المقصود بالاستقبال الجهة لا العين .

أما المشاهد للكعبة المعاين لها فإن عليه أن يستقبلها نفسها لا محالة ، وهو إن ترك مثل هذا الاستقبال المحدد فلا صلاة له ، ولا يعذر حينئذ إن صلى صوب أية جهة أخرى ، وذلك الذي عليه إجماع العلماء .

وإذا خفيت القبلة على المصلي كأن يجنّ عليه الليل ، أو يكون في سجن مظلم أو زنزانة ضيقة حاشرة غابت فيها معالم القبلة فإن على المصلي في مثل هذه الحال أن يتحرى القبلة ما أمكن ، حتى إذا بذل الجهد المقدور واستبرأت ذمته من وجوب البحث والتحري جاز له أن يصلي صوب الجهة التي وقع عليها استدلاله{[156]} .

وقوله : ( وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ) هذا المدلول وثيق الصلة بما سبق من أحكام ومدلولات وهو رد على أهل الكتاب- اليهود- الذين ساءهم تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى البيت العتيق مع أنهم ( اليهود ) يعلمون تمام العلم أن عملية التحويل لهي حق لا شك فيه ، وأنها قد أوحي بها إلى النبي فامتثل لأمر الله سبحانه . وهم كذلك يقرأون في كتابهم التوراة أن هذا النبي لصادق ، وأنه لا ينطق عن الهوى وأن ما جاءهم به إن هو إلا من عند الله ساء في ذلك الأخبار أو التكليفات الدينية مثل تحويل القبلة وغيرها .

قوله : ( وما الله بغافل عما يعملون ) ذلك تهديد مخوف يرعب الله به أولئك الجاحدين من أهل الكتاب الذين مردوا على المناكفة الغليظة والتحدي اللئيم ، فأبوا إلا الله أن يقاوموا دعوة الإسلام فيناصبوه العداء والحرب من أول مجيئه حتى يومنا هذا وما بعده من أيام إلى قيام الساعة . وبذلك فإن الله يتهدد هؤلاء الفاسدين الجاحدين مرضى النفوس ، وينذرهم بعذابه المنتظر والذي سيحيق بهم والله سبحانه ليس بغافل عنهم . وأداة النفي ( ما ) تعمل عمل ليس ولفظ الجلالة اسمها مرفوع . وخبرها غافل والباء زائدة .


[153]:- أسباب النزول للنيسابوري ص 27.
[154]:- المصباح المنير جـ 1 ص 335.
[155]:- رواه الترمذي عن أبي هريرة.
[156]:- تفسير الطبري جـ 2 ص 172 وما بعدها وأحكام القرآن لابن العربي جـ 2 ص 42 والبدائع جـ 1 ص 118 والمجموع للنووي جـ 3 ص 92 والمغني جـ 1 ص 438..