{ قال إنما أوتيته على علم عندي } فضلت به على الناس واستوجبت به التفوق عليهم بالجاه والمال ، و { على علم } في موضع الحال وهو علم التوراة وكان أعلمهم بها ، وقيل هو الكيمياء وقيل علم التجارة والدهقنة وسائر المكاسب ، وقيل العلم بكنوز يوسف ، و{ عندي } صفة له أو متعلق ب { أوتيته } كقولك : جاز هذا عندي أي في ظني واعتقادي . { أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا } تعجب وتوبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله مع علمه بذلك لأنه قرأه في التوراة وسمعه من حفاظ التواريخ ، أو رد لادعائه للعلم وتعظمه به بنفي هذا العلم عنه أي أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعى . ولم يعلم هذا حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين . { ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون } سؤال استعلام فإنه تعالى مطلع عليها أو معاتبة فإنهم يعذبون بها بغتة ، كأنه لما هدد قارون بذكر إهلاك من قبله ممن كانوا أقوى منه وأغنى أكد ذلك بأن بين أنه لم يكن مطلعا على ما يخصهم بل الله مطلع على ذنوب المجرمين كلهم معاقبهم عليها لا محالة .
جواب عن موعظة واعظيه من قومه . وقد جاء على أسلوب حكاية المحاورات فلم يعطف وهو جواب متصلف حاول به إفحامهم وأن يقطعوا موعظتهم لأنها أمرَّت بطره وازدهاءه .
و { إنما } هذه هي أداة الحصر المركبة من ( إنّ ) و ( ما ) الكافة مصيّرتين كلمة واحدة وهي التي حقها أن تكتب موصولة النون بميم ( ما ) . والمعنى : ما أوتيت هذا المال إلا على علم علمته .
وضمير { أوتيته } عائد إلى ( ما ) الموصولة في قولهم { وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الآخرة } [ القصص : 77 ] . وبني الفعل للنائب للعلم بالفاعل من كلام واعظيه .
و { على علم } في موضع الحال من الضمير المرفوع .
و { على } للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن والتحقق ، أي ما أوتيت المال الذي ذكرتموه في حال من الأحوال إلا في حال تمكني من علم راسخ ، فيجوز أن يكون المراد من العلم علم أحكام إنتاج المال من التوراة ، أي أنا أعلم منكم بما تعظونني به ، يعني بذلك قولهم له { لا تفرح وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض } [ القصص : 76 ، 77 ] . وقد كان قارون مشهوراً بالعلم بالتوراة ولكنه أضلّه الله على علم فأراد بهذا الجواب قطع موعظتهم نظير جواب عمرو بن سعيد بن العاص الملقب بالأشدق لأبي شريح الكعبي حين قدم إلى المدينة أميراً من قبل يزيد بن معاوية سنة ستين فجعل يجهز الجيوش ويبعث البعوث إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير الذي خرج على يزيد ، فقال أبو شريح له : ائذن لي أيها الأمير أحدِّثك قولاً قام به رسول الله الغد من يوم الفتح فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : « إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد شجرة فإن أحد ترخص لقتال رسول الله فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذِن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلِّغ الشاهد الغائب » فقال عمرو بن سعيد : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فارّاً بخربة .
ويجوز أن يكون المراد بالعلم علم اكتساب المال من التجارة ونحوها ، فأراد بجوابه إنكار قولهم : آتاك الله صلفاً منه وطغياناً .
وقوله { عندي } صفة ل { علم } تأكيداً لتمكنه من العلم وشهرته به . هذا هو الوجه في تفسير هذه الجملة من الآية وهو الذي يستقيم مع قوله تعالى عقبه { أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون } الآية ، كما ستعرفه . وذكر المفسرون وجوهاً تسفر عن أشكال أخرى من تركيب نظم الآية في محمل معنى { على } ومحمل المراد من ( العلم ) ومحمل { عندي } فلا نطيل بذكرها فهي منك على طرف الثمام .
وقوله { أولم يعلم } الآية إقبال على خطاب المسلمين .
والهمزة في { أولم يعلم } للاستفهام الإنكاري التعجيبي تعجيبا من عدم جريه على موجب علمه بأن الله أهلك أمما على بطرهم النعمة وإعجابهم لقوتهم ونسيانه حتى صار كأنه لم يعلمه تعجيبا من فوات مراعاة ذلك منه مع سعة علمه بغيره من باب « حفظت شيئا وغابت عنك أشياء » .
وعطف هذا الاستفهام على جملة { قال إنما أوتيته } وهذه جملة معترضة بين أجزاء القصة .
والقوة : ما به يستعان على الأعمال تشبيها لها بقوة الجسم التي تخول صاحبها حمل الأثقال ونحوها قال تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعم من قوة } .
والجمع : الجماعة من الناس . قيل : كان أشياع قارون مائتين وخمسين من بني إسرائيل رؤساء جماعات .
وجملة { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } تذييل للكلام فهو استئناف وليس عطفا على أن الله قد أهلك من قبله . والسؤال المنفي السؤال في الدنيا وليس سؤال الآخرة . والمعنى : يحتمل أن يكون السؤال كناية عن عدم الحاجة إلى السؤال عن ذنوبهم فهو كناية عن علم الله تعالى بذنوبهم ، وهو كناية عن عقابهم على إجرامهم فهي كناية بوسائط . والكلام تهديد للمجرمين ليكونوا بالحذر من أن يؤخذوا بغتة ، ويحتمل أن يكون السؤال بمعناه الحقيقي ، أي لا يسأل المجرم عن جرمه قبل عقابه لأن الله قد بين للناس على ألسنة الرسل بحدي الخير والشر ، وأمهل المجرم فإذا أخذه أخذه بغتة وهذا كقوله تعالى : { حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } وقول النبيء صلى الله عليه وسلم " إن الله يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فرد قارون على قومه حين أمروه أن يطيع الله عز وجل في ماله، وفيما أمره، ف {قال} لهم: {إنما أوتيته} يعني: إنما أعطيته، يعني المال {على علم عندي} يقول: على خير علمه الله عز وجل عندي، يقول الله عز وجل {أولم يعلم} قارون {أن الله قد أهلك} بالعذاب {من قبله من القرون} حين كذبوا رسلهم {من هو أشد منه} من قارون {قوة} وبطشا {وأكثر جمعا} من الأموال... ثم قال عز وجل: {ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون} يقول: ولا يسأل مجرمو هذه الأمة عن ذنوب الأمم الخالية الذين عذبوا في الدنيا، فإن الله عز وجل قد أحصى أعمالهم الخبيثة وعلمها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال قارون لقومه الذين وعظوه: إنما أوتيتُ هذه الكنوز على فضل علم عندي، علمه الله مني، فرضي بذلك عني، وفَضلني بهذا المال عليكم، لعلمه بفضلي عليكم... وقد قيل: إن معنى قوله:"عِنْدِي" بمعنى: أرَى، كأنه قال: إنما أوتيته لفضل علمي، فيما أرَى.
وقوله: "أوَ لَمْ يَعْلَمْ أنّ اللّهَ قَدْ أهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أشَدّ مِنْهُ قُوّةً وأكْثَرُ جَمْعا "يقول جلّ ثناؤه: أو لم يعلم قارون حين زعم أنه أوتي الكنوز لفضل علم عنده علمته أنا منه، فاستحقّ بذلك أن يُؤتى ما أُوتي من الكنوز، أن الله قد أهلك من قبله من الأمم من هو أشدّ منه بطشا، وأكثر جمعا للأموال، ولو كان الله يؤتي الأموال من يؤتيه لفضل فيه وخير عنده، ولرضاه عنه، لم يكن يهلك من أهلك من أرباب الأموال الذين كانوا أكثر منه مالاً، لأن من كان الله عنه راضيا، فمحال أن يهلكه الله، وهو عنه راض، وإنما يهلك من كان عليه ساخطا.
وقوله: "وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ" قيل: إن معنى ذلك أنهم يدخلون النار بغير حساب...
وقيل: معنى ذلك: أن الملائكة لا تسأل عنهم، لأنهم يعرفونهم بسيماهم... كقوله: "يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ" زرقا سود الوجوه، والملائكة لا تسأل عنهم قد عرفتهم.
وقيل معنى ذلك: ولا يُسأل عن ذنوب هؤلاء الذين أهلكهم الله من الأمم الماضية المجرمون فيم أهلكوا... فالهاء والميم في قوله "عَنْ ذُنُوبِهِم" على هذا التأويل لمن الذي في قوله: "أوَ لَمْ يَعْلَمْ أنّ اللّهَ قَدْ أهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أشَدّ مِنْهُ قُوّةً". وعلى التأويل الأوّل... للمجرمين، وهي بأن تكون من ذكر المجرمين أولى، لأن الله تعالى ذكره غير سائل عن ذنوب مذنب غير من أذنب، لا مؤمن ولا كافر. فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أنه لا معنى لخصوص المجرمين، لو كانت الهاء والميم اللتان في قوله "عَنْ ذُنُوبِهم" لمن الذي في قوله "مَنْ هُوَ أشَدّ مِنْهُ قُوّةً" من دون المؤمنين، يعني لأنه غير مسؤول عن ذلك مؤمن ولا كافر، إلاّ الذين ركبوه واكتسبوه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... وقال بعضهم: {إنما أوتيته على علم عندي} أي علم خبر عندي؛ قال ذلك على إثر قول أولئك: {ولا تنس نصيبك من الدنيا} إلى قوله تعالى: {إن الله لا يحب المفسدين}] كأنهم أوعدوه بذهاب ذلك عنه وهلاكه. فقال، والله أعلم {إنما أوتيته على علم عندي} لم أوت جزافا بلا سبب، وكأنه، والله أعلم، نسي الآخرة بما أوتي من المال والكنوز وترك الإنفاق في الخير، وكان عارفا بالله حين قالوا له: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة} وقالوا له: {إن الله لا يحب المفسدين} دل هذا منهم أنه كان عارفا بالله تعالى. وقوله تعالى: {أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا} ذكر هذا، والله أعلم، لما أنه كان يفتخر، ويستكبر على الناس بما أوتي من الأموال والكنوز والأتباع. ويحسب أنه يدفع العذاب الموعود في هذه الدنيا بذلك عن نفسه أو يظن أن من أوتي ذلك لا يعذب كظن أولئك الكفرة حين قالوا: {نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} [سبإ: 35]. فجائز أن كان من قارون من الإعجاب بالكثرة والجمع ما ذكر [أولئك، فقالوا] عند ذلك: {أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا} ثم لم يتهيأ لهم دفع ما نزل بهم من العذاب. فعلى ذلك أنت يا قارون، والله أعلم.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
على علم عندي بالتصرف في التجارات والزراعات وسائر أنواع المكاسب والمطالب.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
لا يسألون عن إحصائها ويعطون صحائفها فيعرفون ويعترفون بها... لا يُسألون سؤال استعتاب: لمَ لَمْ يؤمنوا، قاله ابن بحر كما قال {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ما لاحَظَ أحدٌ نَفْسَه إلا هَلَكَ بإعجابه.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
فإن قال قائل: قد قال تعالى: (فوربك لنسألنهم أجمعين) وأمثال هذا من الآيات، وهاهنا قال: (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) فكيف وجه التوفيق بين الآيتين؟ والجواب إنا بينا أن في القيامة مواقف؛ ففي موقف يسألون، وفي موقف لا يسألون، ويقال: لا يسألون سؤال استعلام، وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ، ويقال: لا يسألون سؤال من له عذر في الجواب، وإنما يسألون على معنى إظهار قبائحهم ليفتضحوا على رءوس الجمع.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{على عِلْمٍ} أي على استحقاق واستيجاب لما فيّ من العلم الذي فضلت به الناس... وقيل: هو بصره بأنواع التجارة والدهقنة وسائر المكاسب. وقيل: {عِندِي} معناه: في ظني، كما تقول الأمر عندي كذا، كأنه قال: إنما أوتيته على علم، كقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا خولناه نِعْمَةً مّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ} [الزمر: 49] ثم زاد {عِندِي} أي هو في ظني ورأيي هكذا. يجوز أن يكون إثباتاً لعلمه بأنّ الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى، لأنه قد قرأه في التوراة، وأخبر به موسى، وسمعه من حفاظ التواريخ والأيام كأنه قيل: {أَوَ لَمْ يَعْلَمْ} في جملة ما عنده من العلم هذا، حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوّته. ويجوز أن يكون نفياً لعلمه بذلك؛ لأنه لما قال: أوتيته على علم عندي، فتنفج بالعلم وتعظم به. قيل: أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة، ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين {وَأَكْثَرُ جَمْعاً} للمال، أو أكثر جماعة وعدداً.
فإن قلت: ما وجه اتصال قوله: {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} بما قبله؟ قلت: لما ذكر قارون من أهلك من قبله من القرون الذي كانوا أقوى منه وأغنى، قال على سبيل التهديد له: والله مطلع على ذنوب المجرمين، لا يحتاج إلى سؤالهم عنها واستعلامهم، وهو قادر على أن يعاقبهم عليها، كقوله تعالى: {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 153] وغيرها، {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283]، [المؤمنون: 51]، [النور: 28] وما أشبه ذلك.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون}... الضمير في {ذنوبهم} عائد على من أهلك من القرون، أي أهلكوا ولم يُسأل غيره بعدهم عن ذنوبهم أي كل واحد إنما يكلم ويعاقب بحسب ما يخصه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان مما قالوه أن الذي أعطاه ذلك إنما هو الله، وكان قد أبطرته النعمة حتى على خالقه حتى حصل التشوف إلى جوابه فقيل في أسلوب التأكيد لأن كل أحد يعلم من نفسه العجز، وأن غيره ينكر عليه فيما يدعي أنه حصله بقوته: {قال إنما أوتيته} أي هذا المال {على علم} حاصل {عندي} فأنا مستحق لذلك، وذلك العلم هو السبب في حصوله، لا فضل لأحد عليّ فيه -بما يفيده التعبير بإنما، وبناء الفعل للمجهول إشارة إلى عدم علمه بالمؤتي من هو، وقد قيل: إن ذلك العلم هو الكيمياء.
ولما كان التقدير: ألا يخاف أن يسلبه الله- عقوبة له على هذا -علمه وماله ونفسه؟ ألم يعلم أن ذلك إنما هو بقدرة الله؟ لا صنع له في الحقيقة في ذلك أصلاً، لأن الله قد أفقر من هو أجل منه حيلة وأكثر علماً، وأعطى أكثر منه من لا علم له ولا قدرة، فهو قادر على إهلاكه، وسلب ما معه وإفنائه، كما قدر على إيتائه، عطف عليه قوله منكراً عليه: {أولم يعلم أن الله} أي بما له به من صفات الجلال والعظمة والكمال {قد أهلك} ونبه على أنه لم يتعظ مع مشاهدته للمهلكين الموصوفين مع قرب الزمان بإدخال من في قوله: {من قبله} ولو حذفها لاستغرق الإهلاك على ذلك الوصف جميع ما تقدمه من الزمان {من القرون} أي الذين هم في الصلابة كالقرون {من هو أشد منه} أي قرون {قوة} أي في البدن، والمعاني من العلم وغيره، والأنصار والخدم {وأكثر جمعاً} في المال والرجال، آخرهم فرعون الذي شاوره في ملكه، وحقق أمره يوم مهم هلكه، وكان يستعبده أمثاله ويسومهم سوء العذاب، ولم يعاملهم معاملة من يحبه ولا امتنع عليه ذلك لعلم عند أحد منهم ولا جمع، بل أخذهم لبغيهم وقبح تقلبهم وسعيهم.
ولما كانت عادة أهل الدنيا أنهم إذا غضبوا من أحد فأرادوا إهلاكه عاتبوه، فتارة يحلف على نفي الذنب فيقبل منه وإن كان كاذباً، وتارة يكشف الحال عن أن باطن أمره على خلاف ما ظهر من شره، فيكون له عذر خفي، أشار سبحانه إلى أن ذلك لا يفعله إلا جاهل بحقائق الأمور ومقادير ما يستحق على كل ذنب من العقوبة، وأما المطلع على بواطن الضمائر وخفايا السرائر فغني عن ذلك، فقال تعالى ذاكراً لحال المفعول وهو {من}: {ولا} أي أهلكهم والحال أنهم لا يسألون- هذا الأصل، ولكنه قال: {يسأل} أي من سائل ما {عن ذنوبهم المجرمون} فأظهر لإفادة أن الموجب للإهلاك الإجرام، وهو قطع ما ينبغي وصله بوصل ما ينبغي قطعه،
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{قَالَ} مُجيباً لناصحيهِ {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِي} كأنَّه يريدُ به الردَّ على قولِهم: كما أحسنَ الله إليك لإنبائِه عن أنَّه تعالى أنعم عليه بتلكَ الأموالِ والذخائرِ من غير سببٍ واستحقاقٍ مِن قِبَلِه أي فُضلت به على النَّاسِ واستوجبت به التفوقَ عليهم بالمالِ والجاهِ.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فما المانع من إهلاك قارون، مع مُضِيِّ عادتنا وسنتنا بإهلاك من هو مثله وأعظم، إذ فعل ما يوجب الهلاك؟. {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} بل يعاقبهم اللّه، ويعذبهم على ما يعلمه منهم، فهم، وإن أثبتوا لأنفسهم حالة حسنة، وشهدوا لها بالنجاة، فليس قولهم مقبولا، وليس ذلك دافعا عنهم من العذاب شيئا، لأن ذنوبهم غير خفية، فإنكارهم لا محل له، فلم يزل قارون مستمرا على عناده وبغيه، وعدم قبول نصيحة قومه، فرحا بطرا قد أعجبته نفسه، وغره ما أوتيه من الأموال.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كذلك قال له قومه: فكان رده جملة واحدة، تحمل شتى معاني الفساد والإفساد:
(قال: إنما أوتيته على علم عندي)!
إنما أوتيت هذا المال استحقاقا على علمي الذي طوع لي جمعه وتحصيله. فما لكم تملون علي طريقة خاصة في التصرف فيه، وتتحكمون في ملكيتي الخاصة، وأنا إنما حصلت هذا المال بجهدي الخاص، واستحققته بعلمي الخاص؟
إنها قولة المغرور المطموس الذي ينسى مصدر النعمة وحكمتها، ويفتنه المال ويعميه الثراء.
وهو نموذج مكرر في البشرية. فكم من الناس يظن أن علمه وكده هما وحدهما سبب غناه. ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك، غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح، غير حاسب لله حسابا، ولا ناظر إلى غضبه ورضاه!
والإسلام يعترف بالملكية الفردية، ويقدر الجهد الفردي الذي بذل في تحصيلها من وجوه الحلال التي يشرعها؛ ولا يهون من شأن الجهد الفردي أو يلغيه. ولكنه في الوقت ذاته يفرض منهجا معينا للتصرف في الملكية الفردية -كما يفرض منهجا لتحصيلها وتنميتها- وهو منهج متوازن متعادل، لا يحرم الفرد ثمرة جهده، ولا يطلق يده في الاستمتاع به حتى الترف ولا في إمساكه حتى التقتير؛ ويفرض للجماعة حقوقها في هذا المال، ورقابتها على طرق تحصيله، وطرق تنميته. وطرق إنفاقه والاستمتاع به. وهو منهج خاص واضح الملامح متميز السمات.
ولكن قارون لم يستمع لنداء قومه، ولم يشعر بنعمة ربه، ولم يخضع لمنهجه القويم. وأعرض عن هذا كله في استكبار لئيم وفي بطر ذميم.
ومن ثم جاءه التهديد قبل تمام الآية، ردا على قولته الفاجرة المغرورة:
(أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا؟ ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون).
فإن كان ذا قوة وذا مال، فقد أهلك الله من قبله أجيالا كانت أشد منه قوة وأكثر مالا. وكان عليه أن يعلم هذا. فهذا هو العلم المنجي. فليعلم. وليعلم أنه هو وأمثاله من المجرمين أهون على الله حتى من أن يسألهم عن ذنوبهم. فليسوا هم الحكم ولا الأشهاد!
(ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون)!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هو جواب متصلف حاول به إفحامهم وأن يقطعوا موعظتهم لأنها أمرَّت بطره وازدهاءه... و {على} للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن والتحقق، أي ما أوتيت المال الذي ذكرتموه في حال من الأحوال إلا في حال تمكني من علم راسخ... وقوله {عندي} صفة ل {علم} تأكيداً لتمكنه من العلم وشهرته به... وقوله {أولم يعلم} الآية إقبال على خطاب المسلمين. والهمزة في {أولم يعلم} للاستفهام الإنكاري التعجيبي تعجيبا من عدم جريه على موجب علمه بأن الله أهلك أمما على بطرهم النعمة وإعجابهم لقوتهم ونسيانه حتى صار كأنه لم يعلمه تعجيبا من فوات مراعاة ذلك منه مع سعة علمه بغيره من باب « حفظت شيئا وغابت عنك أشياء»... وجملة {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} تذييل للكلام فهو استئناف وليس عطفا على أن الله قد أهلك من قبله. والسؤال المنفي السؤال في الدنيا وليس سؤال الآخرة. والمعنى: يحتمل أن يكون السؤال كناية عن عدم الحاجة إلى السؤال عن ذنوبهم فهو كناية عن علم الله تعالى بذنوبهم، وهو كناية عن عقابهم على إجرامهم فهي كناية بوسائط. والكلام تهديد للمجرمين ليكونوا بالحذر من أن يؤخذوا بغتة، ويحتمل أن يكون السؤال بمعناه الحقيقي، أي لا يسأل المجرم عن جرمه قبل عقابه لأن الله قد بين للناس على ألسنة الرسل بحدي الخير والشر، وأمهل المجرم فإذا أخذه أخذه بغتة وهذا كقوله تعالى: {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} وقول النبيء صلى الله عليه وسلم "إن الله يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته».
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
يقول الله تعالى: {ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون}، إشارة إلى حقارة هذا النوع المتكبر المتجبر وهوانه على الله، حتى انه لا يسأل يوم القيامة سؤال استعتاب، لأنه ليس أهلا للعتاب.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} فلا دخل لله في ذلك، فقد خلقني الله من عدم وهذه حقيقة أؤمن بها ولكن المال الذي أملكه كان نتيجة جهدي الذاتي، وفكري المتحرك في اتجاه مواجهة الأوضاع الاقتصادية في الحياة بالتخطيط الدقيق، والحركة الزكيّة الدائمة، والوسائل المتنوعة والوعي الكبير، وهذه هي النتيجة الطبيعية للعلم الذي أملكه، والإرادة التي أحرّكها.
وهذا هو منطق المستكبرين الغافلين الذين يرتبطون بالأمور بشكل مباشر من خلال الحس السطحي، ولا ينفذون إلى أعماقها في جذورها الحقيقية الممتدة في عمق الأسباب الكامنة في واقع الأشياء. وهذا هو الذي حدثنا الله عنه في أكثر من آية، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّما أوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ* قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ* فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ* أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الزمر: 4952] وفي قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الاَْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأرْضِ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ* فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّناتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 82 83].
وهكذا كان هؤلاء ينطلقون في تفسيرهم وتقييمهم لما حصلوا عليه من نتائج ومواقع وأموال كبيرة، من طبيعة نبوغهم العلمي على أساس العلاقة بين الأشياء وأسبابهما المادية، ولا يحاولون الرجوع إلى طبيعة هذه الأسباب، وعلاقتها بالنظام الكوني الذي أودع الله في داخله قوانينه الطبيعية، وسننه الاجتماعية، ووسائله المادية، مما لم يكن له أيّة إمكانية في الوجود بعيداً عن إرادة الله وقدرته في حركة الحياة والإنسان، الأمر الذي يجعل العلم من مفردات النظام العام للوجود، وليس هو السبب الوحيد من جهة، كما أنه ليس شأن الإنسان باستقلاله من جهة أخرى، لأنه هبة العقل الذي خلقه الله، وحركة الحواس التي أبدعها الله.
{أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} فلو فكر بعلمه، لرأى أن الله وحده هو الذي يعطي بإرادته في حركة قانون الحياة، وهو الذي يمنع ويأخذ، فهو القادر على السيطرة على دورة المال في الأرض وفي ملكية الإنسان له، وهو وحده الذي يملك أمر الإنسان كله في وجوده وهلاكه، ولا يملك أيّ شخصٍ الخلاص من ذلك مهما كان قوّياً في جسده وفي مركزه، أو كان غنياً في ماله الذي اجتمع له. وليدرس تاريخ الذين سبقوه من أصحاب القوّة والمال والنفوذ، فقد كانوا أشد منه قوّةً وأكثر جمعاً، فقد استكبروا كما استكبر، واغترّوا بعلمهم كما اغترّ، ولكن الله أهلكهم بذنوبهم وأخذهم بقوّته.
{وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} لأن أمرهم واضح، وجريمتهم محقّقة، فلا مجال فيها للأخذ والرد والسؤال والجواب، لأن المسألة متصلة بالله الذي يعلم كل شيء، ويهيمن على كل شيء، ولهذا فإنه يأخذهم أخذ عزيز مقتدر من دون حاجة إلى أيّ سؤال أو أيّ تحقيقٍ، لأن ذلك كله من أجل معرفة الجريمة، فإذا كانت واضحةً، فلا مجال للبحث عن وسائل الإثبات.