أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلٗا} (55)

{ وما منع الناس أن يؤمنوا } من الإيمان . { إذ جاءهم الهدى } وهو الرسول الداعي والقرآن المبين . { ويستغفروا ربهم } ومن الاستغفار من الذنوب . { إلا أن تأتيهم سنّة الأولين } إلا طلب أو انتظار أو تقدير أن تأتيهم سنة الأولين ، وهي الاستئصال فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه { أو يأتيهم العذاب } عذاب الآخرة . { قُبلاً } عيانا . وقرأ الكوفيون { قُبُلاً } بضمتين وهو لغة فيه أو جمع قبيل بمعنى أنواع ، وقرئ بفتحتين وهو أيضا لغة يقال لقيته مقابلة وقبلاً وقبلاً وقبلياً ، وانتصابه على الحال من الضمير أو { العذاب } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلٗا} (55)

هذه آية تأسف عليهم وتنبيه على فساد حالهم ، لأن هذا المنع لم يكن بقصد منهم أن يمتنعوا ليجيئهم العذاب ، وإنما امتنعوا هم مع اعتقادهم أنهم مصيبون ، لكن الأمر في نفسه يسوقهم إلى هذا ، فكأن حالهم تقتضي التأسف عليهم ، و { الناس } يراد به كفار عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين تولوا دفع الشريعة وتكذيبها{[7833]} ، و { الهدى } هو شرع الله والبيان الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، و «الاستغفار » هنا طلب المغفرة على فارط الذنب كفراً وغيره ، و { سنة الأولين } هي عذاب الأمم المذكورة من الغرق والصيحة والظلمة والريح وغير ذلك ، { أو يأتيهم العذاب قبلاً } أي مقابلة عياناً ، والمعنى عذاباً غير المعهود ، فتظهر فائدة التقسيم وكذلك صدق هذا الوعيد في بدر ، وقال مجاهد : { قبلاً } معناه فجأة وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ومجاهد وعيسى بن عمر «قِبَلا » بكسر القاف وفتح الباء ، وقرأ عاصم والكسائي وحمزة والحسن والأعرج «قُبُلاً » بضم القاف والباء ، ويحتمل معنيين أحدهما أن يكون بمعنى قبل ، لأن أبا عبيدة حكاهما بمعنى واحد في المقابلة ، والآخر أن يكون جمع قبيل ، أي يجيئهم العذاب أنواعاً وألواناً ، وقرأ أبو رجاء والحسن أيضاً : «قُبْلاً » بضم القاف وسكون الباء{[7834]} .


[7833]:قال الزمخشري: "[أن] الأولى نصب، والثانية رفع، وقبلها مضاف محذوف، تقديره: وما منع الناس الإيمان إلا الانتظار أن تأتيهم سنة الأولين وهي الإهلاك، أو انتظار أن يأتيهم العذاب، يعني عذاب الآخرة". وقال أبو حيان بعد أن نقل هذا الكلام عن الزمخشري: "وهو مسترق من قول الزجاج".
[7834]:راجع الجزء الخامس، ص 321 من هذا التفسير.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلٗا} (55)

عطف على جملة { ولقد صرفنا في هذا القرآن } [ الكهف : 54 ] الخ . ومعناها متصل تمام الاتصال بمعنى الجملة التي قبلها بحيث لو عطفت عليها بفاء التفريع لكان ذلك مقتضى الظاهر وتعتبر جملة { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } [ الكهف : 54 ] معترضة بينهما لولا أن في جعل هذه الجملة مستقلة بالعطف اهتماماً بمضمونها في ذاته ، بحيث يعدّ تفريعه على مضمون التي قبلها يحيد به عن الموقع الجدير هُو به في نفوس السامعين إذ أريد أن يكون حقيقة مقررة في النفوس . ولهذه الخصوصية فيما أرى عُدل في هذه الجملة عن الإضمار إلى الإظهار بقوله : وما منع الناس } وبقوله : { إذ جاءهم الهدى } دون أن يقول : وما منعهم أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى قصداً لاستقلال الجملة بذاتها غير مستعانة بغيرها ، فتكون فائدة مستقلة تسْتأهل توجه العقول إلى وعيها لذاتها لا لأنها فرع على غيرها .

على أن عموم { الناس } هنا أشمل من عموم لفظ { الناس } في قوله : { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس } [ الكهف : 54 ] فإن ذلك يعم الناس الذين يسمعون القرآن في أزمان ما بعد نزول تلك الآية ، وهذا يعم الناس كلهم الذين امتنعوا من الإيمان بالله .

وكذلك عموم لفظ { الهدى } يشمل هدى القرآن وما قبله من الكتب الإلهية وأقوال الأنبياء كلها ، فكانت هذه الجملة قياساً تمثيلياً بشواهد التاريخ وأحوال تلقي الأمم دعوات رسلهم .

فالمعنى : ما منع هؤلاء المشركين من الإيمان بالقرآن شيء يَمنع مثلُه ، ولكنهم كالأمم الذين قبلهم الذين جاءهم الهدى بأنواعه من كتب وآيات وإرشاد إلى الخير .

والمرد ب { الأولين } السابقون من الأمم في الضلال والعناد . ويجوز أن يراد بهم الآباء ، أي سنة آبائهم ، أي طريقتهم ودينهم ، ولكل أمة أمةٌ سبقتها .

و { أن تأتيهم } استثناء مفرغ هو فاعل { وما منع } . « ولن يؤمنوا » منصوب على نزع الخافض ، أي من أن يؤمنوا .

ومعنى { تأتيهم سنة الأولين } تحل فيهم وتعتريهم ، أي تُلقى في نفوسهم وتسول إليهم . والمعنى : أنهم يُشبهون خلق من كانوا قبلهم من أهل الضلال ويقلدونهم ، كما قال تعالى : { أتواصوا به بل هم قوم طاغون } [ الذاريات : 53 ] .

وسنة الأولين : طريقتهم في الكفر . وإضافة ( سنة ) إليهم تشبه إضافة المصدر إلى فاعله ، أي السنة التي سَنّها الأولون . وإسناد مَنْعهم من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين استعارة .

والمعنى : ما منع الناس أن يؤمنوا إلا الذي منع الأولين قبلهم من عادة العناد والطغيان وطريقتهم في تكذيب الرسل والاستخفاف بهم .

وذكر الاستغفار هنا بعد ذكر الإيمان تلقين إياهم بأن يبادروا بالإقلاع عن الكفر وأن يتوبوا إلى الله من تكذيب النبي ومكابرته .

و ( أو ) هي التي بمعنى ( إلى ) ، وانتصاب فعل يأتيهم العذاب } ( بأن ) مضمرة بعد ( أو ) . و ( أو ) متصلة المعنى بفعل { منع } ، أي منعهم تقليدُ سنة الأولين من الإيمان إلى أن يأتيهم العذاب كما أتى الأولين .

هذا ما بدا لي في تفسير هذه الآية وأراه أليق بموقع هاته الآية من التي قبلها .

فأما جميع المفسرين فقد تأولوا الآية على خلاف هذا على كلمة واحدة فجعلوا المراد بالناس عينَ المراد بهم في قوله : { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل } [ الكهف : 54 ] ، أي ما منع المشركين من الإيمان بالله ورسوله . وجعلوا المراد بالهدى عين المراد بالقرآن ، وحملوا سنة الأولين على معنى سنة الله في الأولين ، أي الأمم المكذبين الماضين ، أي فإضافة { سنة } إلى { الأولين } مِثل إضافة المصدر إلى مفعوله ، وهي عادة الله فيهم ، أي يعذبهم عذاب الاستيصال .

وجعلوا إسناد المنع من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين ، بتقدير مضاف ، أي انتظار أن تأتيهم سنة الله في الأولين ، أي ويكون الكلام تهكماً وتعريضاً بالتهديد بحلول العذاب بالمشركين ، أي لا يؤمنون إلا عند نزول عذاب الاستيصال ، أي على معنى قوله تعالى : { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا } [ يونس : 102 ] .

وجعلوا قوله : { أو يأتيهم العذاب قبلاً } قسيماً لقوله : { إلا أن تأتيهم سنة الأولين } ، فحرف ( أو ) للتقسيم ، وفعل { يأتيهم } منصوب بالعطف على فعل { أن تأتيهم سنة الأولين } بالاستيصال المفاجىء أو يأتيهم العذاب مواجهاً لهم . وجعلوا { قِبلاً } حالاً من { العذاب } ، أي مقابلاً . قال الكلبي : وهو عذاب السيف يوم بدر . ولعله يريد أنه عذاب مقابلةٍ وجهاً لوجه ، أي عذاب الجلاد بالسيوف . ومعناه : أن المُشركين منهم من ذاق عذاب السيف في غزوات المسلمين ، ومنهم من مات فهو يرى عذاب الآخرة . وعلى هذا التفسير الذي سلكوه ينسلخ من الآية معنى التذييل ، وتُقصر على معنى التهديد .

والإتيان : مجاز في الحصول في المستقبل ، لوجود ( أن ) المصدرية التي تخلص المضارع للاستقبال ، وهو استقبال نسبي فلكل أمة استقبال سنة من قبلها .

والسنة : العادة المألوفة في حال من الأحوال .

وإسناد منعهم الإيمان إلى إتيان سنة الأولين أو إتيان العذاب إسناد مجاز عقلي . والمراد : ما منعهم إلا سبب إتيان سنة الأولين لهم أو إتيان العذاب . وسبب ذلك هو التكبر والمكابرة والتمسك بالضلال ، أي أنه لا يوجد مانع يمنعهم الإيمان يخولهم المعذرة به ولكنهم جروا على سنن من قبلهم من الضلال . وهذا كناية عن انتفاء إيمانهم إلى أن يحل بهم أحد العذابين .

وفي هذه الكناية تهديد وإنذار وتحذير وحث على المبادرة بالاستغفار من الكفر . وهو في معنى قوله تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } [ يونس : 96 ، 97 ] .

و{ قِبَلاً } حال من العذاب . وهو بكسر القاف وفتح الباء في قراءة الجمهور بمعنى المقابل الظاهر . وقرأ حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف { قبلاً } بضمتين وهو جمع قبيل ، أي يأتيهم العذاب أنواعاً .