أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَقَفَّيۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِيقٗا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ} (87)

{ ولقد آتينا موسى الكتاب } أي التوراة { وقفينا من بعده بالرسل } أي أرسلنا على أثره الرسل ، كقوله سبحانه وتعالى : { ثم أرسلنا رسلنا تترى } . يقال قفاه إذا تبعه ، وقفاه به إذا أتبعه إياه من القفا ، نحو ذنبه من الذنب { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، والإخبار بالمغيبات . أو الإنجيل ، وعيسى بالعبرية أبشوع . ومريم بمعنى الخادم ، وهو بالعربية من النساء كالزير من الرجال ، قال رؤبة : قلت لزير لم تصله مريمه . ووزنه مفعل إذ لم يثبت فعيل { وأيدناه } وقويناه ، وقرئ " آيدناه " بالمد { بروح القدس } بالروح المقدسة كقولك : حاتم الجود ، ورجل صدق وأراد به جبريل . وقيل : روح عيسى عليه الصلاة والسلام ، ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان ، أو لكرامته على الله سبحانه وتعالى ولذلك أضافه إلى نفسه تعالى ، أو لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث ، أو الإنجيل ، أو اسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى ، وقرأ ابن كثير { القدس } بالإسكان في جميع القرآن { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم } بما لا تحبه . يقال هوي بالكسر هوى إذا أحب هويا بالفتح هوى بالضم إذا سقط . ووسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به توبيخا لهم على تعقيبهم ذاك بهذا وتعجيبا من شأنهم ، ويحتمل أن يكون استئنافا والفاء للعطف على مقدر ، { استكبرتم } عن الإيمان واتباع الرسل . { ففريقا كذبتم } كموسى وعيسى عليهما السلام ، والفاء للسببية أو للتفصيل { وفريقا تقتلون } كزكريا ويحيى عليهما السلام ، وإنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضارا لها في النفوس ، فإن الأمر فظيع . أو مراعاة للفواصل ، أو للدلالة على أنكم بعد فيه فإنكم تحومون حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم ، لولا أني أعصمه منكم ، ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَقَفَّيۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِيقٗا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ} (87)

{ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ }( 87 )

و { الكتاب } التوراة ، ونصبه على المفعول الثاني ل { آتينا } ، { وقفينا } مأخوذ من القفا ، تقول قفيت فلاناً بفلان إذا جئت به من قبل قفاه ، ومنه قفا يقفو إذا اتبع . وهذه الأية مثل قوله تعالى : { ثم أرسلنا رسلنا تترا }( {[909]} ) [ المؤمنون : 144 ] ، وكل رسول جاء بعد موسى عليه السلام فإنما جاء بإثبات التوراة والأمر بلزومها إلى عيسى عليه السلام( {[910]} ) ، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر «بالرسْل » ساكنة السين( {[911]} ) ، ووافقهما أبو عمرو إذا انضاف ذلك إلى ضمير نحو رسلنا ورسلهم ، و { البينات } الحجج التي أعطاها الله عيسى ، وقيل هي آياته من إحياء وإبراء وخلق طير ، وقيل هي الإنجيل ، والآية تعم جميع ذلك ، و { أيدناه } معناه قويناه ، والأيد القوة ، وقرأ ابن محيصن والأعرج وحميد «آيدناه »( {[912]} ) . وقرأ ابن كثير ومجاهد «روح القدْس » بسكون الدال . وقرأ الجمهور بضم القاف والدال ، وفيه لغة فتحهما( {[913]} ) ، وقرأ أبو حيوة «بروح القدوس » بواو ، وقال ابن عباس رضي الله عنه «روح القدس هو الاسم الذي به كان يحيي الموتى » ، وقال ابن زيد : «هو الإنجيل كما سمى الله تعالى القرآن روحاً » وقال السدي والضحاك والربيع وقتادة : «روح القدس جبريل صلى الله عليه وسلم » ، وهذا أصح الأقوال( {[914]} ) . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت : «اهج قريشاً وروح القدس معك »( {[915]} ) ومرة قال له «وجبريل معك » ، وقال الربيع ومجاهد : { القدس } اسم من أسماء الله تعالى كالقدُّوس( {[916]} ) ، والإضافة على هذا إضافة الملك إلى المالك ، وتوجهت لما كان جبريل عليه السلام من عباد الله تعالى ، وقيل { القدس } الطهارة ، وقيل { القدس } البركة .

وكلما ظرف ، والعامل فيه { استكبرتم } ، وظاهر الكلام الاستفهام ، ومعناه التوبيخ والتقرير( {[917]} ) ، ويتضمن أيضاً الخبر عنهم ، والمراد بهذه الآية بنو إسرائيل .

ويروى أن بني إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي ثم تقوم سوقهم آخر النهار( {[918]} ) ، وروي سبعين نبياً ثم تقوم سوق بقلهم آخر النهار( {[919]} ) ، وفي { تهوى } ضمير من صلة ما لطول اللفظ ، والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحق ، وهذه الآية من ذلك ، لأنهم إنما كانوا يهوون الشهوات ، وقد يستعمل في الحق ، ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسرى بدر : «فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت »( {[920]} ) ، و { استكبرتم } من الكبر ، { وفريقاً } مفعول مقدم .


[909]:- من الآية 44 من سورة المؤمنون.
[910]:- يعني أن عيسى عليه السلام ختم بني إسرائيل، وجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام كما قال تعالى إخبارا عنه: (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وجئتكم بآية من ربكم) فكذبه بنو إسرائيل، واشتد حسدهم له- ولذلك أيده الله بالآيات التي تدل على صدقة فيما جاء به، كما قال تعالى: [وأيدناه بروح القدس].
[911]:- التثقيل والتخفيف لغتان: الأولى لغة الحجاز، والثانية لغة تميم، وكان أبو عمرو البصري يخفف عند الإضافة إلى حرفين، ويُثقل عند الإضافة إلى حرف واحد.
[912]:- يقال: أيدناه بالتشديد، وآيدناه بالمد، والقراءة الأولى مشهورة، والثانية شاذة، وكلاهما من الأبد، والآد، بمعنى القوة، ونظيرهما في البناء: الذيْم والذام، والعيْب والعاب.
[913]:- أي الدال كصُرد، وعليه فهي لغات ثلاث.
[914]:- انظر تفسير ابن (ك)، فقد بسط القول في وجوه ترجيح ترجيح هذا القول من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح.
[915]:- خرجه البخاري ومسلم.
[916]:- بضم القاف وشد الدال، أي: الطاهر المنزّه عن العيوب والنقائص. وكل فَعُّول مفتوح الأول إلا قُدّوس وفُرّوج (فرخ الدجاجة) و ذُرّوج (الذباب الهندي) كما قال بعض أهل اللغة، ولكن جاء في صحاح الجوهري أن سيبويه كان يقول: (قَدُّوس، وسبُّوح) بالفتح فيهما- وفي كثير من المعاجم ضبطت (فَروج)، بفتح الفاء.
[917]:- وفي بعض النسخ: "والتقريع".
[918]:- روى ذلك أبو داود الطيالسي ونصه: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله بن مسعود قال: كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي، ثم يقيمون سوق بَقلهم من آخر النهار. انتهى من (ك) عند تفسير قوله تعالى: [وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله].
[919]:- لأنهم كانوا أصحاب بقول وخضروات حتى قالوا: (لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها) الآية. وإقامتهم للسوق الذي تباع فيه أرذل الأشياء آخر النهار دلالة على قلة مبالاتهم بما فعلوا من تقتيل الأنبياء، فكيف بالأسواق التي تباع فيها النفائس؟.
[920]:- ومنه كذلك قول عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك". والحديثان خرجهما الإمام مسلم رحمه الله.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَقَفَّيۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ بِٱلرُّسُلِۖ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمۡ رَسُولُۢ بِمَا لَا تَهۡوَىٰٓ أَنفُسُكُمُ ٱسۡتَكۡبَرۡتُمۡ فَفَرِيقٗا كَذَّبۡتُمۡ وَفَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ} (87)

انتقال من الإنحاء على بني إسرائيل في فعالهم مع الرسول موسى عليه السلام بما قابلوه به من العصيان والتبرم والتعلل في قبول الشريعة وبما خالفوا من أحكام التوراة بعد موته إلى قرب مجيء الإسلام إلى الإنحاء عليهم بسوء مقابلتهم للرسل الذين أتوا بعد موسى مثل يوشع وإلياس وأرمياء وداوود مؤيدين لشريعته ومفسرين وباعثين للأمة على تجديد العمل بالشريعة مع تعدد هؤلاء الرسل واختلاف مشاربهم في الدعوة لذلك المقصد من لين وشدة ، ومن رغبة ورهبة ، ثم جاء عيسى مؤيداً وناسخاً ومبشراً فكانت مقابلتهم لأولئك كلهم بالإعراض والاستكبار وسوء الصنيع وتلك أمارة على أنهم إنما يعرضون عن الحق لأجل مخالفة الحق أهواءَهم وإلا فكيف لم يجدوا في خلال هاته العصور ومن بين تلك المشارب ما يوافق الحق ويتمحض للنصح . وإن قوماً هذا دأبهم يرثه الخلف عن السلف لجديرون بزيادة التوبيخ ليكون هذا حجة عليهم في أن تكذيبهم للدعوة المحمدية مكابرة وحسد حتى تنقطع حجتهم إذ لو كانت معاندتهم للإسلام هي أُولى فعلاتهم لأوهموا الناس أنهم ما أعرضوا إلا لِمَا تبين لهم من بطلان فكان هذا مرتبطاً بقوله : { وآمنوا بما أنزلت مصدقاً } [ البقرة : 40 ] ومقدمة للإنحاء عليهم في مقابلتهم للدعوة المحمدية الآتي ذكرها في قوله تعالى : { وقالوا قلوبنا غُلف } [ البقرة : 87 ] .

فقوله تعالى : { ولقد آتينا موسى الكتاب } تمهيد للمعطوف وهو قوله : { وقفَّينا من بعده بالرسل } الذي هو المبني عليه التعجب في قوله : { أفكلما جاءكم رسول } فقوله : { ولقد آتينا موسى الكتاب } تمهيد التمهيد وإلا فهو قدعُلم من الآيات السابقة فلا مقتضى للإعلام به استقلالاً هنا ولكنه ذكر ليبنى عليه ما بعده فكأنه تحصيل لما تقدم أي ولقد كان ما كان مما تقدم وهو إيتاء موسى الكتاب وقفينا أيضاً بعده بالرسل فهو كالعلاوة أو كقول القائل هذا وقد كان كذا .

و ( قفى ) مضاعف قفا تقول قفوت فلاناً إذا جئت في إثره لأنك حينئذ كأنك تقصد جهة قفاه فهو من الأفعال المشتقة من الجوامد مثل جبهه ، فصار المضاعف قفاه بفلان تقفية وذلك أنك جعلته مأموراً بأن يقفو بجعل منك لا من تلقاء نفسه أي جعلته يقفوه غيره ولكون المفعول واحداً جعلوا المفعول الثاني عند التضعيف متعلقاً بالفعل بباء التعدية لئلا يلتبس التابع بالمتبوع فقالوا : قفَّى زيداً بعمرو عوض أن يقولوا : قفى زيداً عمراً .

فمعنى { قفينا من بعه بالرسل } أرسلنا رسلاً وقد حذف مفعول { قفينا } للعلم به وهو ضمير موسى . وقوله : { من بعده } أي من بعد ذهابه أي موته ، وفيه إيماء إلى التسجيل على اليهود بأن مجيء الرسل بعد موسى ليس ببدع .

والجمع في الرسل للعدد والتعريف للجنس وهو مراد به التكثير قاله صاحب « الكشاف » أي لأن شأن لفظ الجنس المعرف إذا لم يكن عهد أن يدل على الاستغراق فلما كان الاستغراق هنا متعذراً دل على التكثير مجازاً لمشابهة الكثير بجميع أفراد الجنس كقولك لم يبق أحد في البلد لم يشهد الهلال إذا شهده جماعات كثيرة وهو قريب من معنى الاستغراق العرفي{[148]} .

وسمي أنبياء بني إسرائيل الذين من بعد موسى رسلاً مع أنهم لم يأتوا بشرع جديد اعتباراً بأن الله لما أمرهم بإقامة التوراة وتفسيرها والتفريع منها فقد جعل لهم تصرفاً شرعياً وبذلك كانوا زائدين على مطلق النبوة التي لا تعلق لها بالتشريع لا تأصيلاً ولا تفريعاً . وقال الباقلاني فيما نقله عنه الفخر : لا بد أن يكون هؤلاء الرسل جاءوا بشرع جديد ولو مع المحافظة على الشرع الأول أو تجديد ما اندرس منه وهو قريب مما قلناه قال تعالى : { وإن إلياس لمن المرسلين } [ الصافات : 123 ] وقال : { وإن يونس لمن المرسلين } [ الصافات : 139 ] وما كان عيسى عليه السلام إلا مثلهم في أنه ما أتى بأحكام جديدة إلا شيئاً قليلاً وخص عيسى بالذكر من بين سائر الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى زيادة في التنكيل على اليهود لأنهم يكفرون به ويكذبونه ولذلك أيضاً خصه بقوله : { وأيدناه بروح القدس } ولأن من جاء بعد موسى من الرسل لم يخبروا أن جبريل جاءهم بوحي وعيسى كان أوسع منهم في الرسالة .

وعيسى اسم معرب من يشوع أو يسوع وهو اسم عيسى ابن مريم قلبوه في تعريبه قلباً مكانياً ليجري على وزن خفيف كراهية اجتماع ثقل العجمة وثقل ترتيب حروف الكلمة فإن حرفي علة في الكلمة وشيناً والختم بحرف حلق لا يجري هذا التنظيم على طبيعة ترتيب الحروف مع التنفس عند النطق بها فقدموا العين لأنها حلقية فهي مبدأ النطق ثم حركوا حروفه بحركات متناسبة وجعلوا شينه المعجمة الثقيلة سيناً مهملة فلله فصاحة العربية . ومعنى يشوع بالعبرانية السيد أو المبارك .

ومريم هي أم عيسى وهذا اسمها بالعبرانية نقل للعربية على حاله لخفته ولا معنى لمريم في العربية غير العلمية إلا أن العرب المتنصرة عاملوه معاملة الصفة في معنى المرأة المتباعدة عن مشاهدة النساء لأن هاته الصفة اشتهرت بها مريم إذ هي أول امرأة عبرانية خدمت بيت المقدس فلذلك يقولون امرأةٌ مريمٌ أي معرضة عن صفات النساء كما يقولون رجل حاتم بمعنى جواد وذلك معلوم منهم في الأعلام المشتهرة بالأوصاف ولذلك قال رؤبة :

* قلت لزيرٍ لم تزره مريمه{[149]} *

فليس هو مشتقاً من رام يريم كما قد يتوهم . وينبغي أن يكون وزنها فعيل بفتح الفاء وإن كان نادراً{[150]} .

وعيسى عليه السلام هو ابن مريم كونه الله في بطنها بدون مس رجل ، وأمه مريم ابنة عمران من سبط يهوذا .

ولد عيسى في مدة سلطنة أغسطس ملك رومية وفي مدة حكم هيرودس على القدس من جهة سلطان الرومان وذلك في سنة 430 عشرين وستمائة قبل الهجرية المحمدية ، وكانت ولادته بقرية تعرف ببيت لحم اليهودية ، ولما بلغ ثلاثين سنة بعث رسولاً إلى بني إسرائيل وبقي في الدنيا إلى أن بلغ سنه ثلاثاً وثلاثين سنة .

وأما مريم أمه فهي مريم ابنة عمران بن ماثان من سبط يهوذا ولدت عيسى وهي ابنة ثلاث عشرة سنة فتكون ولادتها في سنة ثلاث عشرة قبل ميلاد عيسى وتوفيت بعد أن شاخت ولا تعرف سنة وفاتها ، وكان أبوها مات قبل ولادتها فكفلها زكرياء من بني أبيا وهو زوج اليصابات خالة مريم وكان كاهناً من أحبار اليهود كما سيأتي في سورة آل عمران .

والبينات صفة لمحذوف أي الآيات والمعجزات الواضحات ، { وأيدناه } قويناه وشددنا عضده ونصرناه وهو مشتق من اسم جامد وهو اليد فأيد بمعنى جعله ذا يد واليد مجاز في القوة والقدرة فوزن أيد أفعل ، ولك أن تجعله مشتقاً من الأيد وهو القوة فوزنه فعل .

والتأييد التقوية والإقدار على العمل النفسي وهو مشتق من الأيد وهو القوة قال تعالى : { واذكر عبدنا داود ذا الأيد } [ ص : 17 ] والأيد مشتق من اليد لأنها آلة القدرة والأحسن أن يكون مشتقاً من اليد أي جعله ذا يد أي قوة ، والمراد هنا قوة معنوية وهي قوة الرسالة وقوة الصبر على أذى قومه وسيأتي في الأنفال ( 62 ) قوله ؛ { وهو الذي أيدك بنصره }

والروح جوهر نوراني لطيف أي غير مدرك بالحواس فيطلق على النفس الإنساني الذي به حياة الإنس ، ولا يطلق على ما به حياة العجماوات إلا لفظ نفس ، قال تعالى : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } [ الإسراء : 85 ] ويطلق على قوة من لدن الله تعالى يكون بها عمل عجيب ومنه قوله : { فنفخنا فيها من روحنا } [ التحريم : 12 ] ، ويطلق على جبريل كما في قوله : { نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين } [ الشعراء : 193 ، 194 ] وهو المراد في قوله تعالى : { تنزل الملائكة والروح فيها } [ القدر : 4 ] وقوله : { يوم يقوم الروح والملائكة } [ النبأ : 38 ] .

والقدس بضمتين وبضم فسكون مصدر أو اسم مصدر بمعنى النزاهة والطهارة . والمقدس المطهر وتقدم في قوله تعالى : { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } [ البقرة : 30 ] .

وروح القدس روح مضاف إلى النزاهة فيجوز أن يكون المراد به الروح الذي نفخ الله في بطن مريم فتكوّن منه عيسى وإنما كان ذلك تأييداً له لأن تكوينه في ذلك الروح اللدني المطهر هو الذي هيأه لأن يأتي بالمعجزات العظيمة ، ويجوز أن يكون المراد به جبريل والتأييد به ظاهر لأنه الذي يأتيه بالوحي وينطق على لسانه في المهد وحين الدعوة إلى الدين وهذا الإطلاق أظهر هنا ، وفي الحديث الصحيح " إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي أجلها " وعلى كلا الوجهين فإضافة { روح } إلى { القدس } إما من إضافة ما حقه أن يكون موصوفاً إلى ما حقه أن تشتق منه الصفة ولكن اعتبر طريق الإضافة إلى ما منه اشتقاق الصفة لأن الإضافة أدل على الاختصاص بالجنس المضاف إليه لاقتضاء الإضافة ملابسة المضاف بالمضاف إليه وتلك الملابسة هنا تؤول إلى التوصيف وإلى هذا قال التفتزاني في « شرح الكشاف » وأنكر أن يكون المضاف إليه في مثله صفة حقيقة حتى يكون في الوصف بالمصدر .

وقوله تعالى : { أفكلما جاءكم رسول } هو المقصود من الكلام السابق ، وما قبله من قوله : { ولقد آتينا } تمهيد له كما تقدم ، فالفاء للسببية والاستفهام للتعجيب من طغيانهم ومقابلتهم جميع الرسل في جميع الأزمان بمقابلة واحدة ساوى فيها الخلف السلف مما دل على أن ذلك سجية في الجميع .

وتقديم همزة الاستفهام على حرف العطف المفيد للتشريك في الحكم استعمال متبع في كلام العرب وظاهره غريب لأنه يقتضي أن يكون الاستفهام متسلطاً على العاطف والمعطوف وتسلط الاستفهام على حرف العطف غريب فلذلك صرفه علماء النحو عن ظاهره ولهم في ذلك طريقتان : إحداهما طريقة الجمهور قالوا : همزة الاستفهام مقدمة من تأخير وقد كان موقعها بعد حرف العطف فقدمت عليه لاستحقاق الاستفهام التصدير في جملته ، وإنما خصوا التقديم بالهمزة دون غيرها من كلمات الاستفهام لأن الهمزة متأصلة في الاستفهام إذ هي الحرف الموضوع للاستفهام الأكثر استعمالاً فيه ، وأما غيرها فكلمات أشربت معنى الاستفهام منها ما هو اسم مثل ( أين ) ، ومنها حرف تحقيق وهو ( هل ) فإنه بمعنى قد فلما كثر دخول همزة الاستفهام عليه حذفوا الهمزة لكثرة الاستعمال فأصل هل فعلت أهل فعلت فالتقدير فأكلما جاءكم رسول فقلب ، وقيل : أفكلما جاءكم رسول فعلى هذه الطريقة يكون الاستفهام معطوفاً وتكون الجملة معطوفة على التي قبلها أو معطوفة على محذوف بحسب ما يسمح به المقام .

الطريقة الثانية طريقة صاحب « الكشاف » وفي « مغني اللبيب » أن الزمخشري أول القائلين بها وادعى الدماميني أن الزمخشري مسبوق في هذا ولم يعين من سبقه فإنه قد جوز طريقة الجمهور وجوز أن تكون همزة الاستفهام هي مبدأ الجملة وأن المستفهم عنه محذوف دل عليه ما عطف عليه بحرف العطف والتقدير في مثله أتكذبونهم فكلما جاءكم رسول إلخ . وعلى هذه الطريقة تكون الجملة استفهامية مستأنفة محذوفاً بقيتها ثم عطف عليها ما عطف ، ولا أثر لهذا إلا في اختلاف الاعتبار والتقدير فأما معنى الكلام فلا يتغير على كلا الاعتبارين لأن العطف والاستفهام كليهما متوجهان إلى الجملة الواقعة بعدهما .

والظاهر من كلام صاحب « الكشاف » في هذه الآية وفي قوله تعالى في سورة آل عمران ( 165 ) : { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها } أن الطريقتين جائزتان في جميع مواقع الاستفهام مع حرف العطف وهو الحق وأما عدم تعرضه لذلك عند آيات { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } [ البقرة : 75 ] { أفلا تعقلون } [ البقرة : 44 ] . { أفتؤمنون ببعض الكتاب } [ البقرة : 85 ] فيما مضى من هذه السورة فذلك ذهول منه وقد تداركه هنا .

وعندي جواز طريقة ثالثة وهي أن يكون الاستفهام عن العطف والمعنى أتزيدون على مخالفاتكم استكباركم كلما جاءكم رسول إلخ وهذا متأت في حروف التشريك الثلاثة كما تقدم من أمثلة الواو والفاء وكقوله تعالى : { أثم إذا ما وقع آمنتم به } في سورة يونس ( 51 ) وقوله النابغة :

أثم تَعذَّران إلى منها *** فإني قد سمعتُ وقد رأيتُ

وقد استقريت هذا الاستعمال فوجدت مواقعه خاصة بالاستفهام غير الحقيقي كما رأيت من الأمثلة .

ومعنى الفاء هنا تسبب الاستفهام التعجيبي الإنكاري على ما تقرر عندهم من تقفية موسى بالرسل أي قفينا موسى بالرسل فمن عجيب أمركم أن كل رسول جاءكم استكبرتم وجوز صاحب كون العطف على مقدر أي آتينا موسى الكتاب إلخ ففعلتم ثم وبخهم بقوله : { أفكلما } ، فالهمزة للتوبيخ والفاء حينئذ عاطفة مقدراً معطوفاً على المقدر المؤهل للتوبيخ ، وهو وجه بعيد ، ومرمى الوجهين إلى أن جملة { آتينا موسى الكتاب } إلخ غير مراد منها الإخبار بمدلولها .

وانتصب { كلما } بالنيابة عن الظرف لأنه أضيف إلى ما الظرفية المصدرية والعامل فيه قوله : { استكبرتم } ، وقدم الظرف ليكون موالياً للاستفهام المراد منه التعجيب ليظهر أن محل العجب هو استمرار ذلك منهم الدال على أنه سجية لهم وليس ذلك لعارض عرض في بعض الرسل وفي بعض الأزمنة ، والتقدير أفاستكبرتم كلما جاءكم رسول فقدم الظرف للاهتمام لأنه محل العجب ، وقد دل العموم الذي في { كلما } على شمول التكذيب أو القتل لجميع الرسل المرسلين إليهم لأن عموم الأزمان يستلزم عموم الأفراد المظروفة فيها .

و { تهوى } مضارع هوي بكسر الواو إذا أحب والمراد به ما تميل إليه أنفسهم من الانخلاع عن القيود الشرعية والانغماس في أنواع الملذات والتصميم على العقائد الضالة .

والاستكبار الاتصاف بالكبر وهو هنا الترفع عن اتباع الرسل وإعجاب المتكبرين بأنفسهم واعتقاد أنهم أعلى من أن يطيعوا الرسل ويكونوا أتباعاً لهم ، فالسين والتاء في { استكبرتكم } للمبالغة كما تقدم في قوله تعالى : { إلا إبليس أبى واستكبر } [ البقرة : 34 ] وقوله : { ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون } مسبب عن الاستكبار فالفاء للسببية فإنهم لما استكبروا بلغ بهم العصيان إلى حد أن كذبوا فريقاً أي صرحوا بتكذيبهم أو عاملوهم معاملة الكاذب وقتلوا فريقاً وهذا كقوله تعالى عن أهل مدين : { قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك } [ هود : 9 ] .

وتقديم المفعول هنا لما فيه من الدلالة على التفصيل فناسب أن يقدم ليدل على ذلك كما في قوله تعالى : { فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة } [ الأعراف : 30 ] . وهذا استعمال عربي كثير في لفظ فريق وما في معناه نحو طائفة إذا وقع معمولاً لفعل في مقام التقسيم نحو { يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم } [ آل عمران : 159 ] .

والتفصيل راجع إلى ما في قوله : { رسول } من الإجمال لأن ( كلما جاءكم رسول ) أفاد عموم الرسول وشمل هذا موسى عليه السلام فإنهم وإن لم يكذبوه بصريح اللفظ لكنهم عاملوه معاملة المكذبين به إذ شكوا غير مرة فيما يخبرهم عن الله تعالى وأساءوا الظن به مراراً في أوامره الاجتهادية وحملوه على قصد التغرير بهم والسعي لإهلاكهم كما قالوا حين بلغوا البحر الأحمر وحين أَمرهم بالحضور لسماع كلام الله تعالى ، وحين أمرهم بدخول أريحا ، وغير ذلك ، وأما بقية الرسل فكذبوهم بصريح القول مثل عيسى وقتلوا بعض الرسل مثل أشعياء وزَكرياء ويحيى ابنه وأرمياء .

وجاء في { تقتلون } بالمضارع عوضاً عن الماضي لاستحضار الحالة الفظيعة وهي حالة قتلهم رسلهم كقوله : { الله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه } [ الروم : 48 ] مع ما في صيغة { تقتلون } من مراعاة الفواصل فاكتمل بذلك بلاغة المعنى وحسن النظم .


[148]:- لأن الاستغراق العرفي منظور فيه إلى استغراق جميع الأفراد في مكان أو زمان تنزيلا لهم منزلة الكل. وهذا جعل بمعنى الكثرة لا غير.-
[149]:- قال في الكشتف وزن مريم عند النحويين مفعل لأن فعيل بفتح الفاء لم يثبت أي وثبت فعيل بكسر الفاء نحو عثير للغبار، لكن الحق أن وزن فعيل ثبت قليلا منه صهين اسم مكان أعني فيختص بالأسماء الجوامد.
[150]:- الزير الزاي هو الرجل الذي يميل لمحادثة النساء ومجالستهن وياؤه منقلبة عن الواو ووزنه فعل بكسر الفاء من زار يزور. وقوله مريمه أي المرأة التي ترغب في محادته وهذا البيت من قصيدة مدح جعففر المنصور.