{ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث } من إمكانه وكونه مقدورا ، وقرئ { من البعث } بالتحريك كالجلب . { فإنا خلقناكم } أي فانظروا في بدء خلقكم فإنه يزيح ريبكم فإنا خلقناكم . { من تراب } بخلق آدم منه ، أو الأغذية التي يتكون منها المني . { ثم من نطفة } مني من النطف وهو الصب { ثم من علقة } قطعة من الدم جامدة . { ثم من مضغة } قطعة من اللحم وهي في الأصل قدر ما يمضغ . { مخلقة وغير مخلقة } مسواة لا نقص فيها ولا عيب وغير مسواة أو تامة وساقطة أو مصورة وغير مصورة . { لنبين لكم } بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا وأن ما قبل التغير والفساد والتكون مرة قبلها أخرى ، وأن من قدر على تغييره وتصويره أولا قدر على ذلك ثانيا ، وحذف المفعول إيماء إلى أن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وحكمته ما لا يحيط به الذكر . و{ نقر في الأرحام ما نشاء } أن نقره . { إلى أجل مسمى } هو وقت الوضع وأدناه بعد ستة أشهر وأقصاه أربع سنين ، وقرئ " ونقره " بالنصب وكذا قوله : { ثم نخرجكم طفلا } عطفا على " نبين " كأن خلقهم مدرجا لغرضين تبيين القدرة وتقريرهم في الأرحام حتى يولدوا وينشؤوا ويبلغوا حد التكليف ، وقرئا بالياء رفعا ونصبا { ونقر } بالياء ونقر من قررت الماء إذا صببته ، و { طفلا } حال أجريت على تأويل كل واحد أو للدلالة على الجنس أو لأنه في الأصل مصدر . { ثم لتبلغوا أشدكم } كمالكم في القوة والعقل جمع شدة كالأنعم جمع نعمة كأنها شدة في الأمور . { ومنكم من يتوفى } عند بلوغ الأشد أو قبله . وقرئ { يتوفى } أو يتوفاه الله تعالى . { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } وهو الهرم والخوف ، وقرئ بسكون الميم . { لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما عمله وينكر ما عرفه ، والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة ، فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره . { وترى الأرض هامدة } ميتة يابسة من همدت النار إذا صارت رمادا . { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت } تحركت بالنبات . { وربت } وانتفخت ، وقرئ " وربأت " أي ارتفعت . { وأنبتت من كل زوج } من كل صنف { بهيج } حسن رائق ، وهذه دلالة ثالثة كررها الله تعالى في كتابه لظهورها وكونها مشاهدة .
وقوله تعالى : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث } الآية هذه احتجاج على العالم بالبداءة الأولى وضرب الله تعالى في هذه الآية مثلين إذا اعتبرهما الناظر جوز في العقل البعثة من القبور ، ثم ورد خبر الشرع بوجوب ذلك ووقوعه ، و «الريب » الشك ، وقوله تعالى : { إن كنتم } شرط مضمنه التوفيق ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «البعَث » بفتح العين وهي لغة في البعث عند البصريين وهي عند الكوفيين تخفيف بعث وقوله تعالى : { فإنا خلقناكم من تراب } يريد آدم ثم سلط الفعل عليهم من حيث هم من ذريته ، وقوله تعالى : { ثم من نطفة } يريد المنى الذي يكون من البشر ، و «النطفة » تقع على قليل الماء وكثيره ، وقال النقاش المراد { نطفة } آدم ، وقوله تعالى : { ثم من علقة } ، يريد من الدم تعود النطفة إليه في الرحم أو المقارن للنطفة ، والعلق ، الدم العبيط وقيل العلق ، الشديد الحمرة فسمي الدم لذلك ، وقوله تعالى : { ثم من مضغة } يريد بضعة لحم على قدر ما يمضغ ، وقوله تعالى : { مخلقة } معناه متممة البنية ، { وغير مخلقة } غير متممة أي التي تسقط قاله مجاهد وقتادة والشعبي وأبو العالية فاللفظة بناء مبالغة من خلق ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل واحد منها مختص بخلق حسن في جملته تضعيف الفعل لأن فيه خلقاً كثيرة ، وقرأ ابن أبي عبلة «مخلقةً » بالنصب «وغيرَ » بالنصب في الراء ويتصل بهذا الموضوع من الفقه أن العلماء اختلفوا في أم الولد اذا أسقطت مضغة لم تصور هل تكون أم ولد بذلك فقال مالك والأوزاعي وغيرهما : هي أم ولد بالمضغة إذا علم أنها مضغة الولد ، وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا حتى يتبين فيه خلق ولو عضو واحد ، وقوله تعالى : { لنبين } قالت فرقة معناه لنبين أمر البعث فهو اعتراض بين الكلامين ، وقرأت هذه الفرقة بالرفع في «نقرُّ » ، المعنى ونحن نقر وهي قراءة الجمهور ، وقالت فرقة { لنبين } معناه بكون المضغة غير مخلقة وطرح النساء إياها كذلك نبين للناس أن المناقل في الرحم هي هكذا ، وقرأت هذه الفرقة «ونقرَّ » بالنصب وكذلك قرأت «ونخرجَكم » بالنصب وهي رواية المفضل عن عاصم ، وحكى أبو عمرو الداني أن رواية المفضل هذه هي بالياء في «يقر » وفي «يخرجكم » والرفع على هذا التأويل سائغ ولا يجوز النصب على التأويل الأول ، وقرأ ابن وثاب «ما نِشاء » بكسر النون ، و «الأجل المسمى » هو مختلف بحسب جنين جنين فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حياً ، وقوله تعالى : { طفلاً } اسم الجنس أي أطفالاً ، واختلف الناس في «الأشد » من ثمانية عشر إلى ثلاثين ، إلى اثنين وثلاثين ، إلى ستة وثلاثين ، إلى أربعين ، إلى خمسة وأربعين ، واللفظ تقال باشتراك ، فأشد الإنسان على العموم غير أشد اليتيم الذي هو الاحتلام{[8305]} ، و «الأشد » في هذه الآية يحتمل المعنيين ، والرد إلى أرذل العمر هو حصول الإنسان في زمانه{[8306]} واختلال قوة حتى لا يقدر على إقامة الطاعات واختلال عقل حتى لا يقدر على إقامة ما يلزمه من المعتقدات ، وهذا أبداً يلحق مع الكبر وقد يكون { أرذل العمر } في قليل من السن بحسب شخص ما لحقته زمانة وقد ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه { أرذل العمر } خمسة وسبعون وهذا فيه نظر وإن صح عن علي رضي الله عنه فلا يتوجه إلا أن يريد على الأكثر فقد نرى كثيراً أبناء ثمانين سنة ليسوا في أرذل العمر ، وقرأ الجمهور «العمر » مشبعة وقرأ نافع «العمر » مخففة الميم واختلف عنه ، وقوله تعالى : { لكيلا يعلم } أي لينسى معارفه وعلمه الذي كان معه فلا يعلم من ذلك شيئاً فهذا مثال واحد يقضي للمعتبر به أن القادر على هذه المناقل المتقن لها قادر على إعادة تلك الأجساد التي أوجدها بهذه المناقل إلى حالها الأولى .
{ وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }
هذا هو المثال الثاني الذي يعطي للمعتبر فيه جواز بعد الأجساد وذلك أن إحياء الأرض بعد موتها بين فكذلك الأجساد ، و { هامدة } معناه ساكنة دارسة بالية ومنه قيل همد الثوب إذا بلي ، قال الأعشى : [ الكامل ]
قالت قتيلة ما لجسمك شاحباً . . . وأرى ثيابك باليات همدا{[8307]}
واهتزاز الأرض هو حركتها بالنبات وغير ذلك مما يعتريها بالماء ، { وربت } معناه نشزت وارتفعت ومنه الربوة وهو المكان المرتفع ، وقرأ جعفر بن القعقاع{[8308]} «وربأت » بالهمز ، ورويت عن أبي عمرو وقرأها عبد الله بن جعفر{[8309]} وخالد بن إلياس{[8310]} وهي غير وجيهة ووجهها أن تكون من ربأت القوم إذا علوت شرفاً من الأرض طليعة فكأن الأرض بالماء تتطاول وتعلو{[8311]} ، و «الزوج » النوع ، و «البهيج » فعيل من البهجة وهي الحسن قاله وقتادة وغيره .
{ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الارحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً }
أعاد خطاب الناس بعد أن أنذرهم بزلزلة الساعة ، وذكر أن منهم من يجادل في الله بغير علم ، فأعاد خطابهم بالاستدلال على إمكان البعث وتنظيره بما هو أعظم منه . وهو الخلق الأول . قال تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ] . فالذي خلق الإنسان من عدم وأخرجه من تراب ، ثم كونه من ماء . ثم خلقه أطواراً عجيبة ، إلى أن يتوفاه في أحوال جسمه وفي أحوال عقله وإدراكه ، قادر على إعادة خلقه بعد فنائه .
ودخول المشركين بادىء ذي بدء في هذا الخطاب أظهر من دخولهم في الخطاب السابق لأنهم الذين أنكروا البعث ، فالمقصود الاستدلال عليهم ولذلك قيل إن الخطاب هنا خاص بهم .
وجُعل ريْبهم في البعث مفروضاً ب ( إن ) الشرطية مع أن ريبهم محقق للدلالة على أن المقام لما حف به من الأدلة المبطلة لريبهم ينزل منزلة مقام من لا يتحقق ريبُه كما في قوله تعالى : { أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أنّ كنتم قوماً مسرفين } [ الزخرف : 5 ] .
والظرفية المفادة ب ( في ) مجازية . شبهت ملابسة الريب إياهم بإحاطة الظرف بالمظروف .
وجملة { فإنا خلقناكم من تراب } واقعة موقع جواب الشرط ولكنها لا يصلح لفظها لأن يكون جواباً لهذا الشرط بل هي دليل الجواب ، والتقدير : فاعلموا أو فنعلمكم بأنه ممكن كما خلقناكم من تراب مثل الرُّفات الذي تصير إليه الأجساد بعد الموت ، أو التقدير : فانظروا في بدء خلقكم فإنا خلقناكم من تراب .
والذي خُلق من تراب هو أصل النوع ، وهو آدم عليه السلام وحواء ، ثم كونت في آدم وزوجه قوة التناسل ، فصار الخلق من النطفة فلذلك عطفت ب ( ثم ) .
والنطفة : اسم لمنّي الرجل ، وهو بوزن فُعلة بمعنى مفعول ، أي منطوف ، والنَطْف : القطر والصب . والعلقة : القطعة من الدم الجامد اللين .
والمضغة : القطعة من اللحم بقدر ما يُمضغ مثله ، وهي فعلة بمعنى مَفعولة بتأويل : مقدار ممضوغة . و ( ثم ) التي عطف بها { ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة } عاطفة مفردات فهي للتراخي الحقيقي .
و ( مِن ) المكررة أربع مرات هنا ابتدائية وتكريرها توكيد .
وكون الإنسان مخلوقاً من النطفة لأنه قد تقرر في علم الطب أن في رحم المرأة مُدة الحيض جزءاً هو مقر الأجرام التي أعدت لأن يتكون منها الجنين ، وهذا الجُزء من الرحم يسمى في الاصطلاح الطبي ( المَبِيض ) بفتح الميم وكسر الموحدة على وزن اسم المكان لأنه مقر بَيضات دقيقة هي حُبيبات دقيقة جداً وهي من المرأة بمنزلة البيضة من الدجاجة أو بمنزلة حبوب بيض الحوت ، مودعة في كرة دقيقة كالغِلاف لها يقال لها ( الحُويصلة ) بضم الحاء بصيغة تصغير حَوصلة تشتمل على سائل تسبح فيه البيضة فإذا حاضت المرأة ازدادت كمية ذلك السائل الذي تسبح فيه البيضة فأوجب ذلك انفجار غلاف الحُويصلة ، فيأخذ ذلك السائل في الانحدار يَحمل البيضة السابحة فيه إلى قناة دقيقة تسمى ( بوق فلوبيوس ) لشبهه بالبُوق ، وأضيف إلى ( فلوبيوس ) اسم مكتشفه وهو البزرخ بين المَبِيض والرحم ، فإذا نزل فيه ماء الرجل وهو النطفة بعد انتهاء سيلان دم الحيض لقحت فيه البيضة واختلطت أجزاؤها بأجزاء النطفة المشتملة على جرثومات ذات حياة وتمكث مع البيضة متحركة مقدار سبعة أيام تكون البيضة في أثنائها تتطور بالشكل بشِبه تقسيم من أثر ضغط طبيعي .
وفي نهاية تلك المدة تصل البيضة إلى الرحم وهنالك تأخذ في التشكل ، وبعد أربعين يوماً تصير البيضة عَلَقة في حجم نملة كبيرة طولها من 12 إلى 14 مليمتر ، ثم يزداد تشكلها فتصير قطعة صغيرة من لَحم هي المسماة ( مُضغة ) طولها ثلاثة سنتيمتر تلوح فيها تشكلات الوجه والأنف خفيّة جداً كالخطوط ، ثم يزداد التشكل يوماً فيوماً إلى أن يستكمل الجنين مدته فيندفعَ للخروج وهو الولادة .
فقوله تعالى : { مخلقة وغير مخلقة } صفة { مضغة } . وذلك تطور من تطورات المضغة . أشار إلى أطوار تشكل تلك المضغة فإنها في أول أمرها تكون غير مخلّقة ، أي غير ظاهر فيها شَكل الخِلقة ، ثم تكون مخلّقة ، والمراد تشكيل الوجه ثم الأطراف ، ولذلك لم يُذكر مثل هذين الوصفين عند ذكر النطفة والعلقة ، إذ ليس لهما مثل هذين الوصفين بخلاف المضغة . وإذْ قد جعلت المضغة من مبادىء الخلق تعيّن أن كلا الوصفين لازِمان للمضغة ، فلا يستقيم تفسير من فسّر غير المخلقة بأنها التي لم يكمل خلقها فسقطت .
والتخليق : صيغة تدل على تكرير الفعل ، أي خلقاً بعد خلق ، أي شكلاً بعد شكل .
وقُدم ذكر المخلقة على ذكر غير المخلقة على خلاف الترتيب في الوجود لأن المخلقة أدخل في الاستدلال ، وذُكر بعده غير المخلقة لأنه إكمال للدليل وتنبيه على أن تخليقها نشأ عن عدم . فكلا الحالين دليل على القدرة على الإنشاء وهو المقصود من الكلام .
ولذلك عقب بقوله تعالى { لنبين لكم } ، أي لنظهر لكم إذا تأملتم دليلاً واضحاً على إمكان الإحياء بعد الموت .
واللام للتعليل متعلقة بما في تضمينه جواب الشرط المقدرُ من فعل ونحوه تدل عليه جملة { فإنا خلقناكم من تراب } الخ ، وهو فعل : فاعلموا ، أو فنُعلمكم ، أو فانظروا .
وحذف مفعول { لِنُبيّن } لتذهب النفس في تقديره كل مذهب مما يرجع إلى بيان ما في هذه التصرفات من القدرة والحكمة ، أي لنبيّن لكم قدرتنا وحكمتنا .
وجملة { ونقرّ } عطف على جملة { فإنا خلقناكم من تراب } . وعدل عن فعل المضي إلى الفعل المضارع للدلالة على استحضار تلك الحالة لما فيها من مشابهة استقرار الأجساد في الأجداث ثم إخراجها منها بالبعث كما يخرج الطفل من قرارة الرحم ، مع تفاوت القرار . فمن الأجنة ما يبقى ستة أشهر ، ومنها ما يزيد على ذلك ، وهو الذي أفاده إجمال قوله تعالى : { إلى أجل مسمى } . والاستدلال في هذا كله بأنه إيجاد بعد العدم وإعدام بعد الوجود لتبيين إمكان البعث بالنظير وبالضد .
والأجل : الأمد المجعول لإتمام عمل ما ، والمراد هنا مدة الحمل .
والمسمّى : اسم مفعول من سَماه ، إذا جعل له اسماً ، ويستعار المسمّى للمعيّن المضبوط تشبيهاً لضبط الأمور غيرِ المشخصة بعدد معيّن أو وقت محسوب ، بتسمية الشخص بوجه شبه يُميزه عما شابهه . ومنه قول الفقهاء : المهر المسمّى ، أي المعيّن من نقد معدود أو عَرض موصوف ، وقول الموثقين : وسمّى لها من الصداق كذا وكذا .
ولكل مولود مدة معينة عند الله لبقائه في رحم أمه قبلَ وضعه . والأكثر استكمال تسعة أشهر وتسعة أيام ، وقد يكون الوضع أسرع من تلك المدة لعارض ، وكلٌّ معين في علم الله تعالى . وتقدم في قوله تعالى : { إلى أجل مسمى فاكتبوه } في [ سورة البقرة : 282 ] .
وعطف جملة { ثم نخرجكم طفلاً } بحرف ( ثم ) للدلالة على التراخي الرتبي فإن إخراج الجنين هو المقصود . وقوله { طفلاً } حال من ضمير { نخرجكم ، } أي حال كونكم أطفالاً . وإنما أفرد { طفلاً } لأن المقصود به الجنس فهو بمنزلة الجمع .
وجملة { ثم لتبلغوا أشدكم } مرتبطة بجملة { ثم نخرجكم طفلاً } ارتباط العلّة بالمعلول ، واللام للتعليل . والمعلّل فعل { نخرجكم طفلاً } .
وإذ قد كانت بين حال الطفل وحال بلوغ الأشد أطوار كثيرة عُلم أن بلوغ الأشد هو العلّة الكاملة لحكمة إخراج الطفل . وقد أشير إلى ما قبل بلوغ الأشد وما بعده بقوله { ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } .
وحرف ( ثم ) في قوله : { ثم لتبلغوا أشدكم } تأكيد لمثله في قوله { ثم نخرجكم طفلاً } . هذا ما ظهر لي في اتّصال هذه الجملة بما قبلها وللمفسرين توجيهات غير سالمة من التعقب ذكرها الألوسي .
وإنما جُعل بلوغ الأشد علّة لأنه أقوى أطوار الإنسان وأجلى مظاهر مواهبه في الجسم والعقل وهو الجانب الأهم كما أومأ إلى ذلك قوله بعد هذا { لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً } فجعل « الأشد » كأنه الغاية المقصودة من تطويره .
والأشُدّ : سن الفتوة واستجماع القوى . وقد تقدم في [ سورة يوسف : 22 ] { ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً } ووقع في [ سورة المؤمن : 67 ] { ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً } فعطف طور الشيخوخة على طور الأشُد باعتبار أن الشيخوخة مقصد للأحياء لحبهم التعمير ، وتلك الآية وردت مورد الامتنان فذكر فيها الطور الذي يتملى المرء فيه بالحياة ، ولم يذكر في آية سورة الحج لأنها وردت مورد الاستدلال على الإحياء بعد العدم فلم يذكر فيها من الأطوار إلا ما فيه ازدياد القوة ونماء الحياة دون الشيخوخة القريبة من الاضمحلال ، ولأن المخاطبين بها فريق معيّن من المشركين كانوا في طور الأشد ، وقد نبهوا عقب ذلك إلى أن منهم نفراً يُردون إلى أرذل العمر ، وهو طور الشيخوخة بقوله : { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } .
وجيء بقوله { ومنكم من يتوفى } على وجه الاعتراض استقراء لأحوال الأطوار الدالة على عظيم القدرة والحكمة الإلهية مع التنبيه على تخلل الوجود والعدم أطوار الإنسان بدءاً ونهاية كما يقتضيه مقام الاستدلال على البعث . والمعنى : ومنكم من يتوفى قبل بلوغ بعض الأطوار . وأما أصل الوفاة فهي لاحقة لكل إنسان لا لبعضهم ، وقد صرح بهذا في سورة المؤمن ( 67 ) : { ومنكم من يتوفى من قبل } وقوله { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } هو عديل قوله تعالى : { ومنكم من يتوفى } . وسكت عن ذكر الموت بعد أرذل العمر لأنه معلوم بطريقة لحسن الخطاب .
وجُعل انتفاء علم الإنسان عند أرذل العمر علة لردّه إلى أرذل العمر باعتبار أنه علّة غائية لذلك لأنه مما اقتضته حكمة الله في نظام الخلق فكان حصوله مقصوداً عند ردّ الإنسان إلى أرذل العمر ، فإن ضعف القوى الجسمية يستتبع ضعف القوى العقلية . قال تعالى : { ومن نعمره ننكسه في الخلق } [ يس : 68 ] فالخلق يشمل كل ما هو من الخلقة ولا يختص بالجسم .
وقوله { من بعد علم } أي بعدما كان علمه فيما قبل أرذل العمر .
و ( مِن ) الداخلة على ( بعد ) هنا مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش وابن مالك من عدم انحصار زيادة ( مِن ) في خصوص جرّ النكرة بعد نفي وشبهه ، أو هي للابتداء عند الجمهور وهو ابتداء صُوري يساوي معنى التأكيد ولذلك لم يؤت ب ( من ) في قوله تعالى : { لكي لا يعلم بعد علم شيئاً } في [ سورة النحل : 70 ] .
والآيتان بمعنى واحد فذكر ( مِن ) هنا تفنّن في سياق العبرتين .
و { شيئاً } واقع في سياق النفي يعم كل معلوم ، أي لا يستفيد معلوماً جديداً . ولذلك مراتب في ضعف العقل بحسب توغله في أرذل العمر تبلغ إلى مرتبة انعدام قبوله لعلم جديد ، وقبلها مراتب من الضعف متفاوتة كمرتبة نسيان الأشياء ومرتبة الاختلاط بين المعلومات وغير ذلك .
{ وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } .
عطف على جملة { فإنا خلقناكم من تراب } ، والخطاب لغير معيّن فيعم كل من يسمع هذا الكلام .
وهذا ارتقاء في الاستدلال على الإحياء بعد الموت بقياس التمثيل لأنه استدلال بحالةٍ مشاهدَة فلذلك افتتح بفعل الرؤية ، بخلاف الاستدلال بخلق الإنسان فإن مبدأه غيرُ مشاهَد فقيل في شأنه { فإنا خلقناكم من تراب } الآية . ومحل الاستدلال من قوله تعالى : { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت } ، فهو مناسبُ قولِه في الاستدلال الأول { فإنا خلقناكم من تراب } ، فهمود الأرض بمنزلة موت الإنسان واهتزازُها وإنباتها بعد ذلك يماثل الإحياء بعد الموت .
والهمود : قريب من الخمود ، فهمود الأرض جَفافها وزوال نبتها ، وهمود النار خمودها .
والاهتزاز : التحرك إلى أعلى ، فاهتزاز الأرض تمثيل لحال ارتفاع ترابها بالماء وحال ارتفاع وجهها بما عليه من العشب بحال الذي يهتز ويتحرك إلى أعلى .
وربت : حصل لها رُبوّ بضمّ الراء وضم الموحدة وهو ازدياد الشيء يقال : رَبَا يربو رُبوا ، وفسر هنا بانتفاخ الأرض من تفتق النبت والشجر . وقرأ أبو جعفر { وربأت بهمزة مفتوحة بعد الموحدة ، أي ارتفعت . ومنه قولهم : رَبَأ بنفسه عن كذا ، أي ارتفع مجازاً ، وهو فعل مشتق من اسم الربيئة وهو الذي يعلو رُبوة من الأرض لينظر هل من عدوّ يسير إليهم .
والزوج : الصنف من الأشياء . أطلق عليه اسم الزوج تشبيهاً له بالزوج من الحيوان وهو صنف الذكر وصنف الأنثى ، لأن كل فرد من أحد الصنفين يقترن بالفرد من الصنف الآخر فيصير زوجاً فيسمى كلّ واحد منهما زوجاً بهذا المعنى ، ثم شاع إطلاقه على أحد الصنفين ، ثم أطلق على كلّ نوع وصنف وإن لم يكن ذكراً ولا أنثى ، فأطلق هنا على أنواع النبات .
والبهيج : الحسن المنظر السَارّ للناظر ، وقد سِيق هذا الوصف إدماجاً للامتنان في أثناء الاستدلال امتناناً بجمال صورة الأرض المنبتة ، لأن كونه بهيجاً لا دخل له في الاستدلال ، فهو امتنان محض كقوله تعالى : { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] وقوله تعالى : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح } [ الملك : 5 ] .