{ وكتبنا عليهم وفرضنا على اليهود . { فيها } في التوراة . { أن النفس بالنفس } أي أن النفس تقتل بالنفس . { والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن } رفعها الكسائي على أنها جمل معطوفة على أن وما في حيزها باعتبار المعنى وكأنه قيل : وكتبنا عليهم النفس بالنفس ، والعين بالعين ، فإن الكتابة والقراءة تقعان على الجمل كالقول ، أو مستأنفة ومعناها : وكذلك العين مفقوءة بالعين ، والأنف مجدوعة بالأنف ، والأذن مصلومة بالأذن ، والسن مقلوعة بالسن ، أو على أن المرفوع منها معطوف على المستكن في قوله بالنفس ، { وإنما ساغ لأنه في الأصل مفصول عنه بالطرف ، والجار والمجرور حال مبينة للمعنى ، وقرأ نافع { والأذن بالأذن } وفي أذنيه بإسكان الذال حيث وقع . { والجروح قصاص } أي ذات قصاص ، وقرأه الكسائي أيضا بالرفع ووافقه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر على أنه إجمال للحكم بعد التفضيل . { فمن تصدق } من المستحقين . { به } بالقصاص أي فمن عفا عنه . { فهو } فالتصدق . { كفارة له } للمتصدق يكفر الله به ذنوبه . وقيل للجاني يسقط عنه ما لزمه . وقرئ " فهو كفارته له " أي فالمتصدق كفارته التي يستحقها بالتصدق له لا ينقص منها شيء . { ومن لم يحكم بما أنزل الله } من القصاص وغيره . { فأولئك هم الظالمون } .
«الكتب » في هذه الآية هو حقيقة كتب في الألواح ، وهو بالمعنى كتب فرض وإلزام ، والضمير في { عليهم } لبني إسرائيل وفي { فيها } للتوراة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { أن النفس بالنفس } بنصب النفس على اسم { أن } وعطف ما بعد ذلك منصوباً على { النفس } ويرفعون «والجروحُ قصاص » على أنها جملة مقطوعة . وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب ذلك كله . و { قصاص } خبر { أن } وروى الواقدي عن نافع أنه رفع «والجروحُ » وقرأ الكسائي «أن النفسَ بالنفس » نصباً ورفع ما بعد ذلك ، فمن نصب «والعينَ » جعل عطف الواو مشركاً في عمل «أن » ولم يقطع الكلام مما قبله . ومن رفع «والعينُ » فيتمثل ذلك من الاعراب أن يكون قطع مما قبل ، وصار عطف الواو عطف جملة كلام لا عطف تشريك في عامل ، ويحتمل أن تكون الواو عاطفة على المعنى لأن معنى قوله : { وكتبنا عليهم أن النفس بالنفس } قلنا لهم النفس بالنفس ومثله لما كان المعنى في قوله تعالى : { يطاف عليهم بكأس من معين }{[4563]} يمنحون كأساً من معين عطف وحوراً عيناً على ذلك ، ويحتمل أن يعطف قوله { والعين } على الذكر المستتر{[4564]} في الطرق الذي هو الخبر ، وإن لم يؤكد المعطوف عليه بالضمير المنفصل كما أكد في قوله تعالى : { إنه يراكم هو قبيلة من حيث لا ترونهم }{[4565]} وقد جاء مثله غير مؤكد في قوله تعالى : { ما أشركنا ولا آباؤنا }{[4566]} .
قال القاضي أبو محمد : ولسيبويه رحمه الله في هذه الآية أن العطف ساغ دون توكيد بضمير منفصل لأن الكلام طال ب { لا } في قوله : { ولا آباؤنا } فكانت { لا } عوضاً من التوكيد كما طال الكلام في قولهم حضر القاضي اليوم امرأة ، قال ابو علي : وهذا إنما يستقيم أن يكون عوضاً إذا وقع قبل حرف العطف فهناك يكون عوضاً من الضمير الواقع قبل حرف العطف ، فأما إذا وقع بعد حرف العطف فلا يسد مسد الضمير ، ألا ترى أنك قلت حضر امرأة القاضي اليوم ، لم يغن طول الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه .
قال القاضي أبو محمد : وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي وإن كان الطول قبل حرف العطف أتم فإنه بعد حرف العطف مؤثر لا سيما في هذه الآية ، لأن { لا } ربطت المعنى إذ قد تقدمها نفي ، ونفت هي أيضاً عن الآباء فتمكن العطف ، قال أبو علي ومن رفع «والجروحُ قصاص » فقطعه مما قبله فإن ذلك يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي احتملها رفع [ والعين ] ويجوز أن يستأنف : [ والجروح ] ليس على أنه مما كتب عليهم في التوراة ، لكن على استئناف إيجاب وابتداء شريعة .
ويقوي أنه من المكتوب عليهم نصُب من نصبه . وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ «أنْ النفسُ بالنفس » بتخفيف «أن » ورفع «النفسُ » ثم رفع ما بعدها إلى آخر الآية . وقرأ أبيّ بن كعب بنصب «النفس » وما بعدها ثم قرأ : «وأن الجروح قصاص » بزيادة «أن » الخفيفة ورفع «الجروحُ » .
ومعنى هذه الآية الخبر بأن الله تعالى كتب فرضاً على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً فيجب في ذلك أخذ نفسه ثم هذه الأعضاء المذكورة كذلك ، ثم استمر هذا الحكم في هذه الأمة بما علم من شرع النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه . ومضى عليه إجماع الناس ، وذهب قوم من العلماء إلى تعميم قوله : { النفس بالنفس } فقتلوا الحر بالعبد والمسلم بالذمي ، والجمهور على أنه عموم يراد به الخصوص في المتماثلين . وهذا مذهب مالك وفيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يقتل مسلم بكافر »{[4567]} وقال ابن عباس رضي الله عنه : رخص الله لهذه الأمة ووسع عليها بالدية ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى وكتب عليهم .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذه الآية بيان لفساد فعل بني إسرائيل في تعزز بعضهم على بعض وكون بني النضير على الضعف في الدية من بني قريظة أو على أن لا يقاد بينهم بل يقنع بالدية ، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية وأعلم أنهم خالفوا كتابهم ، وحكى الطبري عن ابن عباس : كان بين حيين من الأنصار قتال فصارت بينهم قتلى وكان لأحدهما طول على الآخر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الحر بالحر والعبد بالعبد{[4568]} . قال الثوري : وبلغني عن ابن عباس أنه قال ثم نسختها { النفس بالنفس } .
قال القاضي أبو محمد : وكذلك قوله تعالى : { والجروح قصاص } هو عموم يراد به الخصوص في جراح القود ، وهي التي لا يخاف منها على النفس ، فأما ما خيف منه كالمأمومة{[4569]} وكسر الفخذ ونحو ذلك فلا قصاص فيها . و «القصاص » مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه . فكأن الجاني يقتص أثره ويتبع فيما سنه فيقتل كما قتل ، وقوله تعالى : { فمن تصدق به فهو كفارة له } يحتمل ثلاثة معان ، أحدها أن تكون «من » للجروح أو ولي القتيل . ويعود الضمير في قوله : { له } عليه أيضاً ، ويكون المعنى أن من تصدق بجرحه أو دم وليه فعفا عن حقه في ذلك فإن ذلك العفو كفارة له عن ذنوبه ويعظم الله أجره بذلك ويكفر عنه ، وقال بهذا التأويل عبد الله بن عمر وجابر بن زيد وأبو الدرداء وذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول :«ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله بذلك درجة وحط عنه خطيئة{[4570]} » ، وذكر مكي حديثاً من طريق الشعبي أنه يحط من ذنوبه بقدر ما عفا من الدية والله أعلم .
وقال به أيضاً قتادة والحسن ، والمعنى الثاني أن تكون «من » للجروح أو ولي القتيل ، والضمير في { له } يعود على الجارح أو القاتل إذا تصدق المجروح أو على الجارح بجرحه وصح عنه : فذلك العفو كفارة للجارح عن ذلك الذنب ، فكما أن القصاص كفارة فكذلك العفو كفارة ، وأما أجر العافي فعلى الله تعالى ، وعاد الضمير على من لم يتقدم له ذكر لأن المعنى يقتضيه ، قال بهذا التأويل ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي ومجاهد وإبراهيم وعامر الشعبي وزيد بن أسلم ، والمعنى الثالث أن تكون للجارح أو القاتل والضمير في { له } يعود عليه أيضاً ، والمعنى إذا جنى جان فجهل وخفي أمره فتصدق هو بأن عرف بذلك ومكن الحق من نفسه فذلك الفعل كفارة لذنبه ، وذهب القائلون بهذا التأويل إلى الاحتجاج بأن مجاهداً قال إذا أصاب رجل رجلاً ولم يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب فهو كفارة للمصيب ، وروي أن عروة بن الزبير أصاب عين إنسان عند الركن وهم يستلمون فلم يدر المصاب من أصابه فقال له عروة أنا أصبتك وأنا عروة بن الزبير . فإن كان بعينك بأس فأنا بها .
قال القاضي أبو محمد : وانظر َأن { تصدق } على هذا التأويل يحتمل أن يكون من الصدقة ومن الصدق ، وذكر مكي بن أبي طالب وغيره أن قوماً تأولوا الآية أن المعنى { والجروح قصاص } فمن أعطى دية الجرح وتصدق بذلك فهو كفارة له إذا رضيت منه وقبلت .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل قلق . وقد تقدم القول على قوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله } الآية . وفي مصحف أبيّ بن كعب «ومن يتصدق به فإنه كفارة له » .
عطفت جملة { كتبنا } على جملة { أنزلنا التّوراة } المائدة : 44 ) . ومناسبة عطف هذا الحكم على ما تقدّم أنّهم غيّروا أحكام القصاص كما غيّروا أحكام حدّ الزّنى ، ففاضلوا بين القتلى والجرحى ، كما سيأتي ، فلذلك ذيّله بقوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظّالمون } ، كما ذيّل الآية الدّالّة على تغيير حكم حد الزّنى بقوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [ المائدة : 44 ] .
والكَتْب هنا مجاز في التّشريع والفرض بقرينة تعديته بحرف ( على ) ، أي أوجبنا عليهم فيها ، أي في التّوراة مضمونَ { أنّ النّفس بالنّفس } ، وهذا الحكم مسطور في التّوراة أيضاً ، كما اقتضت تعديّة فعل { كتبنا } بحرف ( في ) فهو من استعمال اللّفظ في حقيقته ، ومجازه .
وفي هذا إشارة إلى أنّ هذا الحكم لا يستطاع جحده لأنّه مكتوب والكتابة تزيد الكلام توثّقاً ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { يأيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمّى فاكتبوه } في سورة البقرة ( 282 ) ، وقال الحارث بن حلّزة :
وهل ينقض ما في المهارق الأهواءُ
والمكتوب عليهم هو المصدر المستفاد من ( أنّ ) . والمصدرُ في مثل هذا يؤخذ من معنى حرف الباء الّذي هو التّعويض ، أي كتبنا تعويض النّفسسِ بالنّفس ، أي النّفس المقتولة بالنّفس القاتلة ، أي كتبنا عليهم مساواةَ القصاص . وقد اتّفق القرّاء على فتح همزة ( أنّ ) هنا ، لأنّ المفروض في التّوراة ليس هو عين هذه الجمل ولكن المعنى الحاصل منها وهو العوضية والمساواة فيها .
وقرأ الجمهور والعينَ بالعينَ } وما عطف عليها بالنصب عطفاً على اسم ( أنّ ) . وقرأه الكسائي بالرفع . وذلك جائز إذا استكملت ( أنّ ) خبرها فيعتبر العطف على مجموع الجملة .
والنّفس : الذات ، وقد تقدّم في قوله تعالى : { وتنسون أنفسكم } في سورة البقرة ( 44 ) . والأذن بضمّ الهمزة وسكون الذال ، وبضمّ الذال أيضاً . والمراد بالنفس الأولى نفس المعتدى عليه ، وكذلك في والعين } الخ .
والباء في قوله : { بالنّفس } ونظائره الأربعة باء العوض ، ومدخولات الباء كلّها أخبار ( أنّ ) ، ومتعلّق الجار والمجرور في كلّ منها محذوف ، هو كون خاصّ يدلّ عليه سياق الكلام ؛ فيقدر : أنّ النّفس المقتولة تعوّض بنفس القاتل والعين المتلفة تعوّض بعين المتلف ، أي بإتلافها وهكذا النفس متلفة بالنّفس ؛ والعين مفقوءة بالعين ، والأنفَ مجدوع بالأنف ؛ والأذن مصلُومة بالأذن .
ولام التّعريف في المواضع الخمسة داخلة على عضو المجني عليه ، ومجرورات الباء الخمسة على أعضاء الجاني . والاقتصار على ذكر هذه الأعضاء دون غيرها من أعضاءِ الجسد كاليد والرِجل والإصبع لأنّ القطع يكون غالباً عند المضاربة بقصد قطع الرقبة ، فقد ينبو السيفُ عن قطع الرّأس فيصيب بعض الأعضاء المتّصلة به من عين أو أنف أو أذن أو سنّ . وكذلك عند المصاولة لأنّ الوجه يقابل الصائل ، قال الحَريش بنُ هلال :
نعرِّض للسيوف إذا التقينا *** وُجوهاً لا تعرّض لللّطَام
وقوله : { والجروحَ قصاص } أخبر بالقصاص عن الجروح على حذف مضاف ، أي ذات قصاص . وقصاص مصدر قاصّة الدَّالّ على المفاعلة ، لأنّ المجنيّ عليه يقاصّ الجاني ، والجاني يقاصّ المجني عليه ، أي يقطع كلّ منهما التبعة عن الآخر بذلك . ويجوز أن يكون { قصاص } مصدراً بمعنى المفعول ، كالخلْق بمعنى المخلوق ، والنَّصْب بمعنى المنصوب ، أي مقصوص بعضها ببعض . والقصاص : المماثلة ، أي عقوبة الجاني بجِراح أن يُجرح مثل الجرح الّذي جنى به عمداً . والمعنى إذا أمكن ذلك ، أي أُمِن من الزيادة على المماثلة في العقوبة ، كما إذا جَرحه مأمومة على رأسه فإنَّه لا يدري حين يَضرب رأس الجاني ماذا يكون مدى الضّربة فلعلّها تقضي بموته ؛ فيُنتقَل إلى الدية كلّها أو بعضها . وهذا كلّه في جنايات العمد ، فأمّا الخطأ فلم تتعرض له الآية لأنّ المقصود أنّهم لم يقيموا حكم التوراة في الجناية .
وقرأ نافع ، وحمزة ، وعاصم ، وأبو جعفر ، وخلف { والجروح } بالنّصب عطفاً على اسم ( أنّ ) . وقرأه ابن كثير ، وابنُ عامر ، وأبو عمرو ، والكسائي ، ويعقوب بالرّفع على الاستئناف ، لأنّه إجمال لحكم الجراح بعد ما فصّل حكم قطع الأعضاء .
وفائدة الإعلام بما شرع الله لبني إسرائيل في القصاص هنا زيادة تسجيل مخالفتهم لأحكام كتابهم ، وذلك أنّ اليهود في المدينة كانوا قد دخلوا في حروب بعاث فكانت قريظة والنضير حرباً ، ثمّ تحاجزوا وانهزمت قريظة ، فشرطت النضير على قريظة أنّ ديّة النضيري على الضِعف من ديّة القُرظي وعلى أنّ القرظي يُقتل بالنضيري ولا يقتل النضيري بالقرظي ، فأظهر الله تحريفهم لكتابهم . وهذا كقوله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم } إلى قوله { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } [ البقرة : 84 ، 85 ] . ويجوز أن يقصد من ذلك أيضاً تأييد شريعة الإسلام إذ جاءت بمساواة القصاص وأبطلت التكايُل في الدّماء الّذي كان في الجاهلية وعند اليهود . ولا شكّ أنّ تأييد الشّريعة بشريعة أخرى يزيدها قبولاً في النّفوس ، ويدلّ على أنّ ذلك الحكم مراد قديم لله تعالى ، وأنّ المصلحة ملازمة له لا تختلف باختلاف الأفوام والأزمان ، لأنّ العرب لم يزل في نفوسهم حرج من مساواة الشّريف الضّعيف في القصاص ، كما قالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب تثأر بأخيها عبد الله بن معد يكرب :
فيَقْتُلَ جَبْراً بامرىءٍ لم يكن له *** بَوَاءً ولكنْ لاَ تَكَايُلَ بالدّم{[222]}
تريد : رضينا بأن يُقتل الرجل الذي اسمه ( جبر ) بالمرء العظيم الّذي ليس كفؤاً له ، ولكن الإسلام أبطل تكايُل الدّماء . والتكايل عندهم عبارة عن تقدير النّفس بعدّة أنفس ، وقد قدّر شيوخ بني أسد دَم حُجْرٍ والد امرىء القيس بدِيات عشرة من سادة بني أسد فأبى امرؤ القيس قبول هذا التّقدير وقال لهم : « قد علمتم أن حُجراً لم يكن ليَبُوء به شيء » وقال مهلهل حين قَتَل بُجيرا :
والبَواء : الكفاء . وقد عَدّت الآية في القصاص أشياء تكثر إصابتها في الخصومات لأنّ الرّأس قد حواها وإنَّما يقصد القاتل الرأس ابتداء .
وقوله : { فمن تصدّق به فهو كفارة له } هو من بقية ما أخبر به عن بني إسرائيل ، فالمراد ب { مَنْ تصدّق } من تصدّق منهم ، وضمير { به } عائد إلى ما دلّت عليه باء العوض في قوله { بالنفس } الخ ، أي من تصدّق بالحقّ الذي له ، أي تنازل عن العوض . وضمير { له } عائد إلى { من تصدّق } . والمراد من التصدّق العفو ، لأنّ العفو لمّا كان عن حقّ ثابت بيد مستحقّ الأخذ بالقصاص جُعل إسقاطه كالعطيّة ليشير إلى فرط ثوابه ، وبذلك يتبيّن أن معنى { كفّارة له } أنّه يكفّر عنه ذنوباً عظيمة ، لأجل ما في هذا العفو من جلب القلوب وإزالة الإحن واستبقاء نفوس وأعضاء الأمّة .
وعاد فحذّر من مخالفة حكم الله فقال : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظّالمون } لينبّه على أنّ التّرغيب في العفو لا يقتضي الاستخفاف بالحكم وإبطال العمل به لأنّ حكم القصاص شُرع لحكم عظيمة : منها الزجر ، ومنها جبر خاطر المعتدى عليه ، ومنها التفادي من ترصّد المعتدى عليهم للانتقام من المعتدين أو من أقوامهم . فإبطال الحكم بالقصاص يعطّل هذه المصالح ، وهْو ظلم ، لأنّه غمص لحقّ المعتدى عليه أو ولِيّه . وأمّا العفو عن الجاني فيحقّق جميع المصالح ويزيد مصلحة التحابب لأنّه عن طيب نفس ، وقد تغشى غباوة حكّام بني إسرائيل على أفهامهم فيجعلوا إبطال الحكم بمنزلة العفو ، فهذا وجه إعادة التّحذير عقب استحباب العفو . ولم ينبّه عليه المفسّرون . وبه يتعيّن رجوع هذا التّحذير إلى بني إسرائيل مثل سابقه .
وقوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظّالمون } القول فيه كالقول في نظيره المتقدّم . والمراد بالظّالمين الكافرون لأنّ الظلم يطلق على الكفر فيكون هذا مؤكّداً للّذي في الآية السابقة . ويحتمل أنّ المراد به الجور فيكون إثبات وصف الظلم لزيادة التشنيع عليهم في كفرهم لأنّهم كافرون ظالمون .