{ أيود أحدكم } الهمزة فيه للإنكار . { أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات } جعل الجنة منهما مع ما فيها من سائر الأشجار تغلبا لهما لشرفهما وكثرة منافعهما ، ثم ذكر أن فيها من كل الثمرات ليدل على احتوائها على سائر أنواع الأشجار ، ويجوز أن يكون المراد بالثمرات المنافع . { وأصابه الكبر } أي كبر السن ، فإن الفاقة والعالة في الشيخوخة أصعب ، والواو للحال أو للعطف حملا على المعنى ، فكأنه قيل : أيود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر . { وله ذرية ضعفاء } صغار لا قدرة لهم على الكسب . { فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت } عطف على أصابه ، أو تكون باعتبار المعنى . والإعصار ريح عاصفة تنعكس من الأرض إلى السماء مستديرة كعمود ، والمعنى تمثيل حال من يفعل الأفعال الحسنة ويضم إليها ما يحبطها كرياء وإيذاء في الحسرة والأسف ، فإذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة بحال من هذا شأنه ، وأشبههم به من جال بسره في عالم الملكوت ، وترقى بفكره إلى جناب الجبروت ، ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثورا . { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون } أي تتفكرون فيها فتعتبرون بها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
مثل الكافر كمثل شيخ كبير له بستان فيه من كل الثمرات، وله ذرية أولاد صغار، يعني عجزة لا حيلة لهم، فمعيشته ومعيشة ذريته من بستانه، فأرسل الله عز وجل على بستانه السَّمومَ الحارةَ، فأحرقت بستانه، فلم يكن له قوة من كبره أن يدفع عن جنته، ولم تستطع ذريته الصغار أن يدفعوا عن جنتهم التي كانت معيشتهم منها حين احترقت، ولم يكن للشيخ قوة أن يغرس مثل جنته، ولم يكن عند ذريته خير، فيعودون به على أبيهم عندما كان أحوج إلى خير يصيبه، ولا يجد خيرا، ولا يدفع عن نفسه عذابا، كما لم يدفع الشيخ الكبير، ولا ذريته عن جنتهم شيئا حين احترقت، ولا يردُّ الكافر إلى الدنيا فيُعْتَبَ، كما لا يرجع الشيخ الكبير شابا، فيغرس جنة مثل جنته، ولم يقدم لنفسه خيرا، فيعود عليه في الآخرة، وهو أحوج ما يكون إليه كما لم يكن عند والده شيئا فيعودون به على أبيهم، ويُحْرَم الخَيْرَ في الآخرة عند شدة حاجته إليه، كما حُرِمَ جنتَه عندما كان أحوجَ ما يكون إليها عند كبر سنه وضعف ذريته، {كذلك}: هكذا {يبين الله لكم الآيات}: يبين الله أمره، {لعلكم}: لكي {تتفكرون}: في أمثال الله عز وجل فتعتبروا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{أيَوَدّ أحَدُكُمْ}: أيحبّ أحدكم "أن تكون له جنة": بستانا من نخيل وأعناب "تجري من تحتها الأنهار": من تحت الجنة "وله فيها من كل الثمرات"؛ والهاء في قوله: {لَهُ} عائدة على أحد، والهاء والألف في: {فِيها} على الجنة. {وَأَصَابَهُ}: وأصاب أحدكم الكبر. {وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَاءُ}: وإنما جعل جل ثناؤه البستان من النخيل والأعناب، الذي قال جل ثناؤه لعباده المؤمنين: "أيودّ أحدكم أن تكون له" مثلاً لنفقة المنافق التي ينفقها رياء الناس، لا ابتغاء مرضاة الله، فالناس بما يظهر لهم من صدقته، وإعطائه لما يعطى وعمله الظاهر، يثنون عليه ويحمدونه بعمله ذلك أيام حياته في حسنه كحسن البستان وهي الجنة التي ضربها الله عزّ وجلّ لعمله مثلاً من نخيل وأعناب، له فيها من كل الثمرات، لأن عمله ذلك الذي يعمله في الظاهر في الدنيا، له فيه من كل خير من عاجل الدنيا، يدفع به عن نفسه ودمه وماله وذرّيته، ويكتسب به المحمدة وحسن الثناء عند الناس، ويأخذ به سهمه من المغنم مع أشياء كثيرة يكثر إحصاؤها، فله في ذلك من كل خير في الدنيا، كما وصف جل ثناؤه الجنة التي وصف مثلاً بعمله، بأن فيها من كل الثمرات، ثم قال جل ثناؤه: {وأصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَاءُ}: أن صاحب الجنة أصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء صغار أطفال {فأصَابَها}: فأصاب الجنة إعصار فيه نار، {فَاحْتَرَقَتْ}: بذلك أن جنته تلك أحرقتها الريح التي فيها النار في حال حاجته إليها، وضرورته إلى ثمرتها بكبره وضعفه عن عمارتها، وفي حال صغر ولده وعجزه عن إحيائها والقيام عليها، فبقي لا شيء له، أحوج ما كان إلى جنته وثمارها بالآفة التي أصابتها من الإعصار الذي فيه النار. يقول: فكذلك المنفق ماله رياء الناس، أطفأ الله نوره، وأذهب بهاء عمله، وأحبط أجره حتى لقيه، وعاد إليه أحوج ما كان إلى عمله، حين لا مستَعْتَب له ولا إقالة من ذنوبه ولا توبة، واضمحلّ عمله كما احترقت الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها عند كبر صاحبها وطفولة ذرّيته أحوج ما كان إليها فبطلت منافعها عنه.
وهذا المثل الذي ضربه الله للمنفقين أموالهم رياء الناس في هذه الآية نظير المثل الاَخر الذي ضربه لهم بقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدا لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا}.
وقد تنازع أهل التأويل في تأويل هذه الآية، إلا أن معاني قولهم في ذلك وإن اختلفت تصاريفهم فيها عائدة إلى المعنى الذي قلنا في ذلك. وإنما دللنا أن الذي هو أولى بتأويل ذلك ما ذكرناه، لأن الله جل ثناؤه تقدم إلى عباده المؤمنين بالنهي عن المنّ والأذى في صدقاتهم. ثم ضرب مثلاً لمن منّ وآذى من تصدّق عليه بصدقة، فمثله بالمرائي من المنافقين، المنفقين أموالهم رياء الناس. وكانت قصة هذه الآية وما قبلها من المثل نظيرة ما ضرب لهم من المثل قبلها، فكان إلحاقها بنظيرتها أولى من حمل تأويلها على أنه مثل ما لم يجر له ذكر قبلها ولا معها.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ}؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: ريح فيها سموم شديدة. وقال آخرون: هي ريح فيها برد شديد. {كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيات لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ}: كما بين لكم ربكم تبارك وتعالى أمر النفقة في سبيله، وكيف وجهها، وما لكم وما ليس لكم فعله فيها، كذلك يبين لكم الآيات سوى ذلك، فيعرفكم أحكامها وحلالها وحرامها، ويوضح لكم حججها، إنعاما منه بذلك عليكم. {لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ}: لتتفكروا بعقولكم، فتتدبروا وتعتبروا بحجج الله فيها، وتعملوا بما فيها من أحكامها، فتطيعوا الله به.
عن ابن عباس: {كَذلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ}: في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الاَخرة وبقائها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الخطاب من الله تعالى يخرج على وجوه ثلاثة:
خطاب يفهم مراده وقت قرعه السمع، وخطاب لا يفهم مراده إلا بعد النظر فيه والتفكير والتدبر، وهو كقوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن} الآية [النساء: 82]، وكقوله جل وعلا: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} [الحشر: 21] و {يعقلون} [البقرة: 164 و...]
وخطاب لا يفهم إلا بالسؤال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من له علم في ذلك كقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل: 43]. فإذا كان ما ذكرنا فيتحمل أن ما ترك من الجواب للخطاب إنما ترك للطلب والبحث عنه والتفحص...
ثم الأمثال التي ضربت بها المؤمنون لأن نظرهم ما في الأمثال من المعنى المدرج والمودع فيه، لم ينظروا أعينها، وأما الكفار فإنما ينظرون إلى أعين الأمثال لا إلي ما فيها، فاستحقروها، واستعبدت عقولهم ذلك. لذلك قال الله جل وعلا {لآيات لقوم يتفكرون} [الرعد: 3] و {يعقلون} [البقرة: 164 و...] ووجه ضرب هذا المثل، وهو أن الكافر يحرم أجره عند أفقر وأحوج ما كان إليه، كما حرم هذا نفع بستانه عند أفقر وأحوج ما كان إليه، حين كبرت سنه، وضعفت قوته، ولا حيلة له يومئذ...
ويحتمل أن يكون المعنى من ذلك: أي لا تغتروا بظاهر أحوالكم في الدنيا وبما تنالون من المنافع بالذي أظهرهم من موافقة المؤمنين كاغترار من ذكرت بجنته في خاص ما عليه حاله إلى آن: إلى ما أراه الله من عاقبته أنه يرد عنه نهاية ذلك إن لم يكن منه الاغترار في ذلك، ولكن كان قيامه على ما لا يضيع عنه لتلك الحال، فيخرج ذا على ضرب المثل للمنافق...
ويحتمل أن يكون ذلك مثلا لمن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن لم يؤمن بالبعث؛ إن الذي ينال بالكفر به من الرياسة والعز كالذي ذكر من صاحب الجنة أنه لا يود ذلك الابتداء بما يعلم تلك العاقبة، فكذا ما ينبغي لهم، إذ بين لهم عواقب الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم أن يؤتوا الذي نالوا بعد علمهم بشدة تلك العاقبة، والله أعلم...
والمثل خرج على غير ذكر الجواب فيه لما قد جرى له البيان لعلمه بالمبعوث نبيا، أو بما في الحال التي كان نزول الآية دليل التعريف، أو بما أراد الله امتحان السامعين بالتأمل في الآية لينال كل ذي فضل فضله، وليكرم به أهل التدبر في آياته في صرف وجوه من دونهم في الصدور عن آرائهم والاعتماد على إشارتهم، والله أعلم.
وجملة ذلك أن أفعال ذوي الاختيار تكون للعواقب وما إليه مرجع الفاعل مقصودا في الابتداء، فبين لمن أغفل عنه بالذي عرف من حيرة المسرور بجنته مما انكشفت له عاقبتها حتى لعله يود أن لم تكن له تلك، ليكون سروره بما يحمد عاقبته. فعلى هذا الأمر الأفعال التي يغفل عن عواقبها إذا صار صاحبها، والله الموفق...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
في الإعصار قولان:... والثاني: الإعصار: ريح تهب من الأرض إلى السماء كالعمود تسميها العامة الزوبعة...
واختلفوا في هذا المثل الذي ضربه الله في الحسرة لسلب النعمة، من المقصود به؟ على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه مثل للمرائي في النفقة ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليها، قاله السدي.
والثاني: هو مثل للمفرِّط في طاعة الله لملاذّ الدنيا يحصل في الآخرة على الحسرة العظمى، قاله مجاهد.
والثالث: هو مثل للذي يختم عمله بفساد، وهو قول ابن عباس...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف قال {جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} ثم قال: {لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثمرات} قلت: النخيل والأعناب لما كانا أكرم الشجر وأكثرها منافع، خصهما بالذكر، وجعل الجنة منهما وإن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليباً لهما على غيرهما، ثم أردفهما ذكر كل الثمرات. ويجوز أن يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيها كقوله: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف: 34] بعد قوله: {جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} [الكهف: 32]
فإن قلت: علام عطف قوله: {وَأَصَابَهُ الكبر}؟ قلت: الواو للحال لا للعطف. ومعناه أن تكون له جنة وقد أصابه الكبر. وقيل: يقال: وددت أن يكون كذا ووددت لو كان كذا، فحمل العطف على المعنى، كأنه قيل: أيودّ أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الريح إعصار لأنها تعصر السحاب، والسحاب معصرات إما أنها حوامل فهي كالمعصر من النساء وهي التي هي عرضة للحمل وإما لأنها تنعصر بالرياح، وبهذا فسر عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي، وحكى ابن سيده أن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب، وقال الزجاج: الإعصار الريح الشديدة تصعد من الأرض إلى السماء وهي التي يقال لها الزوبعة...
{ولعلكم} ترجّ في حق البشر، أي إذا تأمل من يبين له هذا البيان رجي له التفكر وكان أهلاً له. وقال ابن عباس {تتفكرون} في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها.
والمقصود من هذا المثل: بيان أنه يحصل في قلب هذا الإنسان من الغم والمحنة والحسرة والحيرة ما لا يعلمه إلا الله، فكذلك من أتى بالأعمال الحسنة، إلا أنه لا يقصد بها وجه الله، بل يقرن بها أمورا تخرجها عن كونها موجبة للثواب، فحين يقدم يوم القيامة وهو حينئذ في غاية الحاجة ونهاية العجز عن الاكتساب عظمت حسرته وتناهت حيرته، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} [الزمر: 47] وقوله {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} [الفرقان: 23].
ثم قال: {كذلك يبين الله لكم الآيات} أي كما بين الله لكم آياته ودلائله في هذا الباب ترغيبا وترهيبا، كذلك يبين الله لكم آياته ودلائله في سائر أمور الدين
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
{وأصابه الكبر}: هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى جنته، وتعلق قلبه بها من وجوه:
أحدها: أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها.
الثاني: أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه.
الثالث: أن له ذرية، فهو حريص على بقاء جنته لحاجته وحاجة ذريته.
الرابع: أنهم ضعفاء، فهم كل عليه، لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم.
الخامس: أن نفقتهم عليه، لضعفهم وعجزهم. وهذا نهاية ما يكون من تعلق القلب بهذه الجنة، لخطرها في نفسها، وشدة حاجته وذريته إليها.
فإذا تصورت هذه الحال وهذه الحاجة، فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنته إعصار، وهي الريح التي تستدير في الأرض ثم ترتفع في طبقات الجو كالعمود وفيه نار، مرت بتلك الجنة فأحرقتها، وصيرتها رمادا، فصدق والله الحسن في قوله: «هذا مثل قل من يعقله من الناس». ولهذا نبه الله سبحانه وتعالى على عظم هذا المثل، وحدا القلوب إلى التفكر فيه لشدة حاجتها إليه. فقال تعالى: {كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون}.
فلو فكر العاقل في هذا المثل وجعله قبلة قلبه لكفاه وشفاه، فكذلك العبد إذا عمل بطاعة الله ثم أتبعها بما يبطلها ويحرقها من معاصي الله كانت كالإعصار ذي النار المحرق للجنة التي غرسها بطاعته وعمله الصالح... فلو تصور العامل بمعصية الله بعد طاعته هذا المعنى حق تصوره وتأمله كما ينبغي لما سولت له نفسه والله إحراق أعماله الصالحة وإضاعتها، ولكن لا بد أن يغيب عنه علمه عند المعصية، ولهذا استحق اسم الجهل. فكل من عصى الله فو جاهل... وتأمل كيف ضرب سبحانه المثل للمنفق المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن الإيمان: بالصفوان الذي عليه التراب، فإنه لم ينبت شيئا أصلا، بل ذهب بذره ضائعا لعدم إيمانه وإخلاصه، ثم ضرب المثل لمن عمل بطاعة الله مخلصا بنيته لله، ثم عرض له ما أبطل ثوابه بالجنة التي هي من أحسن الجنان وأطيبها وأزهرها، ثم سلط عليها الإعصار الناري فأحرقها. فإن هذا نبت له شيء وأثمر له عمله، ثم أحرقه، والأول لم يحصل له شيء يدركه الحريق. فتبارك من جعل كلامه حياة للقلوب وشفاء للصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وأقول: إن المثل ينطبق أيضا على من أبطل صدقته بالمن والأذى وأنه ليس خاصا بالآخرة فإن باذل المال للفقراء وفي المصالح العامة يكون له من الجاه والمكانة عند الناس ما يشبه تلك الجنة التي وصفها المثل في رونقها ومنافعها، ويوشك أن يذهب مال هذا المنفق وتشتد حاجته وتقصر يده حتى لا يكون له مرتزق إلا ما غرسته يده من جنته تلك، فيحاول أن يجني منها فيحول دون ذلك إعصار من المن والأذى أو من ظهور الرياء فيحرقها حتى تكون كالصريم لا تؤتي ثمرها، ولا تسر رؤيتها، كذلك تكون عاقبة أهل الرياء وذوي المن والإيذاء ينبذهم الناس، عند شد حاجتهم إلى الناس، ولذلك أرشدنا تعالى بعد المثل، إلى التفكير في عاقبة هذا العمل، فقال: {كذلك يبين الله لكم الآيات} أي إنه تعالى يبين لكم الآيات الدالة على حقائق الأمور وغاياتها وفوائدها وغوائلها مثل هذا البيان في أبهى معارض التمثيل {لعلكم تتفكرون} في العواقب فتضعون نفقاتكم في المواضع التي يرضاها مع الإخلاص وقصد تثبيت النفس حتى لا يستخفها الطيش والإعجاب، فيدفعها إلى المن والأذى...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يقوم هذا المشهد العجيب بالإيحاء الشعوري الرعيب الذي لا يدع مجالا للتردد في الاختيار، قبل أن تذهب فرصة الاختيار، وقبل أن يصيب الجنة الوارفة الظليلة المثمرة إعصار فيه نار! وبعد فإن التناسق الدقيق الجميل الملحوظ في تركيب كل مشهد على حدة، وفي طريقة عرضه وتنسيقه... هذا التناسق لا يقف عند المشاهد فرادى. بل إنه ليمد رواقه فيشمل المشاهد متجمعة من بدئها في هذا الدرس إلى منتهاها.. إنها جميعا تعرض في محيط متجانس. محيط زراعي! حبة أنبتت سبع سنابل. صفوان عليه تراب فأصابه وابل. جنة بربوة فآتت أكلها ضعفين. جنة من نخيل وأعناب.. حتى الوابل والطل والإعصار التي تكمل محيط الزراعة لم يخل منها محيط العرض الفني المثير. وهي الحقيقة الكبيرة وراء العرض الفني المثير.. حقيقة الصلة بين النفس البشرية والتربة الأرضية. حقيقة الأصل الواحد، وحقيقة الطبيعة الواحدة، وحقيقة الحياة النابتة في النفس وفي التربة على السواء. وحقيقة المحق الذي يصيب هذه الحياة في النفس وفي التربة على السواء. إنه القرآن.. كلمة الحق الجميلة.. من لدن حكيم خبير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ضرب الله هذا مثلاً لمقابل مثل النفقة لمرضاة الله والتصديق وهو نفقة الرئاء، ووجه الشبه هو حصول خيبة ويأس في وقت تمام الرجاء وإشراف الإنتاج، فهذا مقابل قوله: {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله} [البقرة: 265] الآية. وقد وصف الجنّة بأعظم ما يحسن به أحوال الجنّات وما يُرجى منه توفر رَيعها، ثم وصف صاحبها بأقصى صفات الحاجة إلى فائدة جنّته، بأنّه ذو عيال فهو في حاجة إلى نفعهم وأنهم ضعفاء أي صغار إذ الضعيف في « لسان العرب» هو القاصر، ويطلق الضعيف على الفقير أيضاً، قال تعالى: {فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً} [البقرة: 282]
..فحصل من تفصيل هذه الحالة أعظم الترقّب لثمرة هذه الجنة كما كان المعطي صدقتُه في ترقّب لثوابها. فأصابها إعصار، أي ريح شديدة تَقلع الشجر والنباتَ، فيها نار أي شدة حرارة وهي المسمّاة بريح السموم، فإطلاق لفظ نار على شدة الحر تشبيه بليغ، فأحرَقت الجنةّ أي أشجارها أي صارت أعوادها يابسة، فهذا مفاجأة الخيبة في حين رجاء المنفعة. وقد أصابه الكِبَر فلا قدرة له على الكسب غير تلك الجنة
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لمّا كان منشأ كلّ تعاسة وشقاء وعلى الأخصّ كلّ عمل أحمق كالمنّ على الناس هو عدم إعمال العقل والتفكير في الأمور، فإنّ الله في ختام الآية يحثّ الناس على التعمّق في التفكير في آياته {كذلك يبيّن اللهُ لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون}
هذه الأمثلة بالتوالي كلّ واحدة منها تدلّ على الأمور الزراعية اللطيفة، لأن هذه الآيات لم تنزل على أهل المدينة الذين كانوا زرّاعاً فحسب، بل أنها نزلت على جميع الناس، على أية حال كانت الزراعة تشكل جانباً من حياتهم.
يستفاد من {وأصابه الكِبرَ وله ذريّة ضعفاء} إنّ الإنفاق في سبيل الله ومدّ يد العون للمحتاجين أشبه بالبستان اليانع الذي ينتفع بثمره صاحبه وأبناؤه أيضاً. ولكن الرياء والمنّ والأذى لا تحرم صاحبه وحده من ثمرات عمله، بل أنّ ذلك يحرم حتّى أبناءه والأجيال التالية من بركات تلك الأعمال الصالحات. وهذا دليل على أنّ الأجيال القادمة تشارك الأجيال السابقة في الانتفاع بثمرات العمل الطيّب. وهو كذلك أيضاً على الصعيد الاجتماعي، إذ أنّ المحبوبية والثقة التي ينالها الآباء نتيجةً لأعمالهم الصالحة بين الناس، وتكون خير رأسمال لأبنائهم من بعدهم.
عبارة {إعصار فيه نار} قد تكون إشارة إلى رياح السموم التي تحرق الزرع وتجفّف المياه، أو الرياح التي تكتسب الحراة من المرور على الحرائق فتكتسح معها النيران المحرقة وتحملها إلى مناطق أخرى، أو قد تكون إشارة إلى العواصف التي تصاحبها الصواعق فتصيب الأرض وتحيلها إلى رماد، إنّها على كلّ حال إشارة إلى إبادة سريعة.