ولما أتى سبحانه بهذه العبارة{[55472]} الحكيمة الصالحة مع البيان للتبعيض ترهيباً في ترغيب ، أحسن كلهن وحققن بما تخلقن به أن من للبيان ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عرض عليهن رضي الله عنهن ذلك ، وبدأ بعائشة رضي الله عنها رأس المحسنات إذ ذاك رضي الله عنها {[55473]}وعن أبيها{[55474]} وقال لها : " إني قائل لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أوبويك " ، فلما تلاها عليها قالت منكرة لتوقفها في الخبر{[55475]} : أفي هذا أستأمر أبوي ، فإني أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، ثم عرض ذلك على جميع أزواجه فاقتدين كلهن{[55476]} بعائشة رضي الله عنهن فكانت لهن إماماً فنالت إلى أجرها مثل أجورهن{[55477]} - روى ذلك البخاري{[55478]} وغيره عن عائشة رضي الله عنها ، وسبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم وجد على نسائه رضي الله عنهن فآلى منهن شهراً ، فلما انقضى الشهر نزل {[55479]}إليهن من{[55480]} غرفة كان اعتزل فيها وقد أنزل الله{[55481]} عليه الآيات . فخيرهن فاخترنه رضي الله عنهن ، وسبب ذلك أن منهن من سأل التوسع في النفقة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحب التوسع في الدنيا ، روى الشيخان{[55482]} رضي الله عنهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم ، من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروى الحديث البيهقي ولفظه : قالت : ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية ولو شئنا لشبعنا ، ولكنه كان يؤثر على نفسه ، وروى الطبراني في الأوسط عنها {[55483]}أيضاً رضي الله عنها{[55484]} قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سأل عني أو سره أن{[55485]} ينظر إلي فلينظر إليّ أشعث شاحب لم يضع{[55486]} لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة ، رفع له علم فشمر إليه ، اليوم{[55487]} المضمار وغداً السباق ، والغاية الجنة أو النار " .
ولما كان الله سبحانه قد أمضى حكمته في هذه الدار في أنه{[55488]} لا يقبل قول{[55489]} إلا ببيان ، قال سبحانه متهدداً{[55490]} على ما قد أعاذهن الله منه ، فالمراد منه بيان أنه رفع مقاديرهن ، ولذلك ذكر الأفعال المسندة إليهن اعتباراً بلفظ " من " والتنبيه على غلط من جعل صحبه الأشراف دافعة للعقاب على الإسراف ، ومعلمة بأنها إنما تكون سبباً للإضعاف : { يا نساء النبي } أي{[55491]} المختارات له لما بينه وبين الله مما يظهر شرفه { من يأتِ } {[55492]}قراءة يعقوب على ما نقله البغوي{[55493]} بالمثناة الفوقانية{[55494]} على{[55495]} معنى من دون لفظها ، وهي قراءة شاذة نقلها الأهوازي في كتاب الشواذ عن ابن مسلم عنه : وقرأ{[55496]} الجماعة بالتحتانية على اللفظ وكذا " يقنت " { منكن بفاحشة } أي من قول أو فعل كالنشوز وسوء الخلق باختيار الحياة الدنيا وزينتها على الله ورسوله أو غير ذلك { مبينة } أي واضحة ظاهرة في نفسها تكاد تنادي بذلك من سوء خلق ونشوز أو غير ذلك { يضاعف لها العذاب } أي بسبب ذلك ، ولما{[55497]} هول الأمر{[55498]} بالمفاعلة في قراءة نافع{[55499]} المفهمة{[55500]} لأكثر من اثنين كما مضى في البقرة ، سهله بقوله{[55501]} : { ضعفين } أي بالنسبة إلى ما لغيرها لأن مقدارها لا يعشره مقدار غيرها كما جعل حد الحر ضعفي{[55502]} ما للعبد ، وكما جعل أجرهن مرتين .
واشتد العتاب فيما بين الأحباب ، وعلى قدر علو المقام يكون الملام ، و{[55503]} بقدر النعمة تكون النقمة ، وكل من بناء يضاعف للمجهول من باب المفاعلة أو{[55504]} التفعيل {[55505]}لأبي جعفر والبصريين أو للفاعل بالنون عند ابن كثير وابن عامر{[55506]} يدل على عظمته سبحانه ، والبناء للمجهول يدل على العناية بالتهويل بالعذاب بجعله{[55507]} عمدة الكلام وصاحب{[55508]} الجملة بإسناد الفعل إليه ، وذلك كله إشارة إلى أن الأمور الكبار صغيرة عنده سبحانه لأنه لا يضره شيء ولا ينفعه شيء ، ولا يوجب شيء من الأشياء له حدوث شيء{[55509]} لم يكن ، ولذلك قال : { وكان ذلك } أي مع كونه عظيماً عندكم { على الله يسيراً * } فهذا ناظر إلى مقام الجلال والكبرياء والعظمة .
قوله تعالى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ( 30 ) * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا } .
( الفاحشة ) من الفحش وهو كل شيء جاوز الحد . وفحش الشيء فُحشا أي قَبُح قُبحا . وجمعها فواحش{[3734]} والمراد بالفاحشة هنا ، الكبيرة من الكبائر . وهي السيئة البليغة في القبح ؛ فإنه لما اختار نساء النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله واستقرّ أمرهن زوجات لشخصه الكريم ، أخبرهن الله بشأنهن المميز وبما لهن من خصيصة التكريم والإجلال أكثر من غيرهن من النساء المسلمات . فناسب بذلك إبلاغهن حكمهن بأن من يأت منهن فاحشة { بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } أي معصية ظاهرة ، كالنشوز والإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يشق عليه أو يحزنه أو غير ذلك من وجوه المساءات والمعاصي { يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } أي يعذبهن الله مثليْ عذاب غيرهن من النساء . وذلك لشرفهن وعظيم منزلتهن وفضلهن على سائر النساء .
قال القرطبي في هذا الصدد : إنه كلما تضاعفت الحرمات فهتِكت تضاعفت العقوبات ؛ ولذلك ضوعف حَدُّ الحرِّ على العبد ، والثيب على البكر . وقيل : لما كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مهبط الوحي وفي منزل أوامر الله ونواهيه ، قوي الأمر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن فضوعف لهن الأجر والعذاب . وقيل : إنما ذلك لعِظَم الضرر في جرائمهن بإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .
على أنه أراد بالضعفين المثلين أو المرتين . والضعف في كلام العرب المثل .
وضعف الشيء مثله . وضعفاه مثلاه . وأضعافه أمثاله{[3735]}
وهذا التضعيف في العذاب إنما يكون في الآخرة . وقيل : في الدنيا والآخرة .
قوله : { وكان ذلك على الله يسيرا } أي مضاعفة العذاب على التي تعصي الله من نساء النبي أمر يسير على الله . أو لا يعزّ على الله أن يضاعف العذاب للمسيئة منهن .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.