نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ} (3)

ولما أمره باستغراق الزمان في عبادة الخالق ، والإحسان إلى الخلائق بأعلى الخلائق ، علله بما حاصله أنه لا شاغل له ولا حاجة أصلاً تلم به فقال : { إن شانئك } أي مبغضك والمتبرىء منك والمستهين بك مع ما أوتيت من الجمال ، والخصال الفاضلة والكمال { هو } أي خاصة { الأبتر * } أي المقطوع من أصله ، والمقطوع النسل ، والمعدم والمنقطع الخير والبركة والذكر ، لا يعقبه من يقوم بأمره ويذكر به وإن جمع المال ، وفرغ بدنه لكل جمال ، وأنت الموصول الأمر ، النابه الذكر ، المرفوع القدر ، فلا تلتفت إليهم بوجه من الوجوه ، فإنهم أقل من أن يبالي بهم من يفرغ نفسه للفوز بالمثول في حضراتنا الشريفة ، والافتخار بالعكوف في أبوابنا العالية المنيفة ، لك ما أنت عليه ، ولهم ما هم فيه ، فالآية الأخيرة النتيجة ؛ لأن من الكوثر علو أمره وأمر محبيه وأتباعه في ملكوت السماء والأرض ونهر الجنة ، وسفول شأن عدوه فيهما .

ختام السورة:

فقد التف كما ترى مفصلها بموصلها ، وعرف آخرها من أولها ، وعرف أن وسطاها كالحدود الوسطى معانقة للأولى بكونها من ثمارها ، ومتصلة بالأخرى ؛ لأنها من غايات مضمارها ، وقد صدق الله { ومن أصدق من الله قيلاً } ، لم يبق لأحد من مبغضيه ذكر بولد ولا تابع ، ولا يوجد لهم شاكر ولا مادح ولا رافع ، وأما هو صلى الله عليه وسلم فقد ملأت ذريته من فاطمة الزهراء الأرض ، وهم الأشراف مع مبالغة الملوك في قتلهم ، وإخلاء الأرض من نسلهم ، خوفاً من شرفهم العالي على شرفهم ، ورفعتهم بالتواضع الغالب لصلفهم ، وإذا راجعت آية{ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله }[ الأحزاب : 40 ] من الأحزاب علمت أن توفي بنيه عليهم السلام قبله من إعلاء قدره ومزيد تشريفه بتوحيد ذكره ، وأما أتباعه فقد استولوا على أكثر الأرض ، وهم أولو الفرقان ، والعلم الباهر والعرفان ، ويؤخذ منها أن من فرغ نفسه لربه أهلك عدوه ، وكفاه كل واحد منهم ، وقد علم أن حاصل هذه السورة المن عليه صلى الله عليه وسلم بالخير العظيم الذي من جملته النهر المادّ من الجنة في المحشر المورود لمن اتبعه ، الممنوع ممن تأبى عنه وقطعه ، وأمره بالصلاة والنحر للتوسعة على المحاويج ، والبشارة بقطع دابر أعدائه ونصر جماعة أوليائه ، كما أن من مقاصد الأعراف المناظرة لها في رد المقطع على المطلع تهديد الظالمين بالإهلاك في قوله{ وكم من قرية أهلكناها }[ الأعراف : 4 ] ، وتصوير ذلك بذكر مصارع الماضين لمخالفتهم الرسل عليهم الصلاة والسلام ، والأمر بالصلاة وستر العورة ، وما يقصد بالنحر بقوله :{ خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا }

الآيات [ الأعراف : 31 ] ، وذكر من يمنح ماء الجنة ومن يمنعه بقوله تعالى :{ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أو أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله }الآيات [ الأعراف : 50 ] ، وقوله تعالى :

{ ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم }[ الأعراف : 157 ] هذا ما يتعلق بتفسير تراكبيها وجملها ، وتأويل تفاصيلها ومجملها ، وكذا نظيرتها في مبادىء أمرها ومكملها . ثم إن هذه السورة عشر كلمات في الكتابة ، إشارة إلى أن تمام بتر شانئه يكون مع تمام السنة العاشرة من الهجرة ، وكذا كان ، لم تمض السنة الحادية عشرة من الهجرة-وفي جزيرة العرب -إلا من يرى أشرف أحواله بذل نفسه وماله في حبه ، وإذا أضفنا إليها الضميرين المستترين كانت اثنتا عشرة ، وفي السنة الثانية عشرة من النبوة بايعه صلى الله عليه وسلم الأنصار على منابذة الكفار ، وإذا أضيف إلى العشرة الضمائر البارزة الخمسة كانت خمس عشرة ، فتكون إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم عند تمام السنة الخامسة عشر من نبوته يبسط يده العالية لبتر أعدائه ، وكذا كان في وقعة بدر الرفيعة القدر ، ففي ضمائر الاستتار كانت البيعة وهي مستترة ، وفي الضمائر البارزة كانت بدر وهي مشتهرة ، وإذا أضيف إلى ذلك الضميران المستتران كانت سبع عشرة ، وفي السنة السابعة عشرة من نبوته كانت غزوة بدر الموعد ، وفى فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالوعد في الإتيان إلى بدر للقاء قريش للقتال ومقارعة الأبطال ، فآذنهم الله فلم يأتوا ، وإنما اعتبر ما بعد الهجرة من أحوال النبوة عندما عدت الكلمات الخطية العشر لكونها أقوى أحوال النبوة ، كما أن الكلمات الخطية أقوى من الضمائر ، وإن اشترك الكل في اسم الكلمات ، فلذلك أخذ تمام البتر للشانىء ، وهو ما كان في السنة الحادية عشرة من هلاك أهل الردة ، وثبات العرب في صفة الإسلام ، ولما ضمت الضمائر البارزة الخمسة التي هي أقرب من المستترة إلى الكلمات الخطية ، وأضعف من الكلمات الخطية ، اعتبر من أول السورة لمناسبة ما كان من ضعف الحال فيما كان قبل الهجرة ، فوازى ذلك السنة الثانية من الهجرة التي كانت فيها غزوة بدر الكبرى ، وهي وإن كانت من العظم على أمر بالغ جداً لكنها كانت على وجه مخالف للقياس ، فإن حال الصحابة رضي الله عنهم كان فيها في غاية الضعف ، ولكونها أول ما وقع فيه النصر من الغزوات لم تكن نفوس المخالفين مذعنة ؛ لأن ما بعدها يكون مثلها ، فإذا ضم إلى ذلك الضميران المستتران - وهما أضعف من البارز - انطبق العدد على سنة غزوة بدر الموعد في سنة أربع ، وهي وإن كانت قوية لكون قريش ضعفوا عن اللقاء ، لكن كان حالها أضعف من بدر التي وقع فيها القتال وأستر ، وكون كلماتها الخطية والاصطلاحية التي هي أبعاض الكلمات الخطية سبع عشرة مؤذن بأن الأمر في { فصلِّ } مصوب بالذات بالقصد الأول إلى الصلوات الخمس التي هي سبع عشرة ركعة ، وأن من ثابر عليها كان مصلياً خارجاً من عهدة الأمر ، فإذا قصدت في السفر بما اقتضته صفة التربية بالإحسان نقصت بقدر عدة الضمائر سوى الذي وفى بالأمر بها ؛ لأن الأمر الناشىء عن مظهر العظمة لا يليق فيه التخفيف بنفسه كلمة الأمر ، وإذا أضفنا إليها كلمات البسملة الأربع كان لها أسرار كبرى من جهة أخرى ، وذلك أن الكلمات الخطية تكون أربع عشرة ، إشارة إلى أن ابتداء البتر للأضداد يكون بالقوة القريبة من الفعل بالتهييء له في السنة الرابعة عشرة من النبوة ، وذلك عام الهجرة ، فإذا أضفنا إليها الضمائر البارزة التي هي أقرب إلى الكلمات الخطية -وهي خمسة -كانت تسع عشرة ، وفي السنة التاسعة عشرة من النبوة -وهي السادسة من الهجرة- كان الفتح المبين على الشانئين الذي أنزل الله فيه سورة الفتح ، فإذا أضفنا إليها الضميرين المستترين كانت إحدى وعشرين -وهي سنة ثمان من الهجرة - سنة الفتح الأكبر الذي عم العلم فيه بأن الشانىء هو الأبتر ، وإذا اعتبرت حروفها المتلفظ بها كانت أربعة وأربعين حرفاً ، فإذا ناظرتها بالسنين من أول حين النبوة كان آخرها سنة إحدى وثلاثين من الهجرة ، وهي سنة البتر الأعظم لشانئه الأكبر الذي مزق كتابه ، وكان مالكاً لبلاد اليمن ، وهو قدر كبير من بلاد العرب ، وكذا لغيرهم مما قارب بلاده ، وكانت قريش تجعله من عدادهم كما مضى بيانه في سورة الروم وهو كسرى ملك الفرس ، ففيها كان انقراض ملكهم بقتل آخر ملوكهم يزدجرد ، كما أنك إذا اعتبرت كلماتها الخطية مع الضمائر البارزة التي هي كلمات اصطلاحية دون ما استتر - فإن وجوب استتاره منع من عده - كانت تسع عشرة كلمة ، فإن اعتبرت بها ما بعد الهجرة وازت وقت موت قيصر طاغية الروم في سنة تسع عشرة من الهجرة أهلكه الله ، وقد تجهز إلى قتال العرب بالإسكندرية بنفسه ، وأمر ألا يتخلف عنه أحد من الروم ، فكسر الله بموته شوكة الروم ، واستأسدت العرب عند ذلك ، فكانت الأحرف مشيرة إلى بتر الشانىء من الفرس ، والكلمات مشيرة إلى بتر الشانىء من الروم والفرس أولى بإشارة الأحرف ؛ لأنهم ليسوا بذوي علم ، والروم بالكلمات ؛ لأنهم أهل علم ، والكلمات أقرب إلى العلم ، وإذا اعتبرت أحرف البسملة اللفظية كانت ثمانية عشر حرفاً ، فإذا جعلتها سنين من أول النبوة كان آخرها سنة خمس من الهجرة ، وفيها كانت غزوة الأحزاب ، قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافهم منها :

" الآن نغزوهم ولا يغزونا " ، فهو أول أخذ الشانىء في الانبتار ، وإذا اعتبرت الأحرف بحسب الرسم كانت تسعة عشر ، آخرها سنة ست ، وهي عمرة الحديبية سنة الفتح السببي وهو الصلح الذي نزلت فيه سورة الفتح وسماه الله فتحاً ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه أعظم الفتح " ، فكان سبب الفتح الأعظم بخلطة الكفار لأهل الإسلام بالصلح ، فأسرعوا إلى الإسلام بالدخول فيه لما رأوا من محاسن الدين وإعجاز القرآن ، فكانوا يوم الفتح عشرة آلاف بعد أن كانوا قبل ذلك بسنتين يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة ، والله الموفق ، هذا يسير من أسرار هذه السورة ، وقد علم منه من إعجازها ما يشرح الخواطر ويبهج النواظر ؛ لأنه يفوق حسناً على الرياض النواضر ، وعلم أيضاً جنون الخبيث المسخرة مسيلمة الكذاب - عليه اللعنة والتباب ، وله سوء المنقلب والمآب- حيث قال في معارضتها : إنا أعطيناك الجماهر ، فصل لربك وهاجر ، إنا كفيناك المكابر أو المجاهر ؛ لأنه كلام ، مع أنه قصير المدى ، ركيك اللحمة والسدى ، غريق الساحة والفنا في الهلك والفنا ، ليس فيه غنى ؛ بل كله نصب وعنا ، هلهل النسج رث القوى ، منفصم العرى ، مخلخل الأرجا ، فاسد المعنى والبنا ، سافل الألفاظ مر الجنى ؛ لأن العلل منافية للمعلولات ، والشوامل منافرة للمشمولات ، ثم رأيت في دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني أن الوسطى من قال : العاهر وجاهر ، فإن كان بالدين لم يمنع الصدح بالباطل ، وذلك لا يرضى به عاقل ، وإن كان بالحرب كان على النصف لكل من تدبر فعرف ، ولا نص فيه على الغلب بمطلوبيه ، ولا طلب مع نقص الجود على كل تقدير ، الذي هو المقصود للغني والفقير ، والمأمور والأمير ، هذا مع الإغارة على الأسلوب ، والحذو على المعهود غير محاذ{ في القصاص حياة }[ البقرة : 179 ] في إسقاط " القتل أنفى للقتل " بالرشاقة مع الوجازة ، والعذوبة مع البلاغة ، في إصابة حاق المعنى بما يقود إلى السماح بالنفس ، ويحمل على المبادرة إلى امتثال الأمر ، والأولى من سخيف عقل الخسيف ، وأكله إلى الخلق مع نقصان المعنى السار للإسرار ، والأخرى مهملة لذوي الشبه والستر مع ما فاتها من قصر الخسار ، وخصوص التبار ، إلى ما حوت من بيان الكذب البتار للأعمار المخرب للديار ، تصديقاً للنبي صلى الله عليه وسلم البار بأيدي صحابته الأخيار ، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار . فسبحان من علا فعلا كلامه كل كلام ، والسلام ، والحمد لله على كل حال .