نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلطَّيۡرُ صَـٰٓفَّـٰتٖۖ كُلّٞ قَدۡ عَلِمَ صَلَاتَهُۥ وَتَسۡبِيحَهُۥۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِمَا يَفۡعَلُونَ} (41)

ولما كان قيام الأمور ، وظهورها كل ظهور ، إنما هو بالنور ، حساً بالإيجاد ، ومعنى بجعل الموجودات آيات مرئيات تدل على موجدها ، قال تعالى دالاً على ما أخبر به من أنه وحده نور السماوات والأرض ، أي موجدهما بعلمه وقدرته ومن أن من كساه من نوره فإن في يوم البعث الذي يجازي فيه الخلق على ما يقتضيه العلم الذي هو النور في الحقيقة من مقادير أعمالهم ، ومن أعراه من النور هلك : { ألم تر } أي تعلم يا رأس الفائزين برتبة الإحسان علماً هو في ثباته كما بالمشاهدة { أن الله } الحائز لصفات الكمال { يسبح له } أي ينزه عن كل شائبة نقص لأجله خاصة بما له فيه من القدرة الكاملة { من في السماوات } .

ولما كان مبنى السورة على شمول العلم والقدرة لم يؤكد فقال : { والأرض } أي هما وكل ما فيهما بلسان حاله ، أو آلة مقاله ، وعرف أن المراد العموم بعطفه بعض ما لا يعقل ، وعبر ب " من " لأن المخبر به من وظائف العقلاء .

ولما كان أمر الطير أدل لأنه أعجب ، قال مخصصاً : { والطير صافات } أي باسطات أجنحتها في جو السماء ، لا شبهة في أنه لا يمسكهن إلا الله ، وإمساكه لها في الجو مع أنها أجرام ثقيلة ، وتقديره لها فيه على القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرته .

ولما كان العلم يوصف به ما هو سبب كالكتاب المصنف ونحوه ، ويشتق للشيء اسم فاعل مما لابسه كما يقال : ليله قائم ، ونهاره صائم ، { ولا تزال تطلع على خائنة منهم }[ المائدة : 13 ] وكانت أسطر القدرة مجودة على كل كائن ، شديدة الوضوح في صفحات كل شيء ، فكانت الكائنات بذلك دالة على خالقها وما له من كل صفة كمال ، صح إطلاق العلم عليها وإسناده إليها فقال : { كل } أي من المخلوقات { قد علم } أي بما كان سبباً له من العلم بما فيه من الآيات الدالة المعلمة بما لموجده من صفات الكمال { صلاته } أي الوجه الذي به وصلته بمولاه ونسبته إليه { وتسبيحه } أي الحال الذي به براءة صانعه من الشين وتعاليه عن النقص ، وقد صرحت بذلك ألسن أحوالها ، نيابة عن بيان مقالها ، هذا بقيامه صامتاً جامداً ، وهذا بنموه مهتزاً رابياً ، إلجاء وقهراً ، وهذا بحركته بالإرادة ، وقصد وجوه منافعه ، وبعده عن أحوال مضاره بمجرد فطرته وما أودع في طبيعته ، وهذا بنطقه وعقله ، ونباهته وفضله ، مع أن نسبة كل منهم إلى الأرض والسماء واحدة ، ويدل على ذلك دلالة واضحة ما روى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن " النبي صلى الله عليه وسلم أن نوحاً عليه السلام أوصى ابنه عند موته بلا إله إلا الله ، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو كن حلقة مبهمة قصمتهن ، وسبحان الله وبحمده ، فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق الخلق وقال الغزالي في الإحياء : وروي " أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : تولت عني الدنيا وقلت ذات يدي ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق وبها يرزقون " ، قال فقلت : وما هي يا رسول الله ؟ قال : " سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم أستغفر الله مائة مرة ما بين طلوع الفجر إلى أن تصلي الصبح ، تأتيك الدنيا راغمة صاغرة ، ويخلق الله من كل كلمة ملكاً يسبح الله إلى يوم القيامة لك ثوابه "

قال الحافظ زين الدين العراقي : رواه المستغفري في الدعوات عن ابن عمر رضي الله عنهما وقال : غريب من حديث مالك ، ولا أعرف له أصلاً من حديث مالك " .

ولما كان التقدير : فالله قدير على جميع تلك الشؤون ، عطف عليه قوله : { والله } أي المحيط علماً وقدرة { عليم بما يفعلون* } بما ثبت مما أخبركم به في هذه السورة دقائق أقوالكم وأحوالكم ، وضمائركم وأفعالكم ، وقد تقدم في الأعراف عند{ أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض }[ الأعراف : 185 ] ما ينفع هنا .