فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلطَّيۡرُ صَـٰٓفَّـٰتٖۖ كُلّٞ قَدۡ عَلِمَ صَلَاتَهُۥ وَتَسۡبِيحَهُۥۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِمَا يَفۡعَلُونَ} (41)

{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ؟ } قد تقدم تفسير مثل هذه الآية في تفسير سورة سبحان ، والخطاب لكل من له أهلية النظر ، أو للرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد علمه من جهة الاستدلال ، ومعنى { ألم تر } ألم تعلم ؟ والهمزة للتقرير ، أي قد علمت علما يقينا ، شبيها بالمشاهدة ، والوثاقة بالوحي ، وظاهره أنه استعارة ، ومقتضى كلام النحويين أن رأى العلمية حقيقة ، قاله الشهاب والتسبيح التنزيه في ذاته ، وأفعاله ، وصفاته ، عن كل ما لا يليق به .

ومعنى { مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } من هو مستقر فيهما من العقلاء وغيرهم ، وتسبيح غير العقلاء ما يسمع من أصواتها ، ويشاهد من أثر الصنعة البديعة فيها ، وقيل إن التسبيح هنا هو الصلاة من العقلاء ، والتنزيه من غيرهم ، وقد قيل إن هذه الآية تشكل الحيوانات ، والجمادات ، وأن آثار الصنعة البديعة الإلهية في الجمادات ناطقة ، ومخبرة باتصافه سبحانه ، بصفات الجلال ، والكمال وتنزهه عن سمات النقص والزوال . وفي ذلك تقريع للكفار وتوبيخ لهم حيث جعلوا الجمادات التي من شأنها التسبيح لله سبحانه شركاء له يعبدونها ، كعبادته عز وجل ، وبالجملة فإنه ينبغي حمل التسبيح على ما يليق ، بكل نوع من أنواع المخلوقات ، على طريقة عموم المجاز .

{ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ } أي باسطات أجنحتها في الهواء ، وخص الطير بالذكر مع دخولها تحت من في السماوات والأرض ، لعدم استمرار استقرارها في الأرض ، وكثرة لبثها في الهواء ، وهو ليس من السماء ، ولا من الأرض ، ولما فيها من الصنعة البديعة ، التي يقدر بها تارة على الطيران ، وتارة على المشي ، بخلاف غيرها من الحيوانات . وذكر حالة من حالات الطير ، وهي كون صدور التسبيح منها ، حال كونها صافات لأجنحتها ، لأن هذه الحالة هي أغرب أحوالها ، فإن استقرارها في الهواء مسبحة ، من دون تحريك لأجنحتها ، ولا استقرار على الأرض من أعظم صنع الله الذي أتقن كل شيء ، ثم زاد في البيان فقال :

{ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } أي كل واحد من هذه المسبحات لله ، قد علم صلاة المصلي ، وتسبيح المسبح . وقيل إن المعنى أن كل مصل ، ومسبح ؛ قد علم صلاة نفسه ، وتسبيح نفسه . قال السمين : وهذا أولى لتوافق الضمائر . قيل والصلاة هنا بمعنى التسبيح ، وكرر للتأكيد ، والصلاة قد تسمى تسبيحا . وقيل المراد بها هنا الدعاء ، أي علم دعاءه .

وفائدة الإخبار بأن كل واحد قد علم ذلك أن صدور هذا التسبيح هو عن علم قد علّمها الله ذلك ؛ وألهمها إليه لا أن صدوره منها على طريقة الاتفاق بلا روية ، وفي ذلك زيادة دلالة على بديع صنع الله سبحانه ؛ وعظم شأنه من كونه جعلها مسبحة له ، عالمة بما يصدر منها ، غير جاهلة له وقال السدي : الصلاة للإنسان ، والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه ، وقيل إن ضرب أجنحة الطير صلاته ، وصوته تسبيحه ، أو المعنى كل واحد من هذه المسبحة ، قد علم الله صلاته له ؛ وتسبيحه إياه ، والأول أرجح ، لاتفاق القراء على رفع { كل } ولو كان الضمير لله لكان نصب كل أولى ، وقيل المعنى علم كل صلاة الله وتسبيحه ؛ أي اللذين أمر بهما وبأن يفعلا ، كإضافة الخلق إلى الخالق ، والأول أولى . وقرئ علم على البناء للمفعول .

{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } مقررة لما قبلها ، أي لا يخفى عليه طاعتهم ، ولا تسبيحهم ، ولا يعزب عن علمه شيء .