قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض } الآية .
لما وصف أنوار قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد .
والمعنى{[34971]} : ألم تعلم ، لأن{[34972]} التسبيح لا يرى بالبصر بل يعلم بالقلب ، وهذا استفهام والمراد به : التقرير والبيان . قال ابن الخطيب : «إما أن يكون المراد من هذا التسبيح دلالته بخلق هذه الأشياء على كونه تعالى منزهاً عن النقائص ، موصوفاً بنعوت الجلال ، أو يكون المراد منه في حق البعض الدلالة على التنزيه وفي حق الباقين النطق باللسان .
والأول أقرب ، لأن القسم الثاني متعذر ، لأن في{[34973]} الأرض من لا يكون مكلفاً لا يسبح بهذا المعنى والمكلفون منهم فمن لا يسبح أيضاً بهذا المعنى كالكفار .
وأما القسم الثاني{[34974]} وهو أن يقال : إن من{[34975]} في السماوات وهم الملائكة يسبحون باللسان وأما الذين في الأرض فمنهم من يسبح على سبيل الدلالة ، فهذا يقتضي{[34976]} استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معاً ، وهو غير جائز ، فلم يبق إلا القسم الأول ، وهو أن هذه الأشياء مشتركة في أن أجسامها وصفاتها دالة على تنزيه الله تعالى وقدرته وإلاهيته وتوحيده وعدله ، فسمى ذلك تنزيهاً توسعاً . فإن قيل فالتسبيح بهذا المعنى حاصل بجميع المخلوقات فما وجه تخصيصه هاهنا بالعقلاء ؟ قلنا : لأن خلقة العقلاء أشد دلالة على وجود الصانع سبحانه ، لأن العجائب والغرائب في خلقهم أكثر ، وهي العقل والنطق والفهم »{[34977]} .
قوله : «والطَّيرُ » . قرأ العامة : «والطّيْر » رفعاً ، «صَافَّاتٍ » نصباً . فالرفع عطف على «مَنْ » والنصب على الحال{[34978]} . وقرأ الأعرج : «والطَّيْرَ » نصباً على المفعول معه و " صافات " حال أيضا{[34979]} وقرأ الحسن وخارجة عن نافع : والطير صافات برفعهما{[34980]} على الابتداء والخبر ، ومفعول «صَافَّات » محذوف ، أي : أجنحتها .
قوله : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ } في هذه الضمائر أقوال :
أحدها : أنَّها كلَّها عائدةٌ على «كُلٌّ }{[34981]} ، أي : كلٌّ قد عَلِمَ هُوَ صَلاَةَ نَفْسِهِ وتَسْبِيحَهَا ، وهذا أولى لتوافق الضمائر .
الثاني : أن الضمير في «عَلِمَ » عائد إلى الله تعالى ، وفي «صَلاَتَهُ وتَسْبِيحَهُ » عائد على «كُلٌّ » ، ويدل عليه قوله تعالى : { والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } .
الثالث : بالعكس ، أي : عَلِمَ كلٌّ صلاةَ اللَّه وتَسْبِيحَه ، أي : اللذين أمَرَ بهما وبأن يُفْعَلاَ ، كإضافة الخلق إلى الخالق{[34982]} ، وعلى هذا فقوله : «واللَّه علِيمٌ » استئناف .
ورَجَّحَ أبو البقاء ألاَّ يكون الفاعل ضمير «كُلٌّ » قال : «لأنَّ القراءة برفع ( كُلٌّ ) على الابتداء فيرجع ضمير الفاعل إليه ، ولو كان فيه ضمير الله{[34983]} لكان الأولى نصب ( كُلّ ) لأن الفعل الذي بعدها قد نصب ما هو من سببها فيصير كقولك : ( زَيْداً ضَرَبَ عَمْرٌو وغُلاَمه ) فتنصب ( زيداً ) بفعل دلَّ عليه ما بعده ، وهو أقوى من الرفع ، والآخر جائز »{[34984]} .
قال شهاب الدين : وليس كما ذكر من ترجيح النصب على الرفع في هذه الصُّورة ولا في هذه السورة{[34985]} ، بل نصَّ النحويون على أنَّ مثل هذه الصورة يرجَّح رفعها بالابتداء على نصبها{[34986]} على الاشتغال ، لأنه لم يكن ثمَّ قرينة من القرائن التي جعلوها مرجحةً للنصب ، والنصب{[34987]} يحوجُ إلى إضمار ، والرفع لا يحوج إليه ، فكان أرجح{[34988]} . وقرأت فرقة : { عُلِمَ صَلاَتُهُ وتَسْبِيحُهُ } بالرفع وبناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله . ذكرها أبو{[34989]} حاتم{[34990]} .
وجه اتصال هذا بما قبله{[34991]} أنه تعالى لما ذكر أن أهل السماوات والأرض يسبحون ، ذكر المستقرين في الهواء{[34992]} الذي هو بين السماء والأرض ، وهم الطير يسبحون ، وذلك أن إعطاء{[34993]} الجرم الثقيل القوة التي بها يقوى على الوقوف في جو السماء صافة باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط من أعظم الدلائل على قدرة الصانع المدبر سبحانه ، وجعل طيرانها سجوداً منها له سبحانه ، وذلك يؤيد أن المراد من التسبيح دلالة هذه الأمور على التنزيه ( لا النطق ) {[34994]} اللساني{[34995]} . وقال{[34996]} أبو ثابت : «كنت جالساً عند أبي جعفر الباقر فقال لي : أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها ؟ ( قال : لا ) {[34997]} قال : فإنهن يقدسن ربهن ويسألنه قوت يومهن » . واستبعد المتكلمون ذلك{[34998]} فقالوا{[34999]} : الطير لو كانت عارفة بالله لكانت كالعقلاء الذين يفهمون كلامنا وإشارتنا ، لكنها ليست كذلك ، فإنا نعلم بالضرورة بأنها أشد نقصاناً من الصبي الذي لا يعرف هذه الأمور ، فبأن يمتنع ذلك فيها أولى ، وإذا ثبت أنها لا تعرف الله استحال كونها مسبحة له بالنطق ، فثبت أنها لا تسبح الله إلا بلسان الحال كما تقدم{[35000]} . قال بعض العلماء : إنا نشاهد من الطيور وسائر الحيوانات أعمالاً لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء ، وإذا كان كذلك ( فلِمَ لا ) {[35001]} يجوز أن يلهمها معرفته ودعاءه{[35002]} وتسبيحه ؟ وبيان أنه سبحانه ألهمها الأعمال اللطيفة من وجوه :
أحدها : أن الدب يرمي بالحجارة ويأخذ العصا ويرمي الإنسان حتى يتوهم أنه مات فيتركه ، وربما عاود{[35003]} يشمه{[35004]} ويتحسس نفسه ويصعد الشجر أخف صعود ويهشم الجوز بين كفيه تعريضاً بالواحد وصدمة بالأخرى ، ثم ينفخ فيه فيدرأ قشره ويتغذى به ، ويحكى عن الفأر في سرقته أمور عجيبة .
وثانيها : أمر النحل وما لها من الرياسة والبيوت المسدسة التي لا يتمكن من بنائها أفاضل المهندسين .
وثالثها : انتقال الكَرَاكِيّ{[35005]} من طرف من أطراف العالم إلى الطرف الآخر طلباً لما يوافقها من الأهوية ، ويقال : من خواص الخيل أن كل واحد يعرف صوت الفرس الذي قابله وقتاً ما ، والفهد إذا سقي أو شرب من الدواء المعروف بخانق{[35006]} الفهد عمد إلى زبل الإنسان ليأكله ، والتماسيح تفتح أفواهها لطائر يقع عليها يقال له : القطقاط وينظف ما بين أسنانها ، وعلى رأس{[35007]} ذلك الطائر كالشوكة ، فإذا هم التمساح بالتقام ذلك الطير تأذى من تلك الشوكة ، فيفتح فاه ، فيخرج ذلك الطائر ، والسلحفاة تتناول بعد أكل الحية صعتراً{[35008]} جبلياً ثم تعود من ذلك{[35009]} . وحكى بعض الثقاة{[35010]} المجربين للصيد أنه شاهد الحبارى تقاتل الأفعى وتنهزم عنه إلى بقلة تتناول منها ثم تعود ، ولا تزال كذلك ، وكان ذلك الشخص قاعداً في كن ، وكانت البقلة قريبة من مسكنه ، فلما اشتغل الحبارى قلع البقلة ، فعاد الحبارى إلى منبتها فلم يجدها ، وأخذ يدور حول منبتها دوراناً متتابعاً حتى خَرَّ ميتاً ، فعلم الشخص أنه يعالج بأكلها من اللسعة ، وتلك البقلة هي الجرجير{[35011]} البري .
وابنُ عِرْس{[35012]} يستظهر في الحية أكل السّذَاب{[35013]} ، فإن النكهة السذابية تنفر عنها الأفعى .
والكلاب إذا دودت بطونها أكلت سنبل القمح . وإذا جرحت اللقالق{[35014]} بعضها بعضاً داوت{[35015]} الجراحة بالصعتر{[35016]} الجبلي . والقنافذ تحس بالشمال والجنوب قبل الهبوب فتغير المدخل إلى جحرها ، وكان رجل بالقسطنطينية{[35017]} قد أثرى بسبب أنه ينذر بالرياح قبل هبوبها ، وينتفع الناس بإنذاره ، وكان السبب فيه قنفذ في داره يفعل الصنيع المذكور ، فيستدل به .
والخُطَّاف{[35018]} صانع{[35019]} في اتخاذ العش من الطين وقطع الخشب فإن أعوزه الطين ابتل وتمرغ في التراب لتحمل جناحاه قدراً{[35020]} من الطين ، وإذا فرَّخ بالغ في تعهد الفراخ ، وتأخذ ذرقها{[35021]} بمنقارها وترميها عن العش ، وإذا دنا الصائد من مكان فراخ القبجة{[35022]} ظهرت له القبحة وقربت مطمعة له ليتبعها ثم تذهب إلى جانب آخر سوى جانب الفراخ . وناقر الخشب قلما يقع على الأرض ، بل على الشجر ينقر الموضع يعلم أن فيه دوداً . والغرانيق{[35023]} تصعد في الجو عند الطيران ، فإن حجب بعضها عن بعض سحاب{[35024]} أو ضباب أحدثت{[35025]} عن أجنحتها حفيفاً مسموعاً يتبع به بعضهم بعضاً ، فإذا{[35026]} باتت على جبل فإنها تضع رؤوسها تحت أجنحتها إلاّ القائد{[35027]} فإنه ينام مكشوف الرأس فيسرع انتباهه ، وإذا سمع جرساً صاح . وحال النمل في الذهاب إلى مواضعها على خط مستقيم يحفظ بعضها بعضاً أمر عجيب ، وإذا كشف عن بيوتهم الساتر الذي كان يستره وكان تحته بيض لهم ، فإن كلّ نملة تأخذ بيضة في فمها وتذهب في أسرع وقت .
والاستقصاء في هذا الباب مذكور في كتاب «طبائع الحيوان »{[35028]} . والمقصود من ذلك أن الفضلاء من العقلاء يعجزون عن أمثال هذه الحيل ، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يقال : إنها تسبح الله وتثني عليه وإن كانت غير عارفة بسائر الأمور التي يعرفها الناس{[35029]} ، ويؤيد هذا قوله تعالى : { ولكن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }{[35030]} [ الإسراء : 44 ] . ثم قال : { والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } .
قرأ الجمهور بالياء من تحت على المبالغة في وصف قدرة الله تعالى وعلمه بخلقه{[35031]} .
وقرأ عيسى والحسن بالتاء من فوق ، ففيه المعنى المذكور وزيادة الوعيد والتخويف من الله تعالى{[35032]} وفي مصحف أبيّ وابن مسعود : «والله بصير بما تفعلون »{[35033]} .