فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلطَّيۡرُ صَـٰٓفَّـٰتٖۖ كُلّٞ قَدۡ عَلِمَ صَلَاتَهُۥ وَتَسۡبِيحَهُۥۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِمَا يَفۡعَلُونَ} (41)

{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ مَن في السموات والأرض } قد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في سورة سبحان ، والخطاب لكلّ من له أهلية النظر ، أو للرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد علمه من جهة الاستدلال ؛ ومعنى { أَلَمْ تَرَ } : ألم تعلم ، والهمزة للتقرير : أي قد علمت علماً يقينياً شبيهاً بالمشاهدة ، والتسبيح : التنزيه في ذاته ، وأفعاله ، وصفاته عن كل ما لا يليق به ، ومعنى { مَن في السموات والأرض } : من هو مستقرّ فيهما من العقلاء ، وغيرهم ، وتسبيح غير العقلاء ما يسمع من أصواتها ، ويشاهد من أثر الصنعة البديعة فيها . وقيل إن التسبيح هنا هو الصلاة من العقلاء والتنزيه من غيرهم . قد قيل إن هذه الآية تشمل الحيوانات ، والجمادات ، وأن آثار الصنعة الإلهية في الجمادات ناطق ، ومخبر باتصافه سبحانه بصفات الجلال ، والكمال ، وتنزّهه عن صفات النقص ، وفي ذلك تقريع للكفار ، وتوبيخ لهم حيث جعلوا الجمادات التي من شأنها التسبيح لله سبحانه شركاء له يعبدونها كعبادته عزّ وجلّ . وبالجملة ، فإنه ينبغي حمل التسبيح على ما يليق بكل نوع من أنواع المخلوقات على طريقة عموم المجاز . قرأ الجمهور { والطير صافات } بالرفع للطير ، والنصب لصافات على أن الطير معطوفة على من ، وصافات منتصب على الحال . وقرأ الأعرج { والطير } بالنصب على المفعول معه ، وصافات حال أيضاً . قال الزجاج : وهي أجود من الرفع . وقرأ الحسن ، وخارجة عن نافع { والطير صافات } برفعهما على الابتداء ، والخبر ، ومفعول صافات محذوف أي : أجنحتها ، وخصّ الطير بالذكر مع دخولها تحت من في السماوات والأرض لعدم استمرار استقرارها في الأرض ، وكثرة لبثها في الهواء ، وهو ليس من السماء ولا من الأرض ، ولما فيها من الصنعة البديعة التي تقدر بها تارة على الطيران ، وتارة على المشي بخلاف غيرها من الحيوانات ، وذكر حالة من حالات الطير ، وهي كون صدور التسبيح منها حال كونها صافات لأجنحتها ؛ لأن هذه الحالة هي أغرب أحوالها ، فإن استقرارها في الهواء مسبحة من دون تحريك لأجنحتها ، ولا استقرار على الأرض من أعظم صنع الله الذي أتقن كلّ شيء .

ثم زاد في البيان فقال : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } أي : كلّ واحد مما ذكر ، والضمير في علم يرجع إلى كلّ ، والمعنى : أن كل واحد من هذه المسبحات لله قد علم صلاة المصلي وتسبيح المسبح .

وقيل : المعنى أن كلّ مصلّ ومسبح قد علم صلاة نفسه ، وتسبيح نفسه . قيل : والصلاة هنا بمعنى التسبيح ، وكرّر للتأكيد ، والصلاة قد تسمى تسبيحاً . وقيل : المراد بالصلاة هنا الدعاء : أي كل واحد قد علم دعاءه ، وتسبيحه . وفائدة الإخبار بأن كل واحد قد علم ذلك ، أن صدور هذا التسبيح هو عن علم قد علمها الله ذلك ، وألهمها إليه ، لا أن صدوره منها على طريقة الإتفاق بلا روية ، وفي ذلك زيادة دلالة على بديع صنع الله سبحانه ، وعظيم شأنه ، كونه جعلها مسبحة له عالمة بما يصدر منها غير جاهلة له { والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } هذه الجملة مقرّرة لما قبلها : أي لا تخفى عليه طاعتهم ، ولا تسبيحهم ، ويجوز أن يكون الضمير في { علم } لله سبحانه : أي كلّ واحد من هذه المسبحة قد علم الله صلاته له ، وتسبيحه إياه ، والأوّل أرجح لاتفاق القرّاء على رفع كل ، ولو كان الضمير في علم لله لكان نصب كل أولى . وذكر بعض المفسرين : أنها قراءة طائفة من القراء علم على البناء للمفعول .

/خ46