نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{نَزَّلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ} (3)

ولما كانت مادة " كتب " دائرة على معنى الجمع عبر بالتنزيل الذي{[14460]} معناه التفريق لتشمل هذه الجملة على{[14461]} وجازتها من أمره على إجمال وتفصيل فقال : وقال الحرالي : و{[14462]}لما كانت إحاطة الكتاب أي في البقرة ابتداء وأعقبها أي في أول هذه السورة إحاطة الإلهية جاء هذا{[14463]} الخطاب رداً عليه ، فتنزل من الإحاطة الإلهية إلى الإحاطة الكتابية بالتنزيل{[14464]} الذي هو{[14465]} تدريج من رتبة إلى رتبة دونها ؛ انتهى فقال : { نزّل } أي شيئاً فشيئاً في هذا العصر { عليك } أي خاصة بما اقتضاه تقديم الجار من الحصر ، وكأن موجب ذلك ادعاء بعضهم أنه يوحي إليه وأنه يقدر على الإتيان{[14466]} بمثل هذا الوحي { الكتاب } أي القرآن الجامع للهدى{[14467]} منجماً بحسب الوقائع ، لم يغفل عن واحدة منها ولا قدم جوابها ولا أخره عن محل الحاجة ، لأنه قيوم لا يشغله شأن عن شأن .

قال الحرالي : وهذا الكتاب هو الكتاب المحيط الجامع الأول الذي لا يتنزل إلا على الخاتم الآخر المعقب لما أقام{[14468]} به حكمته من أن صور الأواخر{[14469]} مقامة بحقائق الأوائل ، فأول الأنوار الذي هو نور محمد صلى الله عليه وسلم هو قثم{[14470]} خاتم الصور التي هي صورة محمد انتهى . تنزيلاً ملتبساً{[14471]} { بالحق } أي الأمر الثابت ، فهو ثابت في نفسه ، وكل ما ينشأ عنه من قول وفعل كذلك{[14472]} . قال الحرالي : وكما أن هذا الكتاب هو الكتاب الجامع الأول المحيط بكل كتاب كذلك هذا الحق المنزل به هذا الكتاب هو الحق الجامع المحيط الذي كل حق منه ، وهو الحق الذي أقام به حكمته فيما رفع{[14473]} ووضع انتهى . حال كونه { مصدقاً }{[14474]} ولما كان العامل مرفوعاً لأنه أمر فاعل قواه{[14475]} في اللام فقال : { لما بين يديه } أي من الكتب السماوية التي أتت بها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم عن الحضرة الإلهية .

قال الحرالي : لما كان هذا الكتاب أولاً وجامعاً ومحيطاً كان كل كتاب بين يديه ولم يكن من ورائه كتاب انتهى .

ولما كان{[14476]} {[14477]} نزاع وفد نجران{[14478]} في الإله أو النبي أو فيهما كان هذا الكلام كفيلاً{[14479]} على وجازتة بالرد{[14480]} عليهم في ذلك ببيان الحق في الإله بالقيومية ، وفي المعنى بالكتاب المعجز ، ولما كانوا مقرين بالكتب القديمة أشار إلى أن ليس لهم إنكار هذا الكتاب وهو أعلى منها في كل أمر أوجب{[14481]} تصديقها وإلى أن{[14482]} من أنكره بعد ذلك كان من الأمر الظاهر أنه معاند لا شك في عناده فقال : { وأنزل التوراة } وهو " فوعلة " لو صرفت من الورى وهو قدح النار{[14483]} من الزند ، استثقل{[14484]} اجتماع الواوين فقلب أولهما تاء كما في اتحاد{[14485]} و اتّلاج واتّزار واتّزان{[14486]} ونحوه قال الحرالي : فهي{[14487]} توراة بما هي نور أعقبت ظلام ما وردت عليه من كفر{[14488]} دعي إليها من الفراعنة ، فكان فيها هدى ونور { والإنجيل * } من النجل ، وضع على زيادة " إفعيل " لمزيد معنى ما وضعت له هذة الصيغة{[14489]} ، وزيادتاها مبالغة في المعنى ، وأصل النجل استخراج خلاصة الشيء ، ومنه يقال للولد : نجل أبيه . كأن الإنجيل استخلص خلاصة نور التوراة فأظهر باطن ما شرع في التوراة ظاهرة ، فإن التوراة كتاب إحاطة لأمر{[14490]} الظاهر الذي يحيط بالأعمال وإصلاح أمر الدنيا وحصول الفوز من عاقبة يوم الأخرى فهو جامع إحاطة الظواهر ، وكل آية ظاهرة فمن كتاب التوراة والإنجيل كتاب إحاطة{[14491]} لأمر{[14492]} البواطن يحيط بالأمور{[14493]} النفسانية التي بها يقع لمح موجود الآخرة مع الإعراض{[14494]} عن إصلاح الدنيا بل مع هدمها ، فكان الإنجيل مقيماً لأمر الآخرة هادماً لأمر الدنيا مع حصول أدنى بلغة{[14495]} ، وكانت التوراة مقيمة لإصلاح الدنيا مع تحصيل الفوز في الآخرة ، فجمع هذان الكتابان إحاطتي الظاهر والباطن ، فكان منزل التوراة من مقتضى اسمه الظاهر ، وكان منزل الإنجيل من مقتضى اسمه الباطن ، كما كان منزل الكتاب الجامع من مقتضى ما في أول هذه السورة من أسمائه العظيمة مع لحظ التوحيد ليعتبر الكتاب والسورة{[14496]} بما نبه بتنزيله{[14497]} من اسمه الله وسائر أسمائه على وجوه إحاطاتها{[14498]} انتهى وفيه تصرف ؛ فأحاط هذا الكتاب إحاطة ظاهرة بأمري الظاهر والباطن بما أذن منه تصديقه للكتابين{[14499]} ، وخصهما سبحانه وتعالى بالتنويه{[14500]} بذكرهما إعلاماً بعلي قدرهما .


[14460]:زيد بعده في الأصول: من، ولم تكن الزيادة في ظ فحذفتها.
[14461]:زيد من ظ.
[14462]:يد من ظ.
[14463]:زيد من ظ
[14464]:من ظ، وفي الأصل: وجارتها.
[14465]:من ظ، وفي الأصل: الاحتمام.
[14466]:من ظ، وفي الأصل: الايتاء.
[14467]:في الأصل: للبدى، والتصحيح من ظ.
[14468]:من ظ، وفي الأصل: قام.
[14469]:من ظ، وفي الأصل: اخر.
[14470]:في الأصل: فيم، والتصحيح من ظ، وبهامشه: أي جامع.
[14471]:من ظ، وفي الأصل: ملتقيا.
[14472]:من ظ، وفي الأصل: لذلك.
[14473]:من ظ، وفي الأصل: وقع.
[14474]:العبارة من هنا إلى "فقال" سقطت من ظ.
[14475]:في الأصل: قرأه، وفي روح المعاني: واللام لتقوية العمل.
[14476]:زيد من ظ.
[14477]:من ظ، ووقع في الأصل: فزاغ وقد يخوان ـ كذا مصحفا.
[14478]:من ظ، ووقع في الأصل: فزاغ وقد يخوان ـ كذا مصحفا
[14479]:أخر في ظ عن "وجازته" .
[14480]:ن ظ، وفي الأصل: في الرد.
[14481]:ن ظ، وفي الأصل: واجب وجب.
[14482]:يد من ظ.
[14483]:ي ظ: الزناد.
[14484]:ن ظ، وفي الأصل: اثتقل.
[14485]:ي ظ: اتجاه، وكلاهما يصح.
[14486]:ن ظ، وفي الأصل. اتلاح واتربا واتران.
[14487]:ي ظ: فهو.
[14488]:يد من ظ.
[14489]:ن ظ، وفي الأصل: الصفة.
[14490]:ن ظ، وفي الأصل: الامر.
[14491]:ا بين الحاجزين زيد من ظ.
[14492]:ن ظ. وفي الأصل: الأمر.
[14493]:ي ظ: بالأحوال.
[14494]:ن ظ، وفي الأصل: الأغراض.
[14495]:ما بين الحاجزين زيد من ظ.
[14496]:ي ظ: منه تنزيله.
[14497]:في ظ: منه تنزيله.
[14498]:من ظ، وفي الأصل: أحاطتها.
[14499]:من ظ، وفي الأصل: الكتابين.
[14500]:من ظ، وفي الأصل: بالتنزيه.