نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ ٱلۡأَمِينِ} (3)

وأشار سبحانه وتعالى إلى الأخيرين من أولاد إبراهيم عليه الصلاة والسلام ختاماً للقسم بأكمل المقسم به كما جعل المنزل عليه ذلك الذي هو ختام الرسل أكمل النوع المقسم لأجله ، ليكون في البدء بما يرد بعد حسن التقويم إلى الفساد والختم بما هو أشرف المذكورين بكل اعتبار طباق حاز أعلى الأسرار : { وهذا البلد } أي مكة ، صرح هنا بهذين المكانين ترشيحاً لأن المراد بالأولين مواضع نبتهما مع تلك الإشارة اللطيفة بذكر اسميهما إلى مناسبتهما للمقسم من أجله { الأمين * } أي الذي يأمن فيه من حل به من البشر والطير والوحش ، فكان بذلك كالرجل الأمين الذي يأتمنه آخر على نفسه وما يعز عليه فيؤديه إليه ويوقره عليه ، وأمانته شاملة لكل ما يخشى حتى الفقر والعيلة والجوع وتغير الدين بعد تقرره مع أن به البيت الذي جعله الله هدى للعالمين وقياماً للناس ، فهو مدار الدين والدنيا ، وكان به من الأسرار بالوحي وآثاره ما لم يكن في بلد من البلاد ، وذلك إشارة إلى أنه تعالى كما جعل النبي المبعوث منه في آخر الزمان في أحسن تقويم جعله في أحسن تقويم البلدان ، إذ كان آمنا من غير ملك مرهوب - والناس يتخطفون من حوله ، وهو محل الأنس بالناس كما أن الذي قبله محل الأنس بالانفراد ، وهو مجمع المرافق ومعدن المنافع ومحل ذوي الوجاهة ديناً ودنيا ، ومحل الرفعة والمناصب مع ما حازه المكانان من تنزل الكتب السماوية وإشراق الأنوار الإلهية الدينية فيهما ، وفي ذلك تخويف لهم بأنهم إن لم يرجعوا عن غيهم أخافه إخافة لم يخفها بلداً من بلاد العرب ، فيكونون بذلك قد ردوا أسفل سافلين في البلد ، كما ردوا في الأخلاق بالشقاق واللدد .