نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} (1)

لما أمره سبحانه وتعالى في الضحى بالتحديث بنعمته ، وذكره بمجامعها في { ألم نشرح } فأنتج ذلك إفراده بما أمره به في ختمها من تخصيصه بالرغبة إليه ، فدل في الزيتون على أنه أهل لذلك لتمام قدرته الذي يلزم منه أنه لا قدرة لغيره إلا به ، فأنتج ذلك تمام الحكمة فأثمر قطعاً البعث للجزاء ، فتشوف السامع إلى ما يوجب حسن الجزاء في ذلك اليوم ، وبأيّ وسيلة يقف بين يدي الملك الأعلى في يوم الجمع الأكبر من خصال الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فأرشد إلى ذلك في هذه السورة ، فقال بادئاً بالتعريف بالعلم الأصلي ، ذاكراً أصل من خلقه سبحانه وتعالى في أحسن تقويم وبعض أطواره الحسنة والقبيحة تعجيباً من تمام قدرته سبحانه وتعالى وتنبيهاً على تعرفها وإنعام النظر فيها ، وقدم الفعل العامل في الجار والمجرور هنا لأنه أوقع في النفس لكونها أول ما نزل فكان الأمر بالقراءة أهم : { اقرأ } وحذف مفعوله إشارة إلى أنه لا قراءة إلا بما أمره به ، وهي الجمع الأعظم ، فالمعنى : أوجد القراءة لما لا مقروء غيره ، وهو القرآن الجامع لكل خير ، وأفصح له بأنه لا يقدر على ذلك إلا بمعونة الله الذي أدبه فأحسن تأديبه ، ورباه فأحسن تربيته ، فقال ما أرشد المعنى إلى أن تقديره : حال كونك مفتتحاً القراءة { باسم ربك } أي بأن تبسمل ، أو مستعيناً بالمحسن إليك لما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى بما خصك به في { ألم نشرح } أو بذكر اسمه ، والمراد على هذا بالاسم الصفات العلى ، وعبر به لأنه يلزم من حسن الاسم حسن مدلوله ، ومن تعظيم الاسم تعظيم المسمى وجميع ما يتصف به وينسب إليه ، قالوا : وهذا يدل على أن القراءة لا تكون تامة إلا بالتسمية ، ولكونه في سياق الأمر بالطاعة الداعي إليها تذكر النعم لم يذكر الاسم الأعظم الجامع ، وذكر صفة الإحسان بالتربية الجامع لما عداه وتأنيساً له صلى الله عليه وسلم لكونه أول ما نزل حين حبب إليه الخلاء ، فكان يخلو بنفسه يتعبد بربه في غار حراء ، فجاءه جبرائيل عليه الصلاة والسلام بخمس آيات من أول هذه السورة إلى قوله " ما لم يعلم " ولهذا السر ساقه مساق البسملة بعبارة هي أكثر تأنيساً في أول الأمر وأبسط منها ، فأشار إلى الاسم الأعظم بما في مجموع الكلام من صفات الكمال ، وأشار إلى عموم منة الرحمن بصفة الخلق المشار إلى تعميمها بحذف المفعول ، وإلى خصوص صفة الرحيم بالأكرمية التي من شأنها بلوغ النهاية ، وذلك لا يكون بدون إفاضة العمل بما يرضي ، فيكون سبباً للكرامة الدائمة ، وبالتعليم الذي من شأنه أن يهدي إلى الرضوان ، وأشار إلى الاستعاذة بالأمر بالقرآن لما أفهمه قوله سبحانه وتعالى :

وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة }[ الإسراء :45 ] - أي من شياطين الإنس والجن-

{ حجاباً مستوراً }[ الإسراء : 45 ] وقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم }[ النحل : 98 ] .

ولما خصه تشريفاً بإضافة هذا الوصف الشريف إليه ، وصفه على جهة العموم بالخلق والأمر إعلاماً بأن له التدبير والتأثير ، وبدأ بالخلق لأنه محسوس بالعين ، فهو أعلق بالفهم ، وأقرب إلى التصور ، وأدل على الوجود وعظيم القدرة وكمال الحكمة ، فكانت البداءة به في هذه السورة التي هي أول ما نزل أنسب الأمور ؛ لأن أول الواجبات معرفة الله ، وهي بالنظر إلى أفعاله في غاية الوضوح فقال : { الذي خلق * } وحذف مفعوله إشارة إلى أنه له هذا الوصف وهو التقدير والإيجاد على وفق التقدير الآن وفيما كان وفيما يكون ، فكل شيء يدخل في الوجود فهو من صنعه ومتردد بين إذنه ومنعه وضره ونفعه .