( 1 ) وأحضرت الأنفس الشح : الجملة استطرادية معترضة تشير في معرض الكلام عن الصلح إلى من طبعت عليه نفوس الناس من الشح والظن وعدم التسامح ، ويصدق ذلك على الزوج والزوجة معا .
{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ به عَلِيمًا ( 127 ) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ( 1 ) وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 128 ) وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ( 129 )وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ( 130 ) } .
( ويستفتونك في النساء . . . ) الخ
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من أحكام وتلقين
( 1 ) حكاية استفتاء النبي من قبل بعض المسلمين في أمر النساء .
( 2 ) وجواب بأن الله سوف يفتيهم فيهن ، وفي ما أنزل الله في الكتاب من قبل في يتامى النساء اللاتي يريدون أن يتزوجوهن ، ولا يريدون في الوقت نفسه أن يعطوهن حقهن الذي كتب الله لهن ثم في الأولاد المستضعفين .
( 3 ) وتنبيه بأن الفتيا هي أن يقوموا لليتامى بالقسط ، فلا يظلموهم على أي حال .
( 4 ) وتحذير لهم بأن الله يعلم كل شيء من أعمالهم ونواياهم .
في الآية الثانية وما بعدها تتمة الجواب في أمر النساء تنطوي على ما يلي :
( 1 ) إذا خافت إحدى النساء أن يعرض عنها زوجها ويهملها ، فلا مانع من صلح يعقده الزوجان بينهما والصلح خير على كل حال مهما كان الإنسان مطبوعا على الشح وعدم التسامح مع التنبيه الأزواج إلى وجوب تقوى الله والتصرف بالحسنى في هذه الحالة وإلى كون الله خبيرا بما يعملون على سبيل التحذير .
( 2 ) وإذا كان الأزواج لن يستطيعوا حقا أن يعدلوا بين زوجاتهم ، فلا يجوز لهم أن يميلوا كل الميل لواحدة دون أخرى منهن فيذروا هذه كالمعلقة ليست زوجة وليست كطلقة . وعليهم على كل حال أن يسيروا فيما فيه الإصلاح وتقوى الله ، فإن فعلوا فالله الغفور الرحيم قد يغفر ما قد يبدو منهم من بعض الميل .
( 3 ) وإذا لم يكن إصلاح ولا عدل بقدر الإمكان ، فخير للزوجين أن يتفرقا عن بعضهما ، والله الواسع الحكيم ييسر لكل منهما ما يجعله مستغنيا عن الآخر .
والآيات فصل جديد . ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في مكانها للتناسب الظرفي .
روى المفسرون في صدد الآية الأولى روايات عديدة . منها أنه لما نزلت آيات المواريث شق على الناس أن يرث الأطفال والنساء الذين ليس لهم جهد في مال وعمل وكثيرا ما كانوا يحرمون من الإرث في الجاهلية ففاتحوا النبي في الأمر فنزلت . ومنها أنه كان لجابر ابن عبد الله بنت عم دميمة عمياء ولها إرث من أبيها ، فلم يرد أن ينكحها ومنع أن ينكحها غيره حتى لا يذهب بمالها ، فسأل النبي في الأمر فنزلت . ومنها أن الذي يكون في حجره يتيمة لها مال نكحها أو أنكحها ابنه بدون صداق إن كانت جميلة ، وإن كانت دميمة منع زواجها حتى تموت ويرثها ، فأنزل الله الآية . ومنها أن الآية توضيح للآية الثالثة من السورة ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) النساء ( 3 ) حيث كانوا يرغبون في التزوج باليتيمات اللائي في حجورهم إذا كان لهن مال ، وكانوا لا يؤتوهن صداقا وكن يتعرضن للاضطهاد إذا كن دميمات فرفع الأمر للنبي فأنزل الله الآية{[683]} .
ورووا في صدد الآيات الأخرى أنها نزلت في الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر . منها يريد أن يفارقها فتقول أجعلك في شأني في حل . أو نزلت في سودة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث خشيت أن يطلقها النبي فقالت : لا تطلقني وامسكني واجعل يومي لعائشة ففعل ، فنزلت الآية فما اصطلحا عليه فهو جائز . أو في رافع ابن خديج الذي كانت عنده زوجة كبيرة ، فأراد أن يتزوج ثانية جميلة ، ويؤثرها على القديمة فقال لها : وإن شئت أن تقيمي على ما ترين من أثرة ، فأواسيك وأنفق عليك فأقيمي وإن شئت خليت سبيلك{[684]} وباستثناء الروايتين الأولى والثانية الواردتين في صدد الآيات التالية الأولى واللتين رواهما الشيخان والترمذي{[685]} فليس شيء من الروايات واردا في الصحاح والروايات والأحاديث الصحيحة متساوقة إجمالا مع فحوى الآيات ، ولكنها لا تفسر كل ما فيها على ما هو المتبادر . وعلى كل حال ففي الآيات على ضوء الأحاديث والروايات صور لما كان من مواقف كانت تصدر من بعض الرجال إزاء الأيتام من بنين وبنات وإزاء الزوجات بدون مراعاة لما نبهت عليه آيات سابقة في السورة هي الآيات ( 2 و 3 و 6 و 11 14 و 19 21 ) فاقتضت حكمة التنزيل توكيد ذلك في الآيات التي نرجح أنها نزلت جميعها معا محل الأمور العارضة .
ولقد قال بعضهم : إن جملة ( ما كتب لهن ) تشمل الصداق والإرث معا ؛ حيث كانوا يتزوجون اليتيمات بدون صداق ، ولا يؤتوهن إرثهن وهذا وجيه سديد .
ولقد احتوت الآيات الثانية والثالثة والرابعة تنظيما للعلاقة الزوجية في بعض حالاتها كما هو واضح ولقد احتوت آيات السورة ( 34 و 35 ) معالجة حالة نشوز الزوجة ، فجاءت هذه الآيات لمعالجة حالة نشوز الزوج . وفيها تشجيع على إقامة صلح بين الزوجين ولو بشيء من التضحية والتغلب بذلك على طبقة شح النفس تفاديا من الطلاق وتنبه على أن لا يلجأ إليه إلا في حالة تعذر استمرار الحياة الزوجية بصورة ما . ( وهذا متسق مع التلقينات التي تضمنتها آيات البقرة ( 224 232 ) و النساء ( 19 21 و 35 ) .
ويتبادر أن الآيات الثلاث متصلة بشكل ما بموضوع الآية الثلاثة من هذه السورة التي تضمنت إباحة جمع الرجل في عصمته زوجتين وثلاثا وأربعا ، ثم حذرتاه من عدم العدل وأمرته بالاكتفاء بواحدة تفاديا من الظلم فجاءت الآيات الثلاث توضح ما حذرت منه وتقرر تعذره . ولكنها لا تمنع التعدد بالمرة لما قد يكون هناك من ضرورة ملزمة إليه وتوصي بعدم الميل الشديد إلى الواحدة دون الأخرى في حالة تلك الضرورة الملزمة إلى التعدد ، والتي شرحنا بعض وجوهها في سياق شرح آية النساء الثالثة . وفي هذا ما فيه من جليل الحكمة والتلقين .
وفي الروايات وبخاصة رواية رافع ابن خديج صورة من تلك الضرورة الملزمة فزوجته كبيرة وغير مشتهاة ، ولم ير بدا من التزوج بأخرى صغيرة . وكان من الطبيعي أن يؤثر هذا على تلك . فرضيت الكبيرة بالبقاء في عصمته مع التنازل عن شيء من حقوقها الزوجية كراهية للطلاق . ولقد روى الطبري في سياق تطبيق هذه المسألة صورة أخرى ، وهي أن رجلا أتى إلى علي ابن أبي طالب يستفتيه في جملة ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ) فقال قد تكون المرأة عند الرجل فتنبوا عيناه منها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها فتكره فرقته ، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل ، وإن تنازلت عن بعض أيامها لزوجة أخرى له فلا حرج . وإذا رجعت عما رضيت عنه فعليه أن يرضيها أو يطلقها ؛ لأنه لا يجوز له أن يمسكها خسفا وظلما .
وعبارة الآيات الثلاث ، وإن كانت كما قلنا لا تمنع التعدد بالمرة فإنها تنطوي على ذلك فيما يتبادر لنا في حالة عدم الضرورة الملزمة إليه . فهي هنا تقرر استحالة استطاعة الأزواج العدل مهما حرصوا وآية النساء الثالثة تأمر بالاكتفاء بواحدة إذا كان العدل غير محتمل أو غير ممكن .
ولفت النظر بخاصة إلى ما انطوى في الآيات من حث على الإحسان والإصلاح وتحبيذ الصلح وتقرير الخير فيه . وتقوى الله وعدم الانسياق مع ميول النفس ؛ حيث يتسق هذا مع ما تكرر توكيده في القرآن من تعظيم الرابطة الزوجية واحترامها والإبقاء عليها ما أمكن وبأية وسيلة كانت . وعدم حلها إلا إذا استنفدت كل وسيلة ؛ حيث يكون الفراق حينئذ خيرا للطرفين . وهو ما عنته الفقرة الأخيرة من الآية بأسلوبها البليغ الهادف إلى تخفيف مرارة الفراق على الطرفين وتأميل كل منهما بفضل الله ورحمته وسعته . وهذا فضلا عن ما فيها من تلقين جليل يجعل ذلك أسلوبا عاما لتعامل المسلمين فيما بينهم .
ولقد رويت أحاديث عديدة في صدد الآية الثانية وما بعدها . منها حديث رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة جاء فيه ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) {[686]} وحديث ثان رواه كذلك أصحاب السنن عن عائشة قالت ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك{[687]} وحديث ثالث رواه البخاري وأبو داود وأحمد عن عائشة أيضا قالت ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا ، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس ، حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها{[688]} .
وهكذا يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر . وبخاصة في وجوب بذل الجهد في العدل بين الزوجات ، وفي الحديث الثاني توضيح لمعنى دقيق ، وهو أن الميل القلبي هو غير العدل الفعلي الذي لا ينبغي أن يحول الأول الذي قد يكون طبيعيا دونه . وليس في الأحاديث تبرير للتعدد . وإنما بسبيل معالجة المعايشة الزوجية في حالة قيامه . ويبقى تلقين الآية بالامتناع منه ما أمكن واردا ما دام العدل غير المستطاع مهما حرص المرء عليه .
ولقد روى الطبري أن عمر ابن الخطاب كان إذا جاءه ولي اليتيمة ، فإن كانت حسناء فتية قال له : زوجها غيرك والتمس لها من هو خير منك . وإن كانت دميمة لا مال لها قال له : تزوجها فأنت أحق بها . وروي عن علي ابن أبي طالب أنه جاءه رجل قال له : ماذا تأمرني يا أمير المؤمنين في أمر يتيمتي ؟ فقال له : إن كنت خيرا لها فتزوجها ، وإن كان غيرك خيرا لها فألحقها بالخير ؛ حيث يصح أن يستأنس بذلك . فيقال : إن لأولي أمر المسلمين وقضاتهم أن يتداخلوا في هذه الأمور ويأمروا ويقضوا بما هو الأولى في نطاق تلقينات كتاب الله وسنة رسوله كما هو الشأن في الأمور الزوجية والأسروية الأخرى ، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة استئناسا بالصيغ والعبارات القرآنية وما كان من مراجعات الزوجات والأزواج للنبي صلى الله عليه وسلم وقضاؤه في أمورهم والله أعلم .