التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا} (165)

{ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ( 163 ) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ( 164 ) رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 165 ) لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ( 166 ) } .

في الآيات خطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تضمنت تقريرا :

( 1 ) بأن الله قد أوحى إليه كما أوحى إلى نوح والنبيين من بعده ممن قص ذكرهم عليه في القرآن ومن لم يقص .

( 2 ) وبأن الله إنما يرسل رسله مبشرين ومنذرين للناس ليبينوا لهم طرق الحق والهدى ويحذروهم من الضلال والغواية حتى لا يكون لهم عليه حجة يحتجون بها عما يكون قد وقع منهم من انحراف وضلال .

( 3 ) وبأن الله يشهد والملائكة يشهدون معه أن ما أنزل على النبي إنما أنزل من عنده وبعلمه وشهادة الله هي أقوى الشهادات وكفى به شهيدا .

تعليق على الآية

{ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده . . . }الخ

والآيات الثلاث التي بعدها

روى الطبري عن أهل التأويل ابن عباس وغيره روايات عديدة في نزول الآيات منها أنه لما نزلت الآيات السابقة التي فضحتهم قالوا : ما أنزل الله بعد موسى على بشر من شيء . فأنزل الله الآيات لتكذيبهم ، ومنها أن النبي لما تلا الآيات السابقة عليهم اغتاظوا وجحدوا كل الرسالات والكتب فأنزلها الله لتكذيبهم ، ومنها أن النبي قال لهم إنكم لتعلمون أني رسول الله فأنكروا . ومنها رواية خلطت بين هذه الآية وبين الأنعام { وما قدروا الله حق قدره إذا قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } ( 91 ) والروايات لم ترد في الصحاح ويتبادر لنا أنها وحدة تامة منسجمة ومتصلة هي الأخرى بالآيات السابقة اتصال تدعيم وتطمين إزاء مواقف اليهود حيث انطوى فيها تقرير بطلان موقفهم من النبي . وكون طلبهم إنزال كتاب من السماء تعجيزا لا موجب له . وذلك أن الله قد أوحى إلى النبي كما أوحى إلى غيره من الأنبياء فلم تكن دعوته أو دعواه شاذة . وأن اليهود قد آمنوا بهؤلاء الأنبياء الذين أوحى الله إلى النبي بمثل ما أوحاه إليهم . وتطابقت دعوتهم مع دعوته ودعوته مع دعوتهم وحالتهم مع حالته . وإن جحود اليهود برسالته وتعجيزه وتحديه بالمطالب ليس إلا من سوء النية وخبث الطوية التي عرفوا بها وهم وآباءهم من قبل . والله شاهده ومؤيده وكفى به شاهدا ومؤيدا .

والآيات قوية الأسلوب قوية الإلزام والإفحام فيما احتوته مقاصد ومعاني التدعيم والتطمين والبرهان كما هو واضح . ومن شأنها بعث القناعة والطمأنينة والثقة في ذوي النيات الحسنة والقلوب النقية . وأسلوبها من أساليب القرآن المتكررة في مخاطبة العقل والقلب في صدد تدعيم صحة نبوة النبي وصدق دعوته ورسالته وكونها شيئا طبيعيا ليس فيها ما يستدعي العجب والإنكار ، وكون إنكارها والمكابرة فيها هما اللذان يستدعيان العجب . وهو أسلوب امتاز به القرآن والرسالة المحمدية العظمى .

وجملة { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } من العبارات القرآنية الحاسمة التي تضمنت حكمة إرسال لله الرسل وإنزال الكتب والشرائع عليهم حتى يتبين الناس طريق الحق والهدى والخير والعدل من طريق الباطل والضلال والشر والظلم مما قد لا يتبينه جمع الناس بمداركهم الخاصة ويستحق كل منهم جزاءه الدنيوي والأخروي وفاقا لما يختار مما هو متسق مع التقريرات القرآنية العامة . حتى لا يبقى لهم حجة يحتجون بها .

وقد يقال : إن الله جل عن أن يكون للناس عليه حجة ما وهو الخالق البارئ المطلق التصرف في خلقه . وهذا حق من دون ريب ولكن لما اقتضت حكمته أن يحاسب الناس على أعمالهم ويجزون عليها في الدنيا والآخرة اقتضت حكمته ورحمته أن يعلن لهم أنه لم يبق لهم حجة يحتجون بها بعدما أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب جريا على أسلوب الإعذار المعتاد في التخاطب البشري .

وأسماء الأنبياء المذكورة في الآيات وردت في مواضع عديدة أخرى في سور سبق تفسيرها وعرفنا بهم ما يغني عن التكرار . وجملة { ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك } في الآية ( 164 ) قد ورد ما يماثلها في الآية ( 78 ) من سورة غافر . وقد أوردنا ما هنالك من أحاديث وأقوال في صدد عدد الأنبياء والرسل وعلقنا على ذلك في سياق هذه الآية يغني عن التكرار كذلك .

وقد وقف المفسرون عند جملة { وكلم الله موسى تكليما } من الآية ( 164 ) فقال الطبرسي : إن الله كلم موسى بلا واسطة . ولم يعز قوله إلى أحد . وروى الطبري عن نوح ابن مريم أن الله كلم موسى مشافهة . وعن جزء ابن جابر أنه قال : سمعت كعبا يقول : إن الله كلم موسى بالألسنة كلها فجعل يقول يا رب لا أفهم فكلمه بلسانه فقال له : يا رب هكذا كلامك قال : لا ، ولو سمعت كلامي على وجهه لم تك شيئا ، فهو كأشد ما يسمع الناس من الصواعق ) وقال الزمخشري : إن معنى الجملة ( جرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن والزمخشري معتزلي ومذهبه عدم إثبات صفة كلام الله خارجة عن ذاته تعالى . والكلام المباشر هو خارج عن ذات الله في مذهب لاعتزال . ولقد فند ابن كثير وغيره كلام الزمخشري وأورد آية الأعراف { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } ( 143 ) كدليل قرآني على كلام الله المباشر لموسى عليه السلام . وتعليقا على ذلك نقول :

أولا : إن كعب هو من مسلمة اليهود الذين تروي عنهم ما يسمى بالإسرائيليات التي فيها كثير من المبالغات والأكاذيب فيجب التحفظ في ما نقل عنه .

وثانيا : إن تفنيد ابن كثير وغيره لتأويل الزمخشري للجملة في ومجمله فهو تأويل تعسفي بعيد عن مدى الآية ومقامها .

وثالثا : إن الدليل الذي ساقه ابن كثير على كون كلام الله لموسى مباشرة قوي وهو منطو في آيات أخرى مثل آيات طه ( 11 24 ) والنمل ( 8 12 ) والقصص )29 35 ) .

ورابعا : إن المصدر الذي يصح أن يستند إليه في صفة وكيفية كلام الله بعد القرآن الذي لا يوجد فيه بيان لذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم وليس هناك حديث نبوي صحيح فيما اطلعنا عليه في ذلك .

وخامسا : إن الواجب ملاحظة كون هذا الأمر متصلا بسر الله تعالى وصفاته التي لا تدركها عقولنا وملاحظة الضابط القرآني المنطوي في آية الشورى { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ( 11 ) وآية الأنعام { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } ( 103 ) ثم الإيمان بما ورد في القرآن والوقوف عنده . وعدم الخوض في الماهيات والكيفيات المتصلة بسر واجب الوجود على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة .