( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما165 ) .
( رسلا ) أي : كل هؤلاء النبيين أرسلناهم رسلا ( مبشرين ) بالجنة لمن آمن ( ومنذرين ) من النار لمن كفر ( لئلا ) لكيلا ( يكون للناس على الله حجة ) يوم القيامة أي : معذرة يعتذرون بها قائلين : لولا أرسلت إلينا رسولا فيبين لنا شرائعك ، ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك ، لقصور القوة البشرية عن إدراك جزئيات المصالح ، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها . كما في قوله عز وجل : ( ولو أنا أهلكناكم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك . . . ) الآية{[2652]} . وإنما سميت حجة ، مع استحالة أن يكون لأحد عليه ، سبحانه ، حجة في فعل من أفعاله ، بل له أن يفعل ما يشاء كما يشاء – للتنبيه على أن المعذرة في القبول عنده تعالى ، بمقتضى كرمه ورحمته لعباده ، بمنزلة الحجة القاطعة التي لا مرد لها . ولذلك قال تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) {[2653]} . أفاده أبو السعود .
وفي ( الصحيحين ) {[2654]} عن المغيرة : " لا أحد أحب إليه العذر من الله . ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين " . وقوله تعالى : ( بعد الرسل ) أي : بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب . متعلق ب ( حجة ) أو بمحذوف وقع صفة لها . وفيه دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسل . كما قال تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) {[2655]} . وفيه دليل لمذهب أهل السنة على أن معرفة الله تعالى ، لا تثبت الا بالسمع ( وكان الله عزيزا ) يعني في انتقامه ممن خالف أمره وعصى رسله ( حكيما ) في بعث الرسل للإنذار .
أشارت الآية إلى بيان حاجة البشر إلى إرسال الرسل ، والى وظيفتهم عليهم السلام .
قال العلامة السيد محمد عبده ، مفتي مصر في ( رسالة التوحيد ) في هذا المبحث : أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام الإنسان على قاعدة الإرشاد والتعليم ، الذي خلق الإنسان وعلمه البيان ، علمه الكلام للتفاهم والكتاب للتراسل – أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يعد لها ، بمحض فضله ، بعض من يصطفيه من خلقه ؟ وهو أعلم حيث يجعل رسالته . يميزهم بالفطر السليمة ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه . والأمانة على مكنون سره . مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم ، لفاضت له نفسه أو ذهبت بعقله جلالته وعظمه . فيشرفون على الغيب بإذنه ، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه ، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العاملين . نهاية الشاهد وبداية الغائب . فهم في الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها ، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها . ثم يتلقون من أمره أن يحدثوا عن جلاله ، وما خفي على العقول من شؤون حضرته الرفيعة ، بما يشاء أن يعتقده العباد فيه ، وما قدر ان يكون له مدخل في سعادتهم الاخروية ، أن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه . معبرين عنه بما تحتمله طاقة عقولهم ، ولا يبعد عن متناول أفهامهم . وأن يبلغوا عنه شرائع عامة . تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم ، وكبح شهواتهم ، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم ، في ذلك الكون المغيب عن مشاعرهم بتفصيله ، اللاصق علمه بأعماق ضمائرهم في إجماله . ويدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ظاهرة وباطنة . ثم يؤيديهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات . حتى تقوم بهم الحجة ويتم الإقناع بصدق الرسالة . فيكونون بذلك رسلا من لدنه إلى خلقه ، مبشرين ومنذرين .
لا ريب ان الذي أحسن كل شيء خلقه ، وأبدع في كل كائن صنعه ، وجاد على كل حي بما إليه حاجته ، ولم يحرم من رحمته حقيرا ولا جليلا من خلقه – يكون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه ، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام المواهب التي اختص بها غيره – أن ينقذه من حيرته ، ويخلصه من التخبط في أهم حياتية والضلال في أفضل حاليه .
يقول قائل : ولم لم يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم ، ولم يضع الانقياد إلى العمل ، وسلوك الطريق المؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة ؟ وما هذا النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم ؟ وهو قول يصدر عن شطط العقل ، والغفلة عن موضوع البحث . وهو النوع الإنساني . ذلك النوع ، على ما به ، وما دخل في تقويم جوهره من الروح المفكر ، وما اقتضاه ذلك من الاختلاف في مراتب الاستعداد باختلاف أفراده ، وأن لا يكون كل فرد منه مستعدا لكل حال بطبعه ، وأن يكون وضع وجوده على عماد البحث والاستدلال . فلو ألهم حاجاته كما تلهم الحيوانات ، لم يكن هو ذلك النوع ، بل كان إما حيوانا آخر ، كالنحل والنمل ، أو ملكا من الملائكة . ليس من سكان هذه الأرض .
ثم قال : إن كان الإنسان قد فطر على أن يعيش في جملة ، ولم يمنح مع تلك الفطرة ما منحه النحل وبعض أفراد النمل مثلا ، من الإلهام الهادي إلى ما يلزم لذلك ، وإنما ترك إلى فكره يتصرف فيه ، كما فطر على الشعور بقاهر تنساق نفسه بالرغم عنها إلى معرفته ، ولم يفض عليه ، مع ذلك الشعور ، عرفانه بذات ذلك القاهر ولا صفاته ، وإنما ألقى به في مطارح النظر تحمله الأفكار في مجاريها . وترمي به إلى حيث يدري ولا يدري . وفي كل ذلك الويل على جامعته ، والخطر على وجوده . أفهل مني هذا النوع بالنقص ، ورزئ بالقصور عن مثل ما بلغه أضعف الحيوانات وأحطها في منازل الوجود ؟ نعم . هو كذلك . لولا ما أتاه الصانع الحكيم من ناحية ضعفه .
الإنسان عجيب في شأنه : يصعد بقوة عقله إلى أعلى مراتب الملكوت ، ويطاول بفكره أرفع معالم الجبروت . ويسامي بقوته ما يعظم عن أن يسامي من قوى الكون الأعظم . ثم يصغر ويتضاءل وينحط إلى أدنى درك من الاستكانة والخضوع ، متى عرض له أمر ما ، لم يعرف سببه ولم يدرك منشأه . ذلك لسر عرفه المستبصرون . واستشعرته نفوس الناس أجمعين .
من ذلك الضعف قيد إلى هواه . ومن تلك الضعة اخذ بيده إلى شرف سعادته . أكمل الواهب الجواد لجملته ، ما اقتضته حكمته في تخصيص نوعه ، بما يميزه عن غيره ، أن ينقص من أفراده . وكما جاد على كل شخص بالعقل المصرف للحواس ، لينظر في طلب اللقمة ، وستر العورة والتوقي من الحر والبرد – جاد على الجملة بما هو أمس بالحاجة في البقاء ، والآثر في الوقاية من غوائل الشقاء . وأحفظ لنظام الاجتماع الذي هو عماد كونه بالإجماع . من عليه بالنائب الحقيقي عن المحبة ، بل الراجع بها إلى النفوس التي أقفزت منها . لم يخالف سنته فيه ، من بناء كونه على قاعدة التعليم والارشاد . غير أنه أتاه مع ذلك من أضعف الجهات فيه ، وهي جهة الخضوع والاستكانة . فأقام له من بين أفراده مرشدين هادين . وميزهم من بينها بخصائص في أنفسهم لا يشركهم فيها سواهم . وأيد ذلك ، زيادة في الاقناع ، بآيات باهرات تملك النفوس ، وتأخذ الطريق على سوابق العقول . فيستخذى الطامح . ويذل الجامح . ويصطدم بها عقل العاقل فيرجع إلى رشده . وينبهر لها بصر الجاهل فيرتد عن غيه . يطرقون القلوب بقوارع من أمر الله . ويدهشون المدارك ببواهر من آياته . فيحيطون العقول بما لا مندوحة عن الاذعان له . ويستوي في الركون لما يجيئون به المالك والمملوك ، والسلطان والصعلوك ، والعاقل والجاهل ، والمفضول والفاضل . فيكون الاذعان لهم أشبه بالاضطراري منه بالاختياري النظري . يعلمونهم ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم . وما أراد ان يعلموه من شؤون ذاته وكمال صفاته . وأولئك هم الأنبياء والمرسلون . فبعثة الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، من متممات كون الإنسان ، ومن أهم حاجاته في بقائه . ومنزلتها من النوع منزلة العقل من الشخص . نعمة أتمها الله : ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) {[2656]} .
ثم قال ، في الكلام على وظيفة الرسل عليهم السلام : تبيين مما تقدم في حاجة العالم الإنساني إلى الرسل ، أنهم من الأمم بمنزلة العقول من الأشخاص ، وأن بعثتهم حاجة من حاجات العقول البشرية ، قضت رحمة المبدع الحكيم بسدادها ، ونعمة من واهب الوجود ميز بها الإنسان عن بقية الكائنات من جنسه . ولكنها حاجة روحية ، وكل ما لامس الحس منها ، فالقصد فيه إلى الروح وتطهيرها من دنس الأهواء الضالة وتقويم ملكاتها . أو إيداعها . ما فيه سعادتها في الحياتين . أما تفصيل طرق المعيشة ، والحذق في وجوه الكسب ، وتطاول شهوات العقل إلى درك ما أعد للوصول إليه ، من أسرار العلم – فذلك مما لا دخل للرسالات فيه . إلا من وجه العظة العامة ، والإرشاد إلى الاعتدال فيه ، وتقرير ان شرط ذلك كله أن لا يحدث ريبا في الاعتقاد بأن للكون الها واحدا قادرا عالما حكيما متصفا بما أوجب الدليل أن يتصف به ، وباستواء نسبة الكائنات إليه في أنها مخلوقة له وصنع قدرته . وإنما تفاوتها فيما اختص به بعضها من الكمال . وشرطه أن لا ينال شيء من تلك الأعمال السابقة أحدا من الناس بشر في نفسه أو عرضه أو ماله ، بغير حق يقتضيه نظام عامة الأمة ، على ما حدد في شريعتها .
يرشدون العقل إلى معرفة الله وما يجب أن يعرف من صفاته . ويبينون الحد الذي يجب / أن يقف عنده في طلب ذلك العرفان . على وجه لا يشق عليه الاطمئنان إليه ، ولا يرفع ثقته بما آتاه الله من القوة . يجمعون كلمة الخلق على اله واحد لا فرقة معه ، ويخلون السبيل بينهم وبينه وحده . وينهضون نفوسهم إلى التعلق به في جميع الأعمال والمعاملات ، ويذكرونهم بعظمته بفرض ضروب من العبادات ، فيما اختلف من الأوقات . تذكرة لمن ينسى . وتزكية مستمرة لمن يخشى . تقوي ما ضعف منهم . وتزيد المستيقن يقينا .
يبينون للناس ما اختلفت عليه عقولهم وشهواتهم وتنازعه مصالحهم ولذاتهم . فيفصلون في تلك المخاصمات بأمر الله الصادع . ويؤيدون ، بما يبلغون عنه ، ما تقوم به المصالح العامة . ولا تفوت به المنافع الخاصة . يعودون بالناس إلى الألفة . ويكشفون لهم سر المحبة . ويستلفتونهم إلى أن فيها انتظام شمل الجماعة . ويفرضون عليهم مجاهدة أنفسهم ، ليستوطنوها قلوبهم ، ويشعروها أفئدتهم . يعلمونهم لذلك أن يرعى كل حق الآخر ، وان كان لا يغفل حقه . وأن لا يتجاوز في الطلب حده . وأن يعين قويهم ضعيفهم . ويمد غنيهم فقيرهم . ويهدي راشدهم ضالهم . ويعلم عالمهم جاهلهم .
يضعون لهم بأمر الله حدودا عامة . يسهل عليهم أن يردوا إليها أعمالهم . كاحترام الدماء البشرية الا بحق . مع بيان الحق الذي تهدر له . وحظر تناول شيء مما كسبه الغير إلا بحق . مع بيان الحق الذي يبيح تناوله . واحترام الأعراض . مع بيان ما يباح وما يحرم من الأبضاع . ويشرعون لهم مع ذلك أن يقوموا أنفسهم بالملكات الفاضلة كالصدق والأمانة والوفاء بالعقود والمحافظة على العهود والرحمة بالضعفاء والإقدام على نصيحة الأقوياء والاعتراف لكل مخلوق بحقه بلا استثناء .
يحملونهم على تحويل أهوائهم عن اللذائذ الفانية ، إلى طلب الرغائب السامية ، آخذين في ذلك كله بطرف من الترغيب والترهيب والإنذار والتبشير حسبما أمرهم الله جل شأنه .
يفصلون في جميع ذلك للناس ما يؤهلهم لرضا الله عنهم ، وما يعرضهم لسخطه عليهم . ثم يحيطون بيانهم بنبأ الدار الآخرة ، وما أعد الله فيها من الثواب وحسن العقبى . لمن وقف عند حدوده ، وأخذ بأوامره ، وتجنب الوقوع في محظوراته . يعلمونهم من أنباء الغيب ما أذن الله لعباده في العلم به ، مما لو صعب على العقل اكتناهه ، لم يشق عليه الاعتراف بوجوده .
بهذا تطمئن النفوس وتثلج الصدور ، ويعتصم المرزوء بالصبر ، انتظارا لجزيل الأجر ، أو ارضاء لمن بيده الأمر . وبهذا ينحل أعظم مشكل في الاجتماع الإنساني . لا يزال العقلاء يجهدون أنفسهم في حله إلى اليوم .
ليس من وظائف الرسل ما هو من عمل المدرسين ومعلمي الصناعات . فليس مما جاءوا له تعليم التاريخ ، ولا تفصيل ما يحويه عالم الكواكب ، ولا بيان ما اختلف من حركاتها ، ولا ما استكن من طبقات الأرض ، ولا مقادير الطول فيها والعرض . ولا ما تحتاج إليه النباتات في نموها . ولا ما تفتقر إليه الحيوانات في ابقاء أشخاصها وأنواعها . . . وغير ذلك مما وضعت له العلوم . وتسابقت في الوصول إلى دقائقه الفهوم . فإن ذلك كله من وسائل الكسب وتحصيل طرق الراحة . هدى الله إليه البشر بما أودع فيهم من الإدراك . يزيد في سعادة المحصلين ، وقد جاءت شرائع الأنبياء بما يحمل على الإجمال بالسعي فيه ، وما يكفل التزامه بالوصول إلى ما أعد الله له الفطر الإنسانية من مراتب الارتقاء .
أما ما ورد في كلام الأنبياء من الإشارة إلى شيء مما ذكرنا في أحوال الأفلاك أو هيئة الأرض – فإنما يقصد منه ، النظر إلى ما فيه من الدلالة على حكمة مبدعه ، أو توجيه الفكر إلى الغوص لإدراك أسراره وبدائعه . وحالهم ، عليهم الصلاة والسلام ، في مخاطبة أممهم ، لا يجوز أن تكون فوق ما يفهمون . وإلا ضاعت الحكمة في إرسالهم . ولهذا قد يأتي التعبير الذي سيق إلى العامة ، بما يحتاج إلى التأويل والتفسير عند الخاصة . وكذلك ما وجه إلى الخاصة ، يحتاج إلى الزمان الطويل حتى يفهمه العامة . وهذا القسم أقل ما ورد في كلامهم .
على كل حال ، لا يجوز أن يقام الدين حاجزا بين الأرواح ، وبين ما ميزها الله به من الاستعداد للعلم بحقائق الكائنات الممكنة بقدر الإمكان . بل يجب أن يكون الدين باعثا لها على طلب العرفان . مطالبا لها باحترام البرهان . فارضا عليها أن تبذل ما تستطيع من الجهد في معرفة ما بين يديه من العوالم . ولكن مع التزام القصد ، والوقوف في سلامة الاعتقاد عند الحد . ومن قال غير ذلك فقد جهل الدين ، وجنى عليه جناية لا يغفرها له رب الدين . انتهى .
ولما تضمن قوله تعالى : ( إنا أوحينا إليك . . . ) الآية ، إثبات نبوته والاحتجاج على تعنتهم عليه ، بسؤال كتاب ينزل عليهم من السماء ، كأنه قيل : إنهم لا يشهدون بذلك .