قوله تعالى : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ } : فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه بدل من " رُسُلاً " الأول في قراءة الجمهور ، وعبَّر الزمخشريُّ عن هذا بنصبه على التكْريرِ ، كذا فهم عنه أبو حيان .
الثاني : أنه منصوبٌ على الحال الموطِّئة ؛ كقولك : " مَرَرْتُ بِزَيْدٍ رَجُلاً صَالِحاً " ، ومعنى الموطِّئة ، أي : أنَّها ليست مقصودةً ، إنما المقصودُ صفتُها ؛ ألا ترى أن الرجوليَّة مفهومة من قولك " بِزَيْدٍ " ، وإنما المقصودُ وصفه بالصلاحية .
الثالث : أنه نُصِبَ بإضمار فعل ، أي : أرْسَلْنا رُسُلاً .
الرابع : أنه منصوبٌ على المَدْح ، قدَّره أبو البقاء{[10368]} ب " أعني " ، وكان ينبغي أن يقدِّره فعلاً دالاًّ على المدْح ، نحو : " أمْدَح " ، وقد رجَّح الزمخشريُّ هذا الأخير ، فقال : " والأوجَهُ أن ينتصِبَ " رُسُلاً " على المدح " .
قوله : " لِئَلاَّ " هذه لام كَيْ ، وتتعلَّقُ ب " مُنْذِرِينَ " على المختار عند البصريِّين ، وب " مُبَشِّرِينَ " على المختار عند الكوفيِّين ؛ فإن المسألةَ من التنازُع ، ولو كان من إعمالِ الأول ، لأضمرَ في الثاني من غير حذفٍ ، فكان يُقال : مُبَشِّرينَ ومُنْذِرينَ [ له ] لئلا ، ولم يَقُل كذلك ، فدلَّ على مذهب البصريِّين ، وله في القرآن نظائرُ تقدَّم منها جملة صالحة ، وقيل : اللامُ تتعلَّقُ بمحذوف ، أي : أرسلْنَاهُم لذلك ، و " حُجَّةٌ " اسمُ " كانَ " ، وفي الخبر وجهان :
أحدهما : هو " عَلَى الله " و " لِلنَّاسِ " حال .
والثاني : أن الخبر " للنَّاسِ " و " عَلَى الله " حال ، ويجوز أن يتعلَّق كُلٌّ من الجارِّ والمجرور بما تعلَّق به الآخرُ ، إذا جعلناه خبراً ، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ على الله ب " حُجَّة " ، وإن كان المعنى عليه ؛ لأنَّ معمول المصدر لا يتقدم عليه ، و " بَعْدَ الرُّسُلِ " متعلقٌ ب " حُجَّة " ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه صفةٌ ل " حُجَّة " ؛ لأنَّ ظروف الزمان تُوصفُ بها الأحداثُ ؛ كما يخْبر بها عنها ؛ نحو : " القِتَالُ يَوْمُ الجُمُعَةِ " .
فصل في جواب الآية عن شبهة اليهود
هذه الآيةُ جوابٌ عن شُبْهَة اليهُودِ ، وتقريرُه : أن المقْصُود من بَعْثَةِ الرُّسُلِ أن يُبَشِّرُوا ويُنْذِرُوا ، وهذا المَقْصُود حَاصِلٌ سواءٌ كان الكِتَاب نَازِلاً دَفْعَةً واحدةً أو مُنَجَّماً ، ولا يَخْتَلِفُ هذا الغرضُ بِنزُول الكِتَابِ مُنَجَّماً أو دفعةً واحدةً .
بل لو قِيلَ : إن إنْزَال الكِتَاب مُنَجَّماً مُفَرَّقاً أقْرَبُ إلى المصْلَحَة ، لكان أوْلَى ؛ لأن الكِتَاب إذا نَزَل دَفْعَةً واحِدَة ، كثُرت التَّكَالِيفُ على المكَلَّفِ ، فيَثْقُل فِعْلُهَا ؛ ولهذا السَّبَب أخَذ قومُ مُوسَى - عليه السلام - على التمرُّدِ ، ولم يَقْبَلُوا تلك التَّكَالِيف .
أمَّا إذا نَزَل الكتابُ مُنَجَّماً مُفَرَّقاً ، سَهُل قُبُولُه للتَّدرِيجِ ، فحينئذٍ يَحْصُل الانْقِيَادُ والطَّاعةُ من القَوْمِ ، فكان اقْتِرَاحُ اليَهُودِ إنْزَالَ الكِتَابِ دفعَةً واحِدَة اقْتِراحاً فاسِداً .
ثم قال : { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } يعني : هذا الذي تَطْلُبُونَه من الرسول أمْر هَيِّنٌ في القُدْرَةِ ، وإنما طَلَبْتُمُوه على سَبِيلِ اللِّجَاجِ ، وهو - تعالى - عَزِيزٌ ، وعِزَّتُهُ تَقْتَضِي ألا يُجَابَ المُتَعَنِّتُ إلى مَطْلُوبِه ، وكذَلِك حِكْمَتُه تَقْتَضِي هذا الامْتِنَاع ؛ لِعلْمِهِ - تعالى - بأنَّهُ لو فَعلَ ذلك لبَقَوْا مُصرِّين على اللِّجَاج ؛ لأنه - تعالى - أعْطَى مُوسى - [ عليه الصلاة والسلام ]{[10369]} - هذا التَّشْرِيف ، ومع ذلك أصَرُّوا على المُكَابَرة واللِّجَاج .
احْتَجُّوا بهذه الآيةِ على أنّ معرِفَة اللَّهِ - تعالى - لا تثبت إلا بالسَّمْع ؛ لأن قوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } يدلُّ على أنَّ قَبْل البَعْثَةِ يكُونُ للنَّاسِ حُجَّة في تَرْك الطَّاعَاتِ ، ويؤيِّدُه قوله - تعالى - : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، وقوله : { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى } [ طه : 134 ] .
قالت المعتزلة{[10370]} : دلَّت هذه الآيةُ على أن العَبْد قد يَحتَجُّ على الربِّ - سبحانه وتعالى - وأنَّ الذي يَقُولُه أهْل السُّنَّةِ من أنَّهُ تعالى لا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ في شَيْءٍ ، وأنَّه يَفْعَلُ ما يَشَاءُ كما شَاءَ لَيْس بِشَيْءٍ ؛ لأن قوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } يَقْتَضِي أنَّ لَهُم حُجَّة على الله قَبْلَ الرُّسُل ، وذلك يُبْطِل قول أهْلِ السُّنَّة .
والجواب{[10371]} : أن المُرادَ { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ } أي : فيما يُشْبِهُ الحُجَّة فِيمَا بَيْنَكُم .
قالت المُعْتَزِلَةُ : دلَّت الآيةُ على أنَّ تكْلِيفَ ما لا يُطَاق غَيْر جَائِزٍ ؛ لأن عدم إرْسَالِ الرُّسُلِ إذا كان يَصْلُح عُذْراً ، فبأن يَكُون عدمُ المُكْنَةِ والقُدْرَة صَالِحاً لأنْ يكُونَ عُذْراً أولى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.