الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَهُمۡ رِزۡقٗا مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ شَيۡـٔٗا وَلَا يَسۡتَطِيعُونَ} (73)

قوله تعالى : { شَيْئاً } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه منصوبٌ على المصدرِ ، أي : لا يَمْلِكُ لهم مِلْكاً ، أي : شيئاً من المِلْك . والثاني : أنه بدلٌ مِنْ " رِزْقاً " ، أي : لا يَمْلِكُ لهم شيئاً . وهذا غيرُ مفيدٍ ؛ إذ من المعلومِ أنَّ الرزقَ شيءٌ من الأشياء ، ويؤيِّد ذلك : أنَّ البدلَ يأتي لأحدِ معنيين : البيانِ أو التأكيد ، وهذا ليس فيه بيانٌ ؛ لأنه أعمُّ ، ولا تأكيدَ . الثالث : أنه منصوبٌ ب " رِزْقاً " على أنه اسمُ مصدرٍ ، واسمُ المصدرِ يعمل عملَ المصدرِ على خلافٍ في ذلك .

ونقل مكيٌّ أن اسمَ المصدرِ لا يعملُ عند البصريين إلا في شعرٍ . قلت : وقد اختلفتِ النقلةُ / عند البصريين : فمنهم مَنْ نَقَلَ المَنْعَ ، ومنهم مَنْ نَقَلَ الجوازَ . وقد ذكر الفارسيُّ انتصابَه ب " رِزْقاً " كما تقدَّم . ورَدَّ عليه ابنُ الطَّراوة بأن الرزْقَ اسم المرزوق كالرَّعْيِ والطَّحْن . ورُدَّ على ابنِ الطراوة : بأنَّ الرِّزْقَ بالكسرِ أيضاً مصدرٌ ، وقد سُمِعَ فيه ذلك . قلت : فظاهرُ هذا أنه مصدرٌ بنفسِه لا اسمُ مصدرٍ .

وقوله : { مِّنَ السَّمَاوَاتِ } ، فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدُها : أنه متعلقٌ ب " يملك " ، وذلك على الإِعرابين الأوَّلَيْنِ في نصبِ " شيئاً " . الثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل " رزقاً " . الثالث : أن يتعلَّقَ بنفس " رِزْقاً " إن جعلناه مصدراً . وقال ابن عطية : - بعد أن ذكر إعمالَ المصدرِ منوَّناً - " والمصدرُ يعمل مضافاً باتفاق ؛ لأنه في تقديرِ الانفصالِ ، ولا يَعْمَل إذ دخله الألفُ واللام ؛ لأنه قد تَوَغَّلَ في حالِ الأسماءِ ، وبَعُد عن الفعليَّة ، وتقدير الانفصالِ في الإِضافةِ حَسَّنَ عملَه ، وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشَّاعر :

ضعيفُ النكايةِ أعداءَه *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

[ وقوله ] :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فلم أَنْكِلْ عن الضَرْبِ مِسْمَعا

قال الشيخ : " أمَّا قولُه : " باتفاق " : إن عَنَى من البصريين فصحيحُ ، وإن عَنَى مِنَ النحويين فليس بصحيح ؛ إذ قد ذهب بعضُهم إلى أنه لا يعمل . فإن وُجِد بعده منصوبٌ أو مرفوعٌ قَدَّر له عاملاً . وأمَّا قولُه : " في تقدير الانفصال " ، فليس كذلك ؛ لئلا تكون إضافتُه غيرَ محضةٍ ، كما قال به ابن الطراوة وابن بَرْهان . ومذهبُهما فاسدٌ ؛ لأنَّ هذا المصدرَ قد نُعِتَ وأُكِّد بالمعرفة . وقوله : " لا يعمل " ، إلى آخره ، ناقَضَه بقولِه : " وقد جاء عاملاً " ، إلى آخرِه .

قلت : فغايةُ ما في هذا أنه نحا إلى أقوالٍ قال بها غيرُه . وأمَّا المناقضةُ فليست صحيحةً ؛ لأنه عَنَى أولاً : أنه لا يَعْمل في السِّعَة ، وثانياً : أنه قد جاء عاملاً في الضرورة ، ولذلك قيَّده فقال : " في قول الشاعر " .

قوله : { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } ، يجوز في الجملة وجهان : العطفُ على صلةِ " ما " ، والإِخبارُ عنهم بنفيِ الاستطاعةِ على سبيلِ الاستئنافِ ، ويكون قد جَمَع الضميرَ العائدَ على " ما " باعتبارِ معناها ؛ إذ المرادُ بذلك آلهتُهم ، ويجوز أن يكونَ الضميرُ عائداً على العابدين .