اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَهُمۡ رِزۡقٗا مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ شَيۡـٔٗا وَلَا يَسۡتَطِيعُونَ} (73)

قوله - تعالى- : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً } ، الآية لمَّا شرح الدَّلائل الدالة على صحَّة التَّوحيد ، وأتبعها بذكر أقسام النِّعم العظيمة ، أتبعها بالردِّ على عبدة الأصنام ؛ قال : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات } ، يعني : المطر والأرض ، ويعني النَّبات والثِّمار .

قوله تعالى : { مِّنَ السماوات } فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه متعلق ب " يَمْلِكُ " ، وذلك على الإعرابين الأولين في نصب " شَيْئاً " .

الثاني : أنه متعلق بمحذوف ، على أنه صفة ل " رِزْقاً " .

الثالث : أن يتعلق بنفس " رِزْقاً " إن جعلناه مصدراً .

وقال ابن عطية{[19978]} - بعد أن ذكر إعمال المصدر منوناً- : والمصدر يعمل مضافاً باتِّفاق ؛ لأنه في تقدير الانفصال ، ولا يعمل إذا دخله الألف واللاَّم ؛ لأنه قد توغَّل في حال الأسماء وبعد عن الفعليَّة ، وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله ؛ وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشاعر : [ المتقارب ]

ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعْدَاءَهُ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[19979]}

وقوله : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . فَلمْ أنْكُلْ عَنِ الضَّرْبِ مِسْمَعَا{[19980]}

قال أبو حيَّان : أما قوله : " باتِّفاقٍ " ، إن عنى به من البصريين ، فصحيحٌ ، وإن عنى به من النَّحويين ، فليس بصحيح ؛ إذْ قد ذهب بعضهم إلى أنَّه وإن أضيف لا يعمل ، فإن وجد بعده منصوب أو مرفوع قدَّر له عاملاً ، وأما قوله : " في تقدير الانفصال " ، فليس كذلك ، إلا أن تكون إضافته غير محضة ؛ كما قال به ابن الطراوة وابن برهان ، ومذهبهما فاسد ؛ لأن هذا المصدر قد نعت وأكد بالمعرفة ، وقوله : " لا يعمل . . . إلى آخره " ناقضه بقوله : " وقد جاء عاملاً . . . إلى آخره " .

قال شهاب الدِّين{[19981]} : فغاية ما في هذا أنَّه نحا إلى أقوال قال بها غيره ، وأمَّا المناقضة ، فليست صحيحة ؛ لأنه عنى أولاً : أنَّه لا يعمل في السَّعة ، وثانياً : أنه قد جاء عاملاً في الضرورة ، ولذلك قيَّده فقال : " في قول الشَّاعر " .

قوله : " شَيْئاً " ، فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه منصوبٌ على المصدر ، أي : لا يملك لهم ملكاً ، أي : شيئاً من الملك .

والثاني : أنه بدلٌ من " رِزْقاً " ، أي : لا يملك لهم رزقاً شيئاً ، وهذا غير مقيَّد ؛ إذ من المعلوم أن الرزق شيء من الأشياء ، ويؤيِّد ذلك أن البدل يأتي لأحد معنيين : البيان أو التَّأكيد ، وهذا ليس فيه بيان ؛ لأنه أعمٌّ ، ولا تأكيد .

الثالث : أنه منصوب ب " رِزْقاً " ، على أنه اسمُ مصدر ، واسم المصدر يعمل عمل المصدر ، على خلاف في ذلك .

ونقل مكِّي : أن اسم المصدر لا يعمل عند البصريين إلا في شعر ، وقد اختلف النقلة عن البصريِّين ؛ فمنهم من نقل المنع ، ومنهم من نقل الجواز .

وقد ذكر الفارسي انتصابه ب " رِزْقاً " كما تقدَّم .

ورد عليه ابن الطراوة : بأن الرِّزق اسم المرزوق ، كالرِّعي ، والطحن . وردَّ على ابن الطراوة ؛ بأنّ الرزق بالكسر أيضاً مصدر ، وقد سمع فيه ذلك ، وظاهر هذا أنه مصدر بنفسه لا اسم مصدر .

قوله تعالى : { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } ، يجوز في الجملة وجهان :

العطف على صلة " مَا " ، والإخبار عنهم بنفي الاستطاعة على سبيل الاستئناف ، ويكون قد جمع الضمير العائد على " مَا " باعتبار معناها ؛ إذ المراد بذلك آلهتهم .

ويجوز أن يكون الضمير عائداً على العابدين .

فإن قيل : قال - تعالى - : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ } ، فعبَّر عن الأصنام بصيغة " ما " ، وهي لغير العاقل ، ثم جمع بالواو والنون فقال : " ولا يَسْتَطِيعُون " ، وهو مختص بأولي العلم . فالجواب : أنه عبَّر عنها بلفظ " مَا " اعتباراً باعتقادهم أنَّها آلهة ، والفائدة في قوله : " ولا يَسْتَطِيعُونَ " : أنَّ من لا يملك شيئاً قد يوصف باستطاعته أن يمتلكه بطريقٍ من الطرق . فبيَّن - تعالى - أنَّ هذه الأصنام لا تملك ، وليس لها استطاعة تحصيل الملك .


[19978]:ينظر: المحرر الوجيز 3/409.
[19979]:تقدم.
[19980]:تمام البيت: لقد علمت أولى المغيرة أنني لحقت............................... نسب إلى مالك بن زغبة الباهلي أو للمرار الأسدي. ينظر: ديوانه ص 464، شرح أبيات سيبويه 1/60، الكتاب 1/193، شرح شواهد الإيضاح ص 136، شرخ المفصل 6/64، المقاصد النحوية 3/40، 501، خزانة الأدب 8/128، الدرر 5/255، شرح الأشموني 1/202، شرح ابن عقيل ص 412، المقتضب 1/14، همع الهوامع 2/93، الجمل 136، العيني 3/40، الدر اللقيط 5/516. البحر المحيط 5/500، الدر المصون 4/348.
[19981]:ينظر: الدر المصون 4/348.