قوله تعالى : { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ } : هذه الجملةُ معطوفةٌ على مجموعِ الجملةِ السابقةِ من قولِه : " ولمَّا جاءَهم " إلى آخرها .
وقال أبو البقاء : " إنها معطوفةٌ على " أُشْرِبوا " أو على " نَبَذَ فريقٌ " ، وهذا ليس بظاهر ، لأنَّ عطفَها على " نَبَذَ " يقتضي كونَها جواباً لقولِه : { وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ } واتِّباعُهم لِما تتلو الشياطينُ ليس مترتِّباً على مجيء الرسولِ بل كان اتِّباعُهم لذلك قبله ، فالأَوْلَى أن تكونَ معطوفةً على جملةٍ لا كما تقدم . و " ما " موصولةٌ ، وعائدُها محذوفٌ ، والتقديرُ : تَتْلوه . وقيل : " ما " نافيةٌ وهذا غَلَطٌ فاحش لا يَقْتَضِيه نَظْمُ الكلامِ البتةَ ، نقل ذلك ابنُ العربي . و " يَتْلو " في معنى تَلَتْ فهو مضارعٌ واقعٌ موقعَ الماضي كقوله :
وإذا مَرَرْتَ بقبرِه فاعْقِرْ بِه *** كُوَمَ الهِجانِ وكلَّ طَرْفٍ سابحِ
وانضَحْ جوانِبَ قبرِه بدِمائِها *** فَلَقَدْ يكونُ أخا دمٍ وذَبائحِ
أي : فلقَدْ كان ، وقال الكوفيون : الأصلُ : ما كانت تَتْلو الشياطينُ ، ولا يريدونَ بذلك أنَّ صلةَ " ما " محذوفةٌ ، وهي " كانَتْ " ، و " تتلو " في موضعِ الخبرِ ، وإنما قَصَدوا تفسيرَ المعنى ، وهو نظيرُ : " كانَ زيدٌ يقوم " المعنى على الإِخبار بقيامِه في الزمنِ الماضي
وقرأ الحسن والضحاك : " الشياطُون " إجراءً له مُجْرى جَمْعِ السلامةِ ، قالوا : وهو غَلَطٌ . وقال بعضُهم : لَحْنٌ فاحِشٌ . وحكى الأصمعي : " بُستانُ فلانٍ حولَه بَساتُون " وهو يُقَوِّي قراءَةَ الحسن .
قوله : { عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } فيه قولان : أحدُهما : أنه على معنى في ، أي : في زمنِ ملكِه ، والمُلْكُ هنا شَرْعُه . والثاني : أَنْ يُضَمَّن تَتْلو معنى : تتقوَّل أي : تتقوَّل على مُلْكِ سليمان ، وتَقَوَّل يتعدَّى بعلى ، قال تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ } [ الحاقة : 44 ] . وهذا الثاني أَوْلَى ، فإن التجَوُّز في الأفعالِ أَوْلَى مِن التجوُّز في الحُروف ، وهو مذهبُ البصريينَ كما مَرَّ غيرَ مرة . وإنما أَحْوَجَ إلى هذيْنِ التأويلَيْنِ لأن تلا إذا تعدَّى ب " على " كان المجرورُ ب " على " شيئاً يَصِحُّ أَنْ يُتْلى عليه نحو : تَلَوْتُ على زيدٍ القرآنَ ، والمُلْكُ ليس كذلك .
والتلاوةُ : الاتِّباعُ أو القراءةُ وهو قريبٌ منه . وسُلَيمان عَلَمٌ أعجمي فلذلك لم ينصرِفْ . وقال أبو البقاء : " وفيه ثلاثةُ أسبابٍ : العجمةُ والتعريفُ والألفُ والنونُ " وهذا إنما يَثْبُتُ بعد دخولِ الاشتقاقِ فيه والتصريفِ حتى تُعْرَفَ زيادتُهما ، وقد تقدَّم أنهما لا يَدْخلان في الأسماء الأعجمية ، وكَرَّر قولَه { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } بذكرِه ظاهراً تفخيماً له وتعظيما كقوله :
لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ *** . . . . . . . . . . . . .
قوله : { وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ } هذه الواوُ عاطفةٌ جملةَ الاستدراكِ على ما قبلَها .
وقرأ ابنُ عامر والكسائيُّ وحمزةُ بتخفيفِ " لكنْ " ورَفْعِ ما بَعْدها ، والباقون بالتشديدِ والنصبِ وهو واضحٌ . وأمَّا القراءةُ الأولى فتكونُ " لكنْ " مخففةً من الثقيلة جيء بها لمجرَّدِ الاستدراك ، وإذا خُفِّفَتْ لم تَعْمَلْ عند الجمهورِ ، ونُقِلَ جوازُ ذلك عن يونسَ والأخفشِ . وهل تكونُ عاطفةً ؟ الجمهورُ على أنَّها تكونُ عاطفةً إذا لم يكنْ معها الواوُ ، وكانَ ما بعدَها مفرداً ، وذهبَ يونسُ إلى أنها لا تكونُ عاطفةً ، وهو قويٌّ ، فإنه لم يُسْمَعْ من لسانهم : ما قام زيدٌ لكن عمروٌ ، وإن وُجِدَ ذلك في كتب النحويين فمِنْ تمثيلاتِهم ، ولذلك لم يُمَثِّل بها سيبويه إلا مع الواو وهذا يَدُلُّ على نَفْيهِ . وأمَّا إذا وقعت بعدها الجملُ فتارةً تقترنُ بالواوِ وتارةً لا تقترنُ ، قال زهير :
641 - إنَّ ابنَ وَرْقَاءَ لا تُخْشَى بوادِرُهُ *** لكنْ وقائِعُه في الحَرْبِ تُنْتَظَرُ
وقال الكسائي والفراء : " الاختيارُ تشديدُها إذا كانَ قبلَها واوٌ ، وتخفيفُها إذا لم يكنْ " وهذا جنوحٌ منهما إلى القولِ بكونِها حرفَ عطفٍ . وأبعدَ مَنْ زَعَم أنها مركبةٌ من ثلاثِ كلماتٍ : لا النافيةِ وكافِ الخطابِ وأَنْ التي للإِثباتِ وإنَّما حُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً .
قوله : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } " الناسَ " مفعولٌ أولُ ، و " السحرَ " مفعولٌ ثانٍ . واختلفوا في هذه الجملةِ على خمسةِ أقوال ، أحدُها : أنها حالٌ من فاعل " كفروا " ، أي : كفروا مُعَلِّمينَ . الثاني : أنها حالٌ من الشياطين ، ورَدَّه أبو البقاء بأنَّ " لكنّ " لا تعملُ في الحال . وليس بشيء فإن " لكنَّ " فيها رائحةُ الفعل . الثالث : أنها في محلِّ رفعٍ على أنَّها خبرٌ ثانٍ للشياطين . الرابعُ : أنها بدلٌ من " كَفروا " أبدلَ الفعلَ من الفعلِ . الخامسُ : أنَّه استئنافيةٌ ، أخبرَ عنهم بذلك ، هذا إذا أعَدْنا الضميرَ من " يُعَلِّمون " على الشياطين ، أمَّا إذا أَعَدْناه على " الذين اتَّبعوا ما تَتْلوا الشياطينُ " فتكونُ حالاً من فاعلِ " اتَّبعوا " ، أو استئنافيةً فقط . والسِّحْرُ : كلُّ ما لَطُفَ ودَقَّ . سَحَرَهُ . إذا أبدى له أمراً يَدِقُّ عليه ويَخْفَى . قال :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . أَدَاءٌ عَراني من حُبابِكِ أَمْ سِحْرُ
ويقال : سَحَره : أي خَدَعَه وعَلَّله ، قال امرؤ القيس :
أرانا مُوضِعِيْنَ لأمرٍ غَيْبٍ *** ونُسْحَرُ بالطَّعام وبِالشَّرابِ
أي : نُعَلَّلُ ، وهو في الأصلِ : مصدرٌ يُقال : سَحَرَه سِحْراً ، ولم يَجِيءْ مصدرٌ لفَعَل يَفْعَل على فِعْل إلاَّ سِحْراً وفِعْلاً .
قوله : { وَمَآ أُنْزِلَ } فيه أربعةُ أقوالٍ أَظْهَرُها / أنَّ " ما " موصولةٌ بمعنى الذي محلُّها النصبُ عطفاً على " السِّحْر " ، والتقديرُ : يُعَلِّمُون الناسً السحرَ والمُنَزَّلَ على المَلَكَيْن . الثاني : أنها موصولةٌ أيضاً ومحلها النصبُ لكنْ عطفاً على { مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ } والتقديرُ : واتَّبعوا ما تَتْلوا الشياطينُ وما أُنْزِل على المَلَكَيْن وعلى هذا فما بينهما اعتراضٌ ، ولا حاجَةَ إلى القولِ بأنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً .
الثالث : أنَّ محلَّها الجَرُّ عطفاً على " مُلْكِ سليمان " والتقديرُ : افتراءً على مُلْكِ سُلَيْمان وافتراءً على ما أُنْزِلَ على المَلَكْين . وقال أبو البقاء : " تقديرُه : وعلى عَهْدِ الذي أُنْزِل " . الرابع : " أنَّ " ما " حرفُ نفيٍ ، والجملةُ معطوفةٌ على الجملةِ المنفيَّةِ قبلها ، وهي { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } ، والمعنى : وما أُنْزِل على المَلَكَيْنِ إباحةُ السِّحْرِ .
والجمهورُ على فَتْح لام " المَلَكَيْن " على أنَّهما من الملائكة ، وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن بكَسْرها على أَنَّهما رَجُلانِ من الناسِ ، وسيأتي تقريرُ ذلك .
قوله { بِبَابِلَ } متعلِّقٌ بأُنِزِلَ ، والباءُ بمعنى " في " أي : في بابل : ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المَلَكَيْن أو من الضمير في " أُنْزل " فيتعلَّق بمحذوفٍ ، ذَكَر هذين الوجهين أبو البقاء .
وبابل لاَ يَنْصَرِفُ للعُجْمَةِ والعَلَمية ، فإنها اسمُ أرضٍ وإنْ شِئْتَ للتأنيث والعَلَمية ، وسُمِّيَتْ بذلك قال : لِتَبَلْبُلِ ألسنةِ الخلائقِ بها ، وذلك أنَّ اللهَ تعالى أمرَ ريحاً فَحَشَرَتْهُمْ بهذه الأرضِ فلم يَدْرِ أحدٌ ما يقولُ الآخر ، ثم فَرَّقَتْهُم الريحُ في البلادِ يتكلَّمُ كلُّ أحدٍ بلغةٍ . والبَلْبَلَةُ : التفرقةُ ، وقيل : لَمَّا أُهْبِطَ نوحٌ عليه السلام نَزَلَ فبنى قريةً وسمّاها " ثمانينَ " ، فَأَصْبَحَ ذاتَ يوم وقد تَبَلْبَلَتْ ألْسِنتُهم على ثمانينَ لغةً . وقيل : لِتَبَلْبُلِ ألسنةِ الخَلْقِ عند سقوطِ صَرْحِ نمرود .
قوله : { هَارُوتَ وَمَارُوتَ } الجمهورُ على فَتْح تائِهما ، واختلف النحويون في إعرابهما ، وذلكَ مبنيٌّ على القراءَتَيْنِ في " المَلَكَيْنِ " : فَمَنْ فَتَحَ لامَ " المَلَكَيْنِ " وهم الجمهورُ كان في هاروت وماروتَ أربعةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنَّها بَدَلٌ من " الملَكَيْنِ " ، وجُرَّ بالفتحةِ لأنهما لا يَنْصَرِفان للعُجْمةِ والعَلَمِيَّةِ . الثاني : أنهما عطفُ بيانٍ لهما . الثالث : أنهما بدلٌ من " الناس " في قوله : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ } وهو بدلُ بعضٍ من كلٍ ، أَوْ لأنَّ أقلَّ الجمعِ اثنان . الرابع : أنهما بدلٌ من " الشياطين " في قوِه : " ولكنَّ الشياطينَ " في قراءةِ مَنْ نَصَبَ ، وتوجيهُ البدلِ كما تقدَّم . وقيل : هاروت وماروت اسمان لقبيلتينِ من الجن فيكونُ بدلَ كلٍ من كلٍ ، والفتحةُ على هذين القولَيْنِ للنصْبِ . وأمَّا مَنْ قَرَأَ برفعِ " الشياطين " فلا يكونُ " هاروت وماروت " بدلاً منهم ، بل يكونُ منصوباً في هذا القولِ على الذمِّ ، أي : أذمُّ هاروتَ وماروتَ من بينِ الشياطينِ كلِّها ، كقولِه :
أَقَارِعُ عَوْفٍ لا أُحاولُ غيرَها *** وجوهَ قرودٍ تَبْتَغي مَنْ تُجادِعُ
أي : أذمُّ وجوهَ قرودٍ ، ومَنْ كَسَرَ لامَهما فيكونان بدلاً منهما كالقولِ الأولِ إلا إذا فُسِّر بداودَ وسليمان - كما ذكره بعضُ المفسِّرين - فلا يكونَانِ بَدَلاً منهما بل يكونانِ متعلِّقين بالشياطين على الوَجْهَيْن السابقين في رفع الشياطين ونَصْبِه ، أو يكونان بدلاً من " الناس " كما تقدَّم .
وقرأ الحسن : هاروتُ وماروتُ برفعهما ، وهما خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي : هما هاروتُ وماروتُ ، ويجوز أَنْ يكونا بدلاً من " الشياطين " الأولِ ، وهو قولُه : { مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ } أو الثاني على قراءةِ مَنْ رفَعَه . ويُجْمعان على هَواريت ومَواريت وهَوارِتَة ومَوارِتَة ، وليس مَنْ زعم اشتقاقَهما من الهَرْت والمَرْت وهو الكَسْر بمُصيبٍ لعدَمِ انصرافِهِما ، ولو كانا مشتقَّينِ كما ذُكِر لانْصَرَفا .
قوله : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } هذه الجملةُ عَطْفٌ على ما قبلَها . والجمهور على " يُعَلِّمان " مُضَعَّفاً ، واختُلِفَ فيه على قَوْلَين : أحدُهما : أنه على بابِه من التعليم . والثاني : أنه بمعنى يُعْلِمان من " أَعْلم " ، فالتضعيفُ والهمزةُ متعاقبان ، قالوا : لأنَّ المَلَكَيْن لا يُعَلِّمان الناسَ السحرَ ، إنما يُعْلِمانِهِم به ويَنْهَيانِهم عنه ، وإليه ذَهَبَ طلحة بن مصرف ، وكان يقرأ : " يُعْلِمان " من الإِعلام . وممَّن حكى أنتَ تَعَلَّمْ بمعنى اعلَمْ ابنُ الأعرابي وابن الأنباري وأنشدوا قولَ زهير :
تَعَلَّمَنْ هالَعَمْرُ اللهِ ذا قَسَمَاً *** فاقْدِرْ بِذَرْعِكِ وانظُرْ أينَ تَنْسَلِكُ
تَعَلَّمْ أنَّ بعدَ الغَيِّ رُشْداً *** وأَنَّ لذلك الغَيِّ انقِشاعاً
تَعَلَّمْ رسولَ اللهِ أنَّك مُدْرِكي *** وأنَّ وعيداً منكَ كالأخذِ باليدِ
تَعَلَّمْ أنه لا طيرَ إلا *** على مُتَطَيِّرٍ وهو الثُّبُورُ
والضميرُ في " يُعَلِّمان " فيه قولان ، أحدُهما : أَنَّه يعودُ على هاروت وماروت ، والثاني : أنه عائدٌ على المَلَكَيْنِ ، ويؤيِّدُه قراءةُ أُبَيّ بإظهارِ الفاعلِ : " وما يُعَلَّمُ المَلَكان " ، والأولُ هو الأصحُّ ؛ وذلك أنَّ الاعتمادَ إنما هو على البَدَل دون المبدل منه فإنه في حُكْم المُطَّرَح فمراعاتُه أَوْلَى تقول : " هندٌ حُسْنُها فاتِنٌ " ولا تقول : " فاتنةٌ " مراعاةً لهند إلا في قليلٍ من الكلامِ كقوله :
إنَّ السيوفَ غُدُوَّها ورَواحَها *** تَرَكَتْ هوازنَ مثلَ قَرْنِ الأعْضَبِ
فكأنَّه لَهِقُ السَّراةِ كأنه *** ما حاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوادِ
فراعى المُبْدَلَ منه في قوله : تَرَكَتْ ، وفي قوله : مُعَيَّن ، ولو راعى البَدَلَ وهو الكثيرُ لقال : تَرَكا ومُعَيَّنان كقولِ الآخر :
فما كانَ قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ *** ولكنَّه بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
ولو لَمْ يُراعِ البدلَ لَلَزِمَ الإِخبارُ بالمعنى عن الجثة . وأجاب الشيخ عن البيتين بأن " رَواحَهَا وغدوَّها " منصوبٌ على الظرفِ ، وأن قوله " مُعَيَّنٌ " خبرٌ عن " حاجِبَيْه " وجازَ ذلك لأن كلَّ اثنين لا يُغْني أحدهما عن الآخر يجوزُ فيهما ذلك ، قال :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . بها العَيْنانُ تَنْهَلُّ
لكأنَّ في العَيْنَيْن حَبَّ قَرَنْفُلٍ *** أو سُنْبَلٍ كُحِلَتْ به فانْهَلَّتِ
إذا ذَكَرَتْ عيني الزمانَ الذي مضى *** بصحراء فَلْجٍ ظَلَّتا تَكِفَانِ
و " مِنْ " زائدةٌ لتأكيدِ الاستغراقِ لا للاستغراق ، لأنَّ " أحداً " يفيدُه بخلافِ : " ما جاءَني من رجلٍ " فإنَّهَا زائدةٌ للاستغراقِ ، و " أحد " هنا الظاهرُ أنه الملازمُ للنفي وأنَّه الذي همزتُه أصلٌ بنفسِها .
وأجاز أبو البقاء أن يكون بمعنى واحد فتكونَ همزتُه بدلاً من واو .
قوله : { حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } حتى : حرفُ غايةٍ وهي هنا بمعنى إلى / والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمارِ " أَنْ " ولا يجوزُ إظهارها ، وعلامةُ النصبِ حذفُ النونِ ، والتقديرُ : إلى أَنْ يقولا ، وهي متعلقةٌ بقولِه : " وما يُعَلِّمانِ " والمعنى أنه ينتفي تعليمُهما أو إعلامُهما على حسبِ ما مضى من الخلاف إلى هذه الغاية وهي قولُهم : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } وأجاز أبو البقاء أَنْ يقولاَ " وهذا الذي أجازه لا يُعْرَفُ عن أكثر المتقدمين وإنما هو شيءٌ قاله الشيخُ جمالُ الدين بنُ مالكِ وأنشد :
ليسَ العطاءُ من الفُضُولِ سَماحةً *** حتى تَجودَ وما لَدَيْكَ قليلُ
قال : " تقديرُه : إلا أَنْ تجودَ " .
واعلم أنَّ " حتى " تكونُ حرفَ جر بمعنى إلى كهذِه الآية ، وكقولِه :
{ حَتَّى مَطْلَعِ [ الْفَجْرِ ] } [ القدر : 5 ] ، وتكونُ حرفَ عطفٍ ، وتكونُ حرفَ ابتداءً فتقعُ بعدها [ الجملُ كقوله ] :
فما زالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دماءَها *** بدَجْلَةَ حتى ماءُ دَجْلَةَ أَشْكَلُ
والغايةُ معنىً لا يفارقها في هذه الأحوالِ الثلاثة [ فلذلك لا يكون ما بعدها ] إلا غايةً لِما قبلها : إمَّا في القوةِ أو الضَّعْفِ أو غيرِهما ، ولها أحكامٌ ستأتي إنْ شاء الله تعالى . و " إنَّما مكفوفةٌ بما الزائدةِ فلذلكَ وَقَعَ بعدَها الجملةُ ، وقد تقدَّم أنَّ بعضَهم يُجِيزُ إعمالَها ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، وكذلك : " فَلا تَكْفُرْ " .
قوله : { فَيَتَعَلَّمُونَ } في هذه الجملة سبعةُ أقوالٍ ، أظهرُها ، أنَّها معطوفةٌ على قولِه : " وما يُعَلِّمان " والضميرُ في " فيتعلَّمون " عائدٌ على " أحد " .
وجُمِعَ حَمْلاً على المعنى ، نحو قولِه : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }
[ الحاقة : 47 ] ، فإن قيل : المعطوفُ عليه منفيٌّ فيَلْزَمُ أَنْ يكونَ " فيتعلَّمون " منفياً أيضاً لعطفِه عليه وحينئذٍ ينعكسُ المعنى . فالجوابُ ما قالوه وهو أَنَّ { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ } وإنْ كان منفيَّاً لفظاً فهو موجَبٌ معنىً لأنَّ المعنى : يَعَلِّمان الناسَ السحرَ بعدَ قولِهما : إنما نحنُ فتنةٌ ، وهذا الوجهُ ذكره الزجاجُ وغيرُه .
الثاني : أنه معطوفٌ على { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } قاله الفراء . وقد اعترَضَ الزجاجُ هذا القولَ بسبب لفظِ الجمع في " يُعَلِّمون " مع إتيانِه بضميرِ التثنية في " منهما " ، يعني فكانَ حقه أنْ يُقالَ : " منهم " لأجلِ " يَعَلِّمون " ، وأجازَه أبو عليّ وغيرُه ، وقالوا : لا يمتنع عَطْفُ " فيتعلَّمون " على " يُعَلِّمون " وإن كان التعليمُ من المَلَكَيْنِ خاصةً ، والضميرُ في " منهما " راجعٌ إليهما ، فإنَّ قوله " منهما " إنما جاء بعدَ تقدُّم ذِكْرِ المَلَكَيْنِ .
وقد اعتُرِضَ على قولِ الفراء من وجهٍ آخرَ : وهو أنَّه يَلْزَمُ منه الإِضمارُ قبلَ الذكرِ ، وذلك أَنَّ الضميرَ في " مِنهما " عائدٌ على المَلَكَيْن وقد فرضتم أنّ " فيتعلَّمون منهما " عَطْفٌ على " يُعَلِّمون " فيكونُ التقديرُ : " يُعَلِّمون الناسَ السحرَ فيتعلَّمون منهما " فيلزم الإِضمارُ في " منهما " قبلَ ذِكْرِ المَلَكَيْنِ ، وهو اعتراضٌ واهٍ فإنَّهما متقدِّمان لفظاً ، وتقديرُ تأخُّرِهما لا يَضُرُّ ، إذ المحذورُ عَوْدُ الضميرِ على غيرِ مذكورٍ في اللفظ .
الثالث : - وهو أحدُ قَولَيْ سيبويه - أنه عَطْفٌ على " كفروا " ، و " كفروا " فِعْلٌ في موضعِ رفعٍ ، فلذلك عُطِفَ عليهِ فعلٌ مرفوعٌ ، قال سيبويه : " وارْتفَعَتْ " فيتعلَّمون " لأنه لم يُخْبِرْ عن المَلَكَيْن أنهما قالا : لا تَكْفُرْ فيتعلَّموا ليَجْعلا كفره سبباً لتعلُّمِ غيرِه ، ولكنه على : كفروا فيتعلَّمون " ، وشَرْحُ ما قالَه هو أنه يريد أنَّ ليس " فيتعلَّمون " جواباً لقولِه : " فلا تَكْفُرْ " فينتصِبَ في جوابِ النهي كما انتصَبَ : " فَيُسْحِتَكم " بعدَ قولِه : " لا تَفْتَرُوا " لأنَّ كُفْرَ مَنْ نَهَياه أَنْ يكفرَ ليس سبباً لتعلُّمِ مَنْ يتعلَّم . وقد اعتُرِضَ على هذا بما تقدَّم لزومِ الإضمارِ قبلَ الذكر وتقدَّم جوابُه .
الرابع : وهو القولُ الثاني لسيبويه - أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ ، والتقديرُ : " فهم يتعلَّمون " ، فَعَطَفَ جملةً اسميةً على فعليةٍ .
الخامس : قال الزجاج أيضاً : " والأجودُ أَنْ يكونَ معطوفاً على " يُعَلِّمان فيتعلَّمون " فاستغنى عِنْ ذكرِ " يَعَلِّمان " على ما في الكلام من الدليل عليهِ " . واعترَض أبو علي قولَ الزجاج فقال : " لا وجهَ لقولِه : " استغنى عن ذِكْرِ يُعَلِّمان " لأنه موجودٌ في النص " . وهذا الاعتراضُ من أبي علي تحاملٌ عليه لسببٍ وقَعَ بينهما ، فإنَّ الزجاجَ لم يُرِدْ أنَّ " فيتعلَّمون " عطفٌ على " يُعَلِّمان " المنفيِّ ب " ما " في قوله " وما يُعَلِّمان " حتى يكونَ مذكوراً في النصِّ ، وإنما أرادَ أن ثَمَّ فِعلاً مضمراً يَدُلُّ عليه قوةُ الكلامِ وهو : يَعَلِّمان فيتعلَّمون .
السادس : انه عَطْفٌ على معنى ما دَلَّ عليه أولُ الكلام ، والتقديرُ : فَيَأْتُون فيتعلَّمونَ ، ذكره الفراءُ والزَّجَّاجُ أيضاً .
السابع : قال أبو البقاء : " وقِيل هو مستأنَفٌ " وهذا يَحْتَمِل أَنْ يريدَ أنه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ كقولِ سيبويه ، وأن يكونَ مستقلاً بنفسِه غيرَ محمولٍ على شيءٍ قبلَه وهو ظاهرُ كلامِه . هذا نهايةُ القولِ في هذه المسألةِ ، وقد أَمْعَنَ المهدويُّ - رحمه الله - فيها فأمتعَ .
قوله : " مِنْهُمَا " متعلِّقٌ بيُعَلِّمون . و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ ، وفي الضمير ثلاثةُ أقوالٍ ، أظهرُها : عَوْدُه إلى المَلَكَيْنِ ، سواءً قرئ بِكْسر اللام أو فتحِها .
والثاني : أنه يعودُ على السحرِ وعلَى المُنَزَّل على الملَكَيْنِ ، والثالث : أنه يعودُ على الفتنةِ وعلى الكفر المفهومِ من قولِه " فَلا تَكْفُرْ " وهو قولُ أبي مسلم .
قوله : { مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ } الظاهرُ في " ما " أنَّها موصولةٌ اسميةٌ ، وأجاز أبو البقاء أن تكونَ نكرةً موصوفةً وليس بواضحٍ ، ولا يجوزُ أن تكونَ مصدريةً لعَوْدِ الضميرِ في " به " عليها ، والمصدريةُ حرفٌ عند جمهورِ النَّحْويين كما تقدَّم غيرَ مَرَّة .
و " بين المرءِ " ظَرْفٌ ل " يُفَرِّقون " . والجمهورُ على فَتْحِ ميم " المَرْء " مهموزاً وهي اللغة العالية . وقرأ ابنُ أبي إسحاق : " المُرْء " بضمِّ الميمِ مهموزاً ، وقرأ الأشهب العقيلي والحسنُ : " المِرْء " بكسر الميم مهموزاً . فأمَّا الضمُّ فلغةٌ مَحْكِيَّةٌ ، وأمَّا الكسرُ فَيَحتمِلُ أَنْ يكونَ لغةً مطلقاً ، ويَحْتَمِلُ أَنْ يكونَ ذلك للإِتباع ، وذلك أنَّ في " المَرْء " لغةً ، وهي أنَّ فاءَه تَتْبَعُ لامَه فإنْ ضُمَّ ضُمَّتْ وإنْ فَتِحَ فُتِحَتْ وإنْ كُسِرَ كُسِرَتْ . تقول : " ما قام المُرْءُ " بضم الميم ، و " رأيت المَرْءَ " بفتحها ، و " مررت بالمِرْءِ " بكسرِها . وقد يُجْمع بالواوِ والنون وهو شاذٌ ، قال الحسن في بعضِ مواعِظه : " أَحْسِنوا مَلأَكم أيها المَرْؤُوْن " أي : أخلاقكم . وقرأ الحسن والزهري : " المِرِ " بكسر الميم وكسرِ الراء خفيفة ، ووجهُها أنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ على الراءَ وحَذَفَ الهمزة تخفيفاً ، وهو قياسٌ مُطَّرد . / وقرأ الزهري أيضاً : " المَرِّ " بتشديد الراء من غير همز ، ووجهُها أنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الراء ثم نَوَى الوقفَ عليها مشدداً ، كما رُوي عن عاصم " مُسْتَطرٌّ " بتشديد الراء ، ثم أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ .
قوله : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ } يجوز في " ما " وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ الحجازيةَ فيكون " هم " اسمَها ، و " بضارِّين " خبرَها ، والباءُ زائدةٌ ، فهو في محلِّ نصبٍ ، والثاني : أن تكونَ التميميةَ ، فيكونَ " هم " مبتدأ ، و " بضارِّين " خبرَه والباءُ زائدةٌ أيضاً فهو في محلِّ رفعٍ . والضميرُ فيه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنَّه عائدٌ على السَّحَرةِ العائدِ عليهم ضميرُ " فيتعلَّمون " . الثاني : يعود على اليهود العائدِ عليهم ضميرُ " واتَّبَعوا " . الثالث : يعودُ على الشياطين . والضميرُ في " به " يعودُ على " ما " في قولِه : { مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ } .
والجمهورُ على " بضارِّين " بإثباتِ النونِ و " من أحدٍ " مفعولٌ به ، وقرأ الأعمشُ : " بضارِّي " من غيرِ نونٍ ، وفي توجيهِ ذلك قولان ، أظهرُهما : أنه أَسْقَطَ النونَ تخفيفاً وإنْ لم يَقَعْ اسمُ الفاعلِ صلةً لألْ ومثلُه قولُ الشاعر :
ولَسْنا إذا تَأَبْون سِلْماً بمُذْعِني *** لكم غيرَ أنَّا إنْ نُسالَمْ نُسالِم
أي : بمُذْعنين ، ونظيرُه في التثنية : " قَظَا قَظَا بَيْضُك ثِنْتا وبَيْضِي مِئَتا . يريدون : ثِنْتان ومِئَتان . والثاني - وبه قال الزمخشري وابنُ عطية - : أن النونَ حُذِفَتْ للإِضافة إلى " أحد " وفُصِل بين المضافِ والمضافِ إليه بالجارِّ والمجرور وهو " به " كما فُصِل به في قول الآخر :
هما أَخَوا في الحربِ مَنْ لا أخَاله *** إذا خافَ يَوْماً نَبْوةً فَدَعاهُما
كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوماً *** يهوديٍ يقارِبُ أو يُزِيلُ
ثم اسْتَشْكَلَ الزمخشري ذلك فقال : " فإنْ قلتَ كيفُ يُضافُ إلى أحد وهو مجرورٌ بمِن ؟ قلت : جُعِل الجارُّ جزءاً من المجرور " ، قال الشيخ : " وهذا التخريجُ ليس بجيد لأنَّ الفصلَ بين المتضايفَيْنَ بالظرفِ والمجرورِ من ضرائرِ الشعرِ ، وأقبحُ من ذلك ألاَّ يكونَ ثُمَّ مضافٌ إليه ، لأنه مشغولٌ بعاملِ جرَّ فهو المؤثِّرُ فيه لا الإضافةُ ، وأمَّا جَعْلُه حرفَ الجرِّ جزءاً من المجرورِ فليس بشيء لأنَّ هذا مؤثرٌ فيه وجزءُ الشيءِ لا يُؤَثِّر فيه " وفي قولِ الشيخ نظرٌ ، أمَّا كونُ الفصل من ضرائر الشعر فليس كما قال ، لأنه قد فُصِل بالمفعولِ به في قراءة ابن عامر فبالظرفِ وشَبْهِهِ أَوْلَى ، وسيأتي تحقيق ذلك في الأنعام .
وأمَّا قولُه : " لأنَّ جزءَ الشيءِ لا يؤثر فيه " فإنما ذلك في الجُزْءِ الحقيقي ، وهذا إنما قال : نُنَزِّلُه منزلَة الجزءِ ، ويَدُلُّ على ذلك قولُ النحويين : الفعلُ كالجزءِ من الفاعلِ ولذلك أُنِّثَ لتأنيثه ، ومع ذلك فهو مؤثِّرٌ فيه .
و " مِنْ " في " مِنْ أَحَد " زائدةٌ لتأكيدِ الاستغراق كما تقدَّمَ في { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } . وينبغي أَنْ يجيءَ قولُ أبي البقاء : إنَّ " أَحَداً " يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنىً واحدٍ ، والمعهودُ زيادةُ " مِنْ " في المفعولِ به المعمولِ لفعل منفيٍّ نحو : " ما ضَربْتُ من أحدٍ " إلا أنَّه حُمِلَتِ الجملةُ الاسميةُ الداخلُ عليها حرفُ النفي على الفعليةِ المنفيةِ في ذلك لأن المعنى : وما يَضُرُّون من أحدٍ ، إلا انه عَدَلَ إلى هذه الجملةِ المصدَّرَة بالمبتدأِ المُخْبَرِ عنه باسمِ الفاعلِ الدالِّ على الثبوتِ والاستقرارِ المزيدِ فيه باءُ الجرِّ للتوكيدِ المرادِ الذي لَمْ تُفِدْه الجملةُ الفعلية .
قوله : { إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } هذا استثناءٌ مُفَرَّغٌ من الأحوالِ . فهو في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، وفي صاحبِ هذه الحالِ أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه الفاعلُ المستكِنُّ في " بضارِّين " . الثاني : أنه المفعولُ وهو " أَحَدٍ " وجاءَتِ الحالُ من النكرةِ لاعتمادِها على النفيِ . والثالثُ : أنَّه الهاءُ في " به " أي بالسحرِ ، والتقديرُ : وما يَضُرُّون أحداً بالسحرِ إلاَّ ومعه عِلْمُ الله أو مقروناً بإذنِ الله ونحوُ ذلك . والرابعُ : أنه المصدَرُ المعرِّفُ وهو الضررُ ، إلاَّ أنه حُذِفَ للدلالةِ عليه .
قوله : { وَلاَ يَنفَعُهُمْ } في هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنها عَطْفٌ على " يَضُرُّهم " فتكونُ صلةً ل " ما " أيضاً ، فلا مَحَلَّ لها مِن الإِعراب . والثاني - وأجازه أبو البقاء - : أن تكونَ خبراً لمبتدأٍ مضمرٍ تقديرُه : وهو لا ينفعُهم ، وعلى هذا فتكونُ الواو للحالِ ، والجملةُ من المبتدأِ والخبر في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ ، وهذه الحالُ تكونُ مؤكِّدةً لأنَّ قولَه : " ما يَضُرُّهم " ، يُفْهَمُ منه عدمُ النفع ، قال أبو البقاء : " ولا يَصِحُ عَطْفُه على " ما " لأنَّ الفعلَ لا يُعْطَفُ على الاسم " وهذا من المواضعِ المستغنى عن النصِّ على مَنْعِها لوضوحِها ، وإنما يُنَصُّ على مَنْعِ شيءٍ يُتَوَهَّمُ جوازُه . وأتى هنا ب " لا " لأنها ينفى بها الحالُ والاستقبالُ ، وإنْ كان بعضُهم خَصَّها بالاستقبالِ . والضُّرُّ والنَّفْعُ معروفان ، يقال : ضَرَّه يَضُرُّه بضم الضاد ، وهو قياسُ المضاعَفِ المتعدِّي ، والمصدرُ : الضُّر والضَّر بالضم والفتح ، والضَّرر بالفك أيضاً ، ويقال : ضَارَه يَضيره بمعناه ضَيْراً ، قال الشاعر :
تقولُ أُناسٌ لا يَضِيرُك نَأْيُها *** بلى كلُّ ما شَفَّ النفوسَ يَضِيرُها
وليس حرفُ العلةِ مُبْدَلاً من التضعيفِ ، ونَقَلَ بعضُهم : أنَّه لا يُبْنَى من " نفع " اسمُ مفعول فَيُقال : مَنْفُوع ، والقياسُ لا يَأْباه .
قوله : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } تقدَّم أنَّ هذه اللامَ جوابُ قسمٍ محذوفٍ . و " عَلِمَ " يجوزُ أن تكون متعديةً إلى اثنين أو إلى واحدٍ ، وعلى كلا التقديرَيْنِ فهي معلَّقةٌ عن العمل فيما بعدَها لأجلِ اللامِ ، فالجملةُ بعدَها في محلِّ نصبِ : إمَّا سادةً مسدَّ مفعولين أو مفعولٍ واحدٍ على حَسَبِ ما تقدَّم ، ويظهر أثرُ ذلك في العطفِ عليها ، فإن اعتقدنا تعدِّيَها لاثنين عَطَفْنا على الجملةِ بعدَها مفعولَيْن وإلاَّ عَطَفْنا مفعولاً واحداً ، ونظيرُه في الكلامِ : عَلِمْتُ لزيدٌ قائمٌ وعمراً ذاهباً ، أو عَلِمْتُ لزَيدٌ قائمٌ وذهابَ عمروٍ . والذي يَدُلُّ على أنَّ الجملةَ المعلَّقة بعد " عَلِم " في محلِّ نصبٍ وعَطْفَ المنصوبِ على محلِّها قولُ الشاعرِ :
وما كنْتُ أدري قبلَ عَزَّةَ ما الهَوى *** ولا موجعاتِ القَلْبِ حتى تَوَلَّتِ
رُوي بنصبِ " مُوجعات " على أنه عَطْفٌ على محلِّ " ما الهوى " ، وفي البيت كلامٌ ، إذ يُحتمل أن تكونَ " ما " زائدةً ، و " والهوى " مفعولٌ به ، فَعَطَفَ " موجعات " ِ " عليه ، ويُحتمل أن تكونَ " لا " نافيةً للجنس و " موجعاتِ " اسمُها والخبرُ محذوفٌ كأنه قال : ولا موجعاتِ القلب عندي حتى تولَّت .
والضميرُ في " عَلِموا " فيه خمسةُ أقوالٍ ، أحدُها ضميرُ اليهودِ الذين بحضرة محمدٍ عليه السلام ، أو ضميرُ مَنْ بحضرةِ سليمانَ ، أو ضميرُ جميعِ اليهودِ أو ضميرُ الشياطين ، أو ضميرُ المَلَكَيْنِ عند مَنْ يرى / أنَّ الاثنين جمعٌ .
قوله : { لَمَنِ اشْتَرَاهُ } في هذه اللامِ قولان ، أحدُهما : - وهو الظاهرُ عند النحويين - أنها لامُ الابتداءِ المعلِّقةِ ل " عَلِم " عن العملِ كما تقدّم ، و " مَنْ " موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و " اشتراهُ " صلتُها وعائدُها . و { مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ ومِنْ زائدةٌ في المبتدأ ، والتقديرُ : ما له خلاقٌ في الآخرةِ . وهذه الجملةُ في محلة رفعٍ خبراً ل " مَنْ " الموصولةِ فالجملةُ من قوله : " ولقد عَلِموا " مقسمٌ عليها كما تقدَّم ، و " لَمَن اشتراه " غيرُ مقسمٍ عليها ، هذا مذهبُ سيبويه والجمهور . الثاني - وهو قول الفراء ، وتَبِعه أبو البقاء - : أن تكونَ هذه اللامُ هي الموطئةَ للقسَمِ ، و " مَنْ " شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و { مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } جوابُ القسمِ ، ف " اشتراه " على القولِ الأولِ صلةٌ وعلى هذا الثاني هو خبرٌ لاسمِ الشرطِ . ويكونُ جوابُ الشرطِ محذوفاً ؛ لأنه إذا اجتمع شرطٌ وقَسَمٌ ولم يتقدَّمْهما ذو خبر أُجيب سابقُهما غالباً ، وقد يُجاب الشرطُ مطلقاً كقوله :
لَئِنْ كان ما حُدِّثْتُه اليومَ صادِقاً *** أَصُمْ في نهارِ القَيْظِ للشمسِ باديا
ولا يُحْذَفُ جوابُ الشرطِ إلاَّ وفعلُه ماضٍ ، وقد يكونُ مضارعاً كقوله :
لَئِنْ تَكُ قَدْ ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ *** لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسِعُ
فعلى قولِ الفراء تكونُ الجملتان من قوله : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ } مُقْسَماً عليهما ، ونُقِل عن الزجاج مَنْعُ قولِ الفراءِ فإنه قال : " هذا ليس موضعَ شرط " ولم يُوجِّهْ مَنْعَ ذَلك . والذي يَظْهَرُ في مَنْعِهِ ، أنَّ الفعل بعد " مَنْ " وهو " اشتراه " ماضٍ لفظاً ومعنىً فإنَّ الاشتراءَ قد وَقَعَ وانفصَلَ ، فَجَعَلُه شرطاً لا يَصِحُّ ؛ لأنَّ فعلَ الشرطِ وإنْ كان ماضياً لفظاً فلا بدَّ أن يكونَ مستقبلاً معنىً .
والخَلاقُ : النَّصِيبُ ، قال الزجاج : " أكثرُ استعمالِه في الخيرِ " فأمَّا قولُه :
يَدْعُون بالوَيْلِ فيها لا خَلاقَ لَهُمْ *** إلا سَرابيلُ من قَطْرٍ وأغلالُ
فيَحْتمل ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدُها : أنه على سبيلِ التهكُّمِ بهم كقوله :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . تَحِيَّةُ بَيْنِهم ضَرْبٌ وجَيِعُ
والثاني : أنه استثناءٌ منقطعٌ ، أي : لكنْ لهم السرابيلُ مِنْ كذا ، والثالث : أنه اسْتُعْمِل في الشرِّ على قِلَّة . والخَلاقُ : القَدْر قال :
فما لَكَ بيتٌ لدى الشامخاتِ *** وما لَكَ في غالِبٍ مِنْ خَلاقِ
أي : من قَدْرٍ ورتبةٍ ، وهو قريبٌ من الأولِ . والضميرُ المنصوبُ في " اشتراه " فيه أربعةُ أقوالٍ : يعودُ على السحرِ أو الكفرِ أو كَيْلِهم الذي باعوا به السحرَ أو القرآنَ لتعويضِهم كتبَ السحرِ عنه . وقد تقدَّم الكلامُ على قولِه : " ولَبِئْس ما " وما ذَكَر الناسُ فيها . واللامُ في " لَبِئْسَما " جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه : والله لَبِئْسَما ، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي : السحرُ أو الكفرُ .
قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } جوابُ لو محذوفٌ تقديرُه : لو كانوا يَعْلَمُون ذمَّ ذلك لَمَا باعُوا به أنفسَهم ، وهذا أحسنُ مِنْ تقديرِ أبي البقاء : " لو كانوا يَنْتَفِعُون بعِلْمهم لامتنعُوا من شراء السحرِ " لأنَّ المقدَّرَ كلما كان مُتَصَيَّداً من اللفظِ كان أَوْلَى . والضميرُ في " به " يعودُ على السحرِ أو الكفرِ ، وفي " يَعْلَمُون " يعودُ على اليهود باتفاق ، واعلمْ أنَّ هنا سؤالاً معنوياً ذكره الزمخشري وغيرُه ، وهو مترتِّبٌ على عَوْدِ الضميرِ في " عَلِمُوا " و " يَعْلَمُون " ، وذلك أنَّ الزمخشري قال : " فإنْ قلتَ : كيف أَثْبَتَ لهم العلمَ أولاَّ في " ولقد عَلِمُوا " على سبيلِ التوكيد القسمي ، ثم نفاه عنهم في قولِه : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ؟ قلت : معناه : لو كانوا يَعْمَلون بعِلْمِهم ، جَعَلهم حينَ لم يَعْلَموا به كأنهم مُنْسلخون عنه " وهذا بناءً منه على أنَّ الضميرين في " عَلِموا " و " يَعْلَمون " لشيءٍ واحدٍ . وأجابَ غيرُه على هذا التقدير بأن المرادَ بالعلم الثاني العقلُ لأنَّ العِلْمَ مِنْ ثمرتِه ، فلمَّا انتفَى الأصلُ انتفى ثمرتُه ، أو يغايِرُ بين متعلَّقِ العِلْمين أي : عَلِموا ضرره في الآخرةِ ولم يعلموا نَفْعَه في الدنيا ، وأمَّا إذا أَعَدْتَ الضميرَ في " عَلِموا " على الشياطين أو على مَنْ بحضرةِ سليمانَ أو على المَلَكَين فلا إشكالَ لاختلافِ المُسْنَد إليه العلمُ حينئذ .