الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قُلۡ إِن كَانَتۡ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةٗ مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (94)

قوله تعالى : { إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً } : شَرْطٌ جوابُه : " فَتَمَنَّوُا " و " الدارُ " اسمُ كان وهي الجنةُ . والأَوْلَى أن يُقَدَّر حَذْفُ مضافٍ ، أي : نَعيمُ الدارِ ، لأنَّ الدارَ الآخِرةَ في الحقيقةِ هي انقضاءُ الدنيا وهي للفريقَيْن . واختلفوا في خبر " كان " على ثلاثةِ أقوالٍ ، أحدُها : أنه " خالصةً " فتكون " عند " ظرفاً لخالصةً أو للاستقرار الذي في " لكم " ، ويجوزُ أن تكونَ حالاً مِن " الدار " والعاملُ فيه " كان " أو الاستقرارُ . وأمَّا " لكم " فيتعلَّقُ بكان لأنها تعملُ في الظرفِ وشِبْهِه . قال أبو البقاء " ويجوز أن تكونَ للتبيينِ فيكونَ موضعُها بعد " خالصةً " أي خالصةً لكم فَتَتَعَلَّقَ بنفسِ " خالصةً " . وهذا فيه نظرٌ ، لأنه متى كانت للبيانِ تعلَّقَتْ بمحذوفٍ تقديرُه : أعني لكم نحو : سُقْياً لك ، تقديرُه : أعني بهذا الدعاءِ لك . وقد صَرَّح غيرُه في هذا الموضعِ بأنها للبيانِ وأنها متعلقةٌ حينئذٍ بمحذوف كما ذكرت . ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ل " خالصةً " في الأصل قُدِّم عليها فصار حالاً منها فيتعلَّقَ بمحذوفٍ .

الثاني : أنَّ الخبر " لكم " فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ويُنْصَبُ " خالصةً " حينئذٍ على الحالِ ، والعاملُ فيها : إمَّا " كان " أو الاستقرارُ في " لكم " و " عند " منصوبٌ بالاستقرارِ أيضاً .

الثالث : أنَّ الخبرَ هو الظَرْفُ ، و " خالصةً " حالٌ أيضاً ، والعاملُ فيها : إمَّا " كانَ " أو الاسقرارُ ، وكذلك " لكم " . وقد مَنَعَ من هذا الوجهِ قومٌ فقالوا : " لا يجوزُ أن يكونَ الظرفُ خبراً لأنَّ الكلامَ لا يَسْتَقِلُّ به " . وجَوَّزَ ذلك المهدوي وابنُ عطية وأبو البقاء . واستشعر أبو البقاء هذا الإِشكالَ وأجاب عنه فإنه قال : " وسَوَّغَ أن يكونَ " عند " خبرَ كان " لكم " ، يعني لفظَ " لكم " سَوَّغَ وقوعَ " عند " خبراً ، إذ كان فيه تخصيصٌ وتَبْيينٌ ، ونظيرُه قولُه : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] ، لولا " له " لم يَصِحَّ أن يكونَ " كفواً " خبراً . و { مِّن دُونِ النَّاسِ } في محلِّ النصبِ ب " خالصةً " لأنَّك تقولُ : " خَلُصَ كذا مِنْ كذا " .

وقرأ الجمهورُ : " َتَمَنَّوُا الموتَ " بضمِّ الواو ، ويُرْوَى عن أبي عمرو فتحُها تخفيفاً ، واختلاسُ الضمة . وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها على التقاء الساكنين تشبيهاً بواو " لَوِ استطعنا " . و " إنْ كنتم " كقوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } وقد تقدَّمَ .