الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (106)

قوله تعالى : { مَا نَنسَخْ } . . في " ما " قولان : أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنَّها مفعولٌ مقدم لنَنْسَخْ ، وهي شرطيةٌ جازمةٌ له ، والتقدير : أيَّ شيءٍ نَنْسَخ ، مثلَ قوله { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ } [ الإسراء : 110 ] . والثاني : أنَّها شرطيةٌ أيضاً جازمة لنَنْسَخْ ، ولكنَّها واقعةٌ موقعَ المصدرِ ، و " مِنْ آيةٍ " هو المفعولُ به ، والتقديرُ : أَّي نَسْخٍ نَنْسَخ آيةً ، قاله أبو البقاء وغيرُه ، وقالوا : مجيءُ " ما " مصدراً جائز وأنشدوا :

نَعَبَ الغرابُ فقلتُ : بَيْنٌ عاجِلُ *** ما شِئْتَ إذ ظَعَنُوا لِبَيْنٍ فانْعَبِ

وقد رَدَّ هذا القولَ بعضُهم بشيئين ، أحدُهما : أنَّه يَلْزَمُ خُلُوُّ جملةِ الجزاءِ من ضميرٍ يعودُ على اسمِ الشرطِ وهو غيرُ جائزٍ ، وقد تقدَّم تحقيقُ الكلامِ في ذلك عند قولِه : { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] . والثاني : أنَّ " مِنْ " لا تُزَادُ في الموجَبِ ، والشرطُ موجَبٌ ، وهذا فيه خلافٌ لبعضِ البصريين أجازَ زيادتَها في الشرطِ لأنه يُشْبِه النفيَ ، ولكنه خلافٌ ضعيفٌ .

وقرأ ابنُ عامر : " نُنْسِخْ " بضمِّ النونِ وكسر السينِ من أَنْسَخَ ، قال أبو حاتم : " هو غلطٌ " وهذه جرأةٌ منه على عادَتِه ، وقال أبو عليّ : ليسَتْ لغةٌ لأنه لا يُقال : نَسَخَ وأَنْسخ بمعنىً ، ولا هي للتعديةِ لأنَّ المعنى يجيءُ الأمرُ كذلكَ ، فلم يبقَ إلا أَنْ يكونَ المعنى : ما نَجِدْه منسوخاً كما يُقال : أَحْمَدْتُه وأَبْخلْتُه ، أي : وَجَدْتُه كذلك ثم قال : " وليس نَجِدُه منسوخاً إلا بأَنْ يَنْسَخَه ، فتنفقُ القراءتان في المعنى وإن اختلفا في اللفظ " ، فالهمزةُ عنده ليس للتعديةِ . وجَعَلَ الزمخشري وابنُ عطية الهمزةَ للتعديةِ ، إلا أنهما اختلفا في تقدير المفعولِ الأولِ المحذوفِ وفي معنى الإِنساخ ، فَجَعَل الزمخشري المفعولَ المحذوفَ جبريلَ عليه السلام ، والإِنساخَ هو الأمرَ بنَسْخِها ، أي : الإِعلامُ به ، وجَعَلَ ابنُ عطية المفعولَ ضميرَ النبي عليهِ السلام ، والإِنساخَ إباحةَ النَّسْخ لنبيِّه ، كأنه لَمَّا نَسَخَها أباحَ لَه تَرْكَها ، فَسَمَّى تلك الإِباحة إنساخاً .

وخرَّج ابنُ عطية القراءةَ على كَوْنِ الهمزةِ للتعديةِ مِنْ وجهٍ آخرَ ، وهو مِنْ نَسْخ الكتابِ ، وهو نَقْلُه من غير إزالةٍ له ، قال : " ويكونُ المعنى : ما نَكْتُبْ ونُنَزِّلْ من اللوح المحفوظ أو ما نؤخِّرْ فيه ونَتْرُكْهُ فلا نُنُزِّلْه ، أيَّ ذلك فَعَلْنا فإنما نأتي بخيرٍ من المؤخَّر المتروك أو بمثله ، فيجيء الضميران في " منها " و " بمثلها " عائِدَيْنِ على الضمير في " نَنْسَأْها " قال الشيخ : " وذَهَلَ عن القاعدة وهي أنه لا بُدَّ من ضميرٍ يعودُ من الجزاء على اسم الشرطِ ، و " ما " في قوله : " ما نَنْسَخْ " شرطيةٌ ، وقولُه " أو نَنْسَأْها " عائدٌ على الآية ، وإن كان المعنى ليس عائداً عليها من حيث اللفظُ والمعنى ، بل إنما يعودُ عليها من حيث اللفظُ فقط نحو : عندي درهمٌ ونصفُه ، فهو في الحقيقة على إضمار " ما " الشرطيةِ ، التقدير : أو ما نَنْسَأْ من آيةٍ ضرورةَ أنَّ المنسوخِ غيرُ المَنْسُوء ، ولكن يبقى قولُه : مَا نَنْسَخْ من آيةٍ مُفْلَتاً من الجوابِ ، إذ لا رابطَ يعودُ منه إليه فَبَطَلَ هذا المعنى الذي قاله " .

قوله : { مِنْ آيَةٍ } " مِنْ " للتبعيضِ ، فهي متعلِّقةٌ بمحذوف لأنها صفةٌ لاسمِ الشرط ، ويَضْعُفُ جَعْلُها حالاً ، والمعنى : أيَّ شيءٍ نَنْسَخْ من الآيات ف " آية " مفرد وقع موقِعَ الجمعِ ، وكذلك تخريجُ كلِّ ما جاءَ من هذا التركيب :

{ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [ فاطر : 2 ] { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } ، وهذا المجرورُ هو المخصِّصُ والمبِّينُ لاسم الشرطِ ؛ وذلك أَنَّ فيه إبهاماً من جهةِ عمومهِ ، ألا ترى أنَّك لو قلت : " مَنْ يُكْرشمْ أُكْرِمْ " تناوَلَ النساءَ والرجالَ ، فإذا قلت : " مِن الرجالِ " بَيَّنْتَ وخصَّصْتَ ما تناوَله اسمُ الشرط .

وأجاز أبو البقاء فيها وَجْهَيْنِ آخرين ، أحدهما : أنَّها في موضع نصبٍ على التمييز ، والممَّيز " ما " والتقدير : أَيَّ شيءٍ نَنْسَخْ ، قال : " ولا يَحْسُنُ أن تقدِّر : أيَّ آيةٍ نَنْسَخْ ، لأنَّك لا تَجْمَعْ بَيْنَ " آية " وبين المميَّز بآية ، لا تقول : أيَّ آيةٍ نَنْسَخْ من آيةٍ ، يعني أنك لو قَدَّرْتَ ذلك لاستَغْنَيْتَ عن التمييز . والثاني : أنها زائدةٌ وآية حال / ، والمعنى : أيَّ شيءَ نَنْسَخْ قليلاً أو كثيراً ، وقد جاءت " آية " حالاً في قوله : { هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً }

[ الأعراف : 73 ] أي : " علامة " وهذا فاسدٌ لأن الحالَ لا تُجَرُّ ب " مِنْ " ، وقد تقدَّم أنها مفعولٌ بها ، و " مِنْ " زائدةٌ عل القَوْل بجَعْل " ما " واقعةً موقع المصدر ، فهذه أربعةُ أوجه .

قولِه : { أَوْ نُنسِهَا } " أو " هنا للتقسيم ، و " نُنْسِها " مجزومٌ عطفاً على فعل الشرطِ قبلَه . وفيها ثلاثَ عشرة قراءةً : " نَنْسَأها " بفتحِ حرفِ المضارعةَ وسكونِ النون وفتحِ السين مع الهمز ، وبها قرأ أبو عمرو وابن كثير . الثانية : كذلك إلا أنه بغير همزٍ ، ذكرها أبو عبيد البكري عن سعدِ بن أبي وقاص رضي الله عنه ، قال ابن عطية : " وأراه وَهِمَ " . الثالثة : " تَنْسَها " بفتح التاء التي للخطاب ، بعدَها نونٌ ساكنةٌ وسينٌ مفتوحةٌ من غيرِ همزٍ ، وهي قراءةُ الحسن ، وتُرْوى عن ابن أبي وقاص ، فقيل لسعدِ بنِ أبي وقاص : " إن سعيدَ بن المسيَّبَ يَقْرؤها بنونٍ أولى مضمومةٍ وسينٍ مكسورةٍ فقال : إن القرآن لم يَنْزِلْ على المسيَّب ولا على ابن المسيَّبِ " وتلا : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى } [ الأعلى : 6 ] { وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [ الكهف : 24 ] يعني سعدٌ بذلك أن نسبةَ النسيانِ إليه عليه السلامُ موجودةٌ في كتابِ الله فهذا مثلُه .

الرابعةُ : كذلك إلا أنه بالهمز : الخامسةُ : كذلك إلا أنَّه بضمِّ التاء وهي قراءةُ أبي حَيْوَة : السادسةُ : كذلك إلا أنَّه بغيرِ همزٍ وهي قراءةُ سعيدِ بن المسيَّبِ . السابعة : " نُنْسِها " بضمِّ حرفِ المضارعةِ وسكونِ النونِ وكَسْرِ السينِ من غيرِ همزٍ وهي قراءةُ باقي السبعةِ . الثامنةُ : كذلك إلا أنه بالهمز . التاسعةُ : نُنَسِّها بضمِّ حرفِ المضارعةِ وفتحِ النونِ وكسر السينِ مُشَدَّدَةً وهي قراءةُ الضحاك وأبي رجاء . العاشرةُ : " نُنْسِكَ . بضمِّ حرفِ المضارعةِ وسكونِ النونِ وكسرِ السينِ وكافٍ بعدها للخطاب . الحاديةَ عشرة : كذلك إلا أنه بفتح النون الثانيةِ وتشديد السين مكسورةً ، وتروى عن الضحاك وأبي رجاء أيضاً . الثانيةَ عشرةَ : كذلك إلا أنه بزيادةِ ضمير الآية بعد الكاف : " نُنَسِّكَها " وهي قراءة حذيفة ، وكذلك هي في مصحفِ سالم مولاه . الثالثةَ عشرةَ : " ما نُنْسِكَ من آيةٍ أو نَنْسَخْها نَجِىءْ بمثلِها " وهي قراءةُ الأعمش ، وهكذا ثَبَتَتْ في مصحفِ عبد الله .

فأمَّا قراءةُ الهَمْز على اختلافِ وجوهِها فمعناها التأخيرُ من قولِهم : نَسَأَ الله وأَنْسَأَ اللهُ في أَجَلِكَ أي : أَخَّرَه ، وبِعْتُه نسيئةً أي متأخراً ، وتقولُ العرب : نَسَأْتُ الإِبلَ عن الحوضِ أَنْسَؤُها نَسْئَاً ، وأنْسَأَ الإِبلَ : إذا أَخَّرَها عَنْ ورودِها يومَيْنِ فأكثرَ ، فمعنى الآيةِ على هذا فيه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : نؤخِّرُ نَسْخَها ونزولَها وهو قولُ عطاء . الثاني : نَمْحُها لفظاً وحكماً وهو قول ابن زيد . الثالث : نُمْضِها فلا نَنْسَخْها وهو قولُ أبي عبيد ، وهو ضعيفٌ لقوله : نَأْتِ بخيرٍ منها ، لأنَّ ما أُمْضِي وأُقِرَّ لا يُقال فيه : نَأْتِ بخير منه .

وأمَّا قراءةُ غيرِ الهَمْزِ على اختلافِ وجوهِها أيضاً ففيها احتمالان : أظهرُهما : أنها من النسيانِ ، وحينئذٍ يُحْتَمَلُ أن يكونَ المرادُ به في بعض القراءاتِ ضدَّ الذِّكْرِ ، وفي بعضِها التركَ . والثاني : أنَّ أصلَه الهمزُ من النَّسْء وهو التأخيرُ ، إلا أنَّه أُبْدِلَ من الهمزةِ ألفٌ فحينئذٍ تتَّحِد القراءتان . ثم مَنْ قرأ مِنَ القُرَّاء : " نَنْسَاها " من الثلاثي فواضحٌ . وأمَّا مَنْ قرأ منهم مِنْ أَفْعَل ، وهم نافع وابن عامر والكوفيون فمعناه عندهم : نُنْسِكَها ، أي : نجعلُك ناسياً لها ، أو يكونُ المعنى : نَأْمُرُ بتركها ، يقال : أَنْسَيْتُهُ الشيءَ أي أَمَرْتُه بتركِه ، ونَسِيْتُه تَرَكْتُه ، وأنشدوا :

إنَّ عليَّ عُقْبَةً أَقْضِيها *** لستُ بِناسِيها ولا مُنْسِيها

أي : لا تاركها ولا آمراً بتركها ، وقد تكلَّم الزجاج في هذه القراءةِ فقال : " هذه القراءةُ لا يَتَوَجَّهُ فيها معنى الترك ، لا يُقال : أَنْسَى بمعنى ترك قال الفارسي وغيرُه : " ذلك مُتَّجِهٌ لأنه بمعنى نَجْعَلُكَ تَتْرُكها " وقد ضَعَّفَ الزجاج أيضاً أَنْ تُحْمَلَ الآيةُ على معنى النسيانِ ضدَّ الذكرِ ، وقال : " إنَّ هذا لم يكُنْ له عليه السلام ولا نَسي قرآناً " ، واحتجَّ بقوله تعالى :

{ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ }

[ الإسراء : 86 ] أي لم نَفْعَل شيئاً من ذلك . وأجابَ الفارسي عنه بأنَّ معناه لم نُذْهِبْ بالجميع . وهذا نهايةُ ما وَقَعْتُ عليه من كلام الناس .

قوله : " نَأْت " هو جوابُ الشرط ، وجاء فعلُ الشرطِ والجزاءِ مضارعَيْنِ ، وهذا التركيبُ أفصحُ التراكيبِ ، أعني : مجيئهما مضارِعَيْن . وقوله : " بخيرٍ منها " متعلِّقٌ بِنَأْتِ ، وفي " خير " هنا قولان ، الظاهرُ منهما : أنها على بابها من كونها للتفضيل ، وذلك أنَّ الآتيَ به إن كانَ أَخفَّ من المنسوخ أو المنسوء فخيريَّتُه بالنسبة إلى سقوطِ أعباء التكليف ، وإنْ كانَ أَثْقَلَ فخيريَّتُه بالنسبة إلى زيادةِ الثوابِ ، وقولُه : " أو مثلِها " أي في التكليف والثواب ، وهذا واضحٌ . والثاني : أن " خيراً " هنا مصدرٌ ، وليس من التفضيلِ في شيء ، وإنَّما هو خيرٌ من الخُيورِ ، كخير في قوله : { أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 105 ] و " مِنْ " لابتداء الغاية ، والجارُ والمجرور صفةٌ لقولِه " خير " أي : خيرٌ صادِرٌ من جهتِها ، والمعنى عند هؤلاء : مَا نَنْسَخْ من آيةٍ أو نؤخِّرْها نأتِ بخيرٍ من الخيور من جهةِ المنسوخِ أو المنسوء . وهذا بعيدٌ جداً لقوله بعدَ ذلك : " أو مثلِها " فإنه لا يَصِحُّ عَطْفُه على " بخير " على هذا المعنى ، اللهم إلاَّ أَنْ يُقْصَدَ بالخيرِ عَدَمَ التكليفِ ، فيكونَ المعنى : نَأْتِ بخيرِ من الخُيور ، وهو عَدَمُ التكليفِ أو نَأْتِ بمثلِ المنسوخِ أو المَنْسوء . وأمَّا عَطْفُ " مثلِها " على الضمير في " منها " ، فلا يجوزُ إلا عند الكوفيين ، لعدمِ إعادةِ الخافضِ ، وقوله " ما نَنْسَخْ " فيه التفاتٌ من غيبةٍ إلى تكلم ، ألا ترى أنَّ قبله " واللهُ يَخْتَصُّ " { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ } .

والنَّسْخُ لغةً : الإِزالةُ بغيرِ بدلٍ يُعْقِبُه ، نَسَخَتِ الريحُ الأثرَ والشمسُ الظلَّ ، أو نَقْلُ الشيءِ من غير إزالة [ نحو : ] نَسَخْتُ الكتابَ ، وقال بعضهُم :

" والنسخُ : الإِزالةُ ، وهو في اللغةِ على ضَرْبَيْن : ضرب فيه إزالةُ شيءٍ وإقامةُ غيره مُقامَه نحو : " نَسَخَتِ الشمسُ الظلَّ " فإنَّها ازالته وقامَتْ مَقامَه ، ومنه { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } ، والثاني : أن يُزيلَه ولا يَقُومَ شيءٌ مقامَه نحو : نَسَخَتِ الريحُ الأثر ومنه : فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقي الشيطانُ ، النسيئة : التأخيرُ كما تقدَّم ، والإمضاءُ أيضاً قال :

أَمُونٍ كأَلْواحِ الإرانِ نَسَأْتُها *** على لاحِبٍ كأنَّه ظَهْرُ بُرْجُدٍ