الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{الٓمٓ} (1)

إنْ قيل : إن الحروفَ المقطَّعة في أوائل السور أسماءُ حروفِ التهجِّي ، بمعنى أن الميم اسْمٌ لمَهْ ، والعينَ اسمٌ لعَهْ ، وإن فائدتَها إعلامُهم بأن هذا القرآنَ منتظمٌ مِنْ جنس ما تَنْظِمون منه كلامَكم ولكن عَجَزْتُمْ عنه ، فلا محلَّ لها حينئذ من الإِعراب ، وإنما جيء بها لهذه الفائدةِ فأُلقيت كأسماءِ الأعدادِ نحو : واحد اثنان ، وهذا أصحُّ الأقوالِ الثلاثة ، أعني أنَّ في الأسماء التي لم يُقْصَدِ الإِخبارُ عنها ولا بها ثلاثةَ أقوالٍ ، أحدها : ما تقدَّم . والثاني : أنها مُعْرَبَةٌ ، بمعنى أنها صالحة للإِعراب وإنما فات شرطٌ وهو التركيبُ ، وإليه مالَ الزمخشري . والثالث : أنها موقوفةٌ لا معربةٌ ولا مبنيةٌ . أو إنْ قيل : إنها أسماءُ السورِ المفتتحةِ بها ، أو إنها بعضُ أسماءِ الله تعالى حُذِف بعضُها ، وبقي منها هذه الحروفُ دالَّةٌ عليها وهو رأيُ ابن عباس ، كقوله : الميم من عليهم والصاد من صادق فلها حينئذٍ محلُّ إعرابٍ ، ويُحْتَمَلُ الرفعُ والجرُّ/ ، فالرفعُ على أحد وجهين : إمَّا بكونها مبتدأ ، وإمَّا بكونها خبراً كما سيأتي بيانُه مفصَّلاً . والنصب على أحَدِ وجهين أيضاً : إمَّا بإضمار فعلٍ لائقٍ تقديرُه : اقرَؤوا : ألم ، وإمَّا بإسقاطِ حرف القسم كقول الشاعر :

إذا ما الخبزُ تَأْدِمُه بلَحْمٍ *** فذاك أمانةَ الله الثريدُ

يريد : وأمانةِ الله ، وكذلك هذه الحروفُ ، أقسم الله تعالى بها ، وقد ردَّ الزمخشري هذا الوجه بما معناه : أنَّ " القرآن " في { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } [ ص : 1 ] و " القلم " في : { ن وَالْقَلَمِ } [ القلم : 1 ] محلوفٌ بهما لظهور الجرِّ فيهما ، وحينئذ لا يخلو أن تُجْعَلَ الواوُ الداخلةُ عليهما للقسم أو للعطف ، والأول يلزم منه محذورٌ ، وهو الجمع بين قسمين على مُقْسَم ، قال : " وهم يستكرهون ذلك " ، والثاني ممنوعٌ لظهور الجرِّ فيما بعدها ، والفرضُ أنك قدَّرْتَ المعطوفَ عليه في محلِّ نصب . وهو ردٌّ واضح ، إلا أَنْ يقال : هي في محلِّ نصب إلا فيما ظهر فيه الجرُّ بعدَه كالموضعين المتقدمين و { حم وَالْكِتَابِ } [ الزخرف : 1-2 ] و { ق وَالْقُرْآنِ } [ ق : 1 ] ولكن القائل بذلك لم يُفَرِّقْ بين موضعٍ وموضعٍ فالردُّ لازمٌ له .

والجرُّ من وجهٍ واحدٍ وهو أنَّها مُقْسَمٌ بها ، حُذِف حرف القسم ، وبقي عملُه كقولهم : " واللهِ لأفعلنَّ " ، أجاز ذلك أبو القاسم الزمخشري وأبو البقاء . وهذا صعيفٌ لأن ذلك من خصائص الجلالة المعظمة لاَ يَشْرَكُها فيه غيرُها .

فتلخَّص ممَّا تقدم : أن في " الم " ونحوها ستةَ أوجه وهي : أنها لا محلَّ لها من الإِعراب ، أو لها محلٌّ ، وهو الرفعُ بالابتداء أو الخبر ، والنصبُ بإضمارِ فعلٍ أو حَذْفِ حرف القسم ، والجرٌّ بإضمارِ حرفِ القسم .