الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (6)

قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } : الآية ، " إنَّ " حرفُ توكيدٍ ينصب الاسمَ ويرفع الخبرَ خلافاً للكوفيين بأنَّ رفعَه بما كان قبلَ دخولها وتُخَفَّف فتعملُ وتُهْمَلُ ، ويجوز فيها أن تباشِرَ الأفعالَ ، لكن النواسخَ غالباً ، وتختصُّ بدخولِ لامِ الابتداءِ في خبرها أو معمولِه المقدَّمِ أو اسمِها المؤخر ، ولا يتقدَّم خبرُها إلا ظرفاً أو مجروراً ، وتختصُّ أيضاً بالعطفِ على مَحلِّ اسمِها . ولها ولأخواتِها أحكامٌ كثيرة لا يليقُ ذكرُها بهذا الكتابِ .

و { الَّذِينَ كَفَرُواْ } اسمُها ، و " كفروا " صلةٌ وعائدٌ و " لا يؤمنون " خبرُها ، وما بينهما اعتراضٌ ، و " سواءٌ " مبتدأ ، و " أأنذرتهم " وما بعده في قوة التأويل بمفرد/ هو الخبرُ ، والتقدير : سواءٌ عليهم الإِنذارُ وعدمهُ ، ولم يُحْتَجْ هنا إلى رابط لأن الجملة نفسُ المبتدأ . ويجوز أن يكون سواءٌ " خبراً مقدماً ، و " أنذرتهم " بالتأويل المذكور مبتدأٌ مؤخرٌ تقديرُه : الإِنذارُ وعدمُه سواءٌ . وهذه الجملة يجوز فيها أن تكونَ معترضةً بين اسم إنَّ وخبرِها وهو " لا يؤمنون " كما تقدَّم ، ويجوز أن تكونَ هي نفسُها خبراً لإِن ، وجملة " لا يؤمنون " في محلِّ نَصْب على الحال أو مستأنفةٌ ، أو تكونَ دعاءً عليهم بعدم الإِيمانِ وهو بعيدٌ ، أو تكونَ خبراً بعد خبر على رَأْيِ مَنْ يُجَوِّز ذلك ، ويجوز أن يكونَ " سواءٌ " وحده خبرَ إنَّ ، و " أأنذرتَهُم " وما بعده بالتأويل المذكور في محلِّ رفع بأنه فاعلٌ له : والتقديرُ : استوى عندهم الإِنذارُ وعدمُه ، و " لا يؤمنون " على ما تقدَّم من الأوجه ، أعنى الحالَ والاستئناف ، والدعاءَ والخبريةَ .

والهمزةُ في " أأنذرتَهُمْ " الأصلُ فيها الاستفهامُ وهو هنا غيرُ مرادٍ ، إذ المرادُ التسويةُ ، و " أأنْذَرْتَهم " فعل وفاعل ومفعول .

و " أم " هنا عاطفةٌ وتٌُسَمَّى متصلةً ، ولكونها متصلةٌ شرطان ، أحدُهما : أن يتقدَّمها همزةُ استفهامٍ أو تسويةٍ لفظاً أو تقديراً ، والثاني : أن يكونَ ما بعدها مفرداً أو مؤولاً بمفرد كهذه الآية ، فإنَّ الجملةَ فيه بتأويلِ مفردٍ كما تقدَّم وجوابُها أحدُ الشيئين أو الأشياء ، ولا تُجَاب بنَعَمْ ولا ب " لا " . فإنْ فُقِدَ شرطٌ سُمِّيتْ منقطعةً ومنفصلةً . وتُقَدَّر ب بل والهمزةِ ، وجوابُها نعم أَوْلا ، ولها أحكامٌ أُخَرُ .

و " لم " حرفُ جزمٍ معناه نَفْيُ الماضي مطلقاً خلافاً لِمَنْ خَصَّها بالماضي المنقطع ، ويدلُّ على ذلك قولُه تعالى : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } [ مريم : 4 ] { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } [ الإخلاص : 3 ] ، وهذا لا يُتَصَوَّر فيه الانقطاعُ ، وهي من خواصِّ صيغ المضارع إلا أنها تَجْعَلُه ماضياً في المعنى كما تقدَّم ، وهل قَلَبَت اللفظَ دون المعنى ، أم المعنى دونَ اللفظ ؟ قولان أظهرهُما الثاني ، وقد يُحْذَفُ مجزومُها .

والكَفْر : السِّتْر ، ومنه سُمِّي الليل كافراً ، قال :

فَوَرَدَتْ قبلَ انبلاجِ الفجرِ *** وابنُ ذُكَاءٍ كامِنٌ في كَفْرِ

وقال آخر :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** أَلْقَتْ ذُكاءُ يمينَها في كافِر

وقال آخر :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** في ليلةٍ كَفَر النجومَ غَمامُها

و " سواء " اسمٌ بمعنى الاستواء فهو اسمُ مصدرٍ ويُوصف على أنه بمعنى مُسْتوي ، فيتحمَّل حينئذ ضميراً ، ويَرْفع الظاهرَ ، ومنه قولُهم : مررت برجلٍ سواءٍ والعدمُ " برفع " العَدَم " على أنه معطوفٌ على الضمير المستكِّن في " سواء " ، وشذَّ عدمُ الفصل ، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمع : إمَّا لكونِه في الأصل مصدراً ، وإمَّا للاستغناء عن تثنيته بتثنيةِ نظيرهِ وهو " سِيّ " بمعنى مِثْلَ ، تقول : " هما سِيَّان " أي مِثْلان ، قال :

مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يشكُرها *** والشرُّ بالشرِّ عند الله سِيَّانِ

على أنه قد حُكي " سواءان " وقال الشاعر :

وليلٍ تقول الناسُ في ظُلُماته *** سواءٌ صحيحاتُ العيونِ وعُورُها

فسواءٌ خبر عن جمع وهو " صحيحات " . وأصله العَدْل . قال زهير :

أَرُونا سُبَّةً لا عيبَ فيها *** يُسَوِّي بيننا فيها السَّواءُ

أي : يَعْدِل بيننا العَدْلُ ، وليس هو الظرفَ الذي يُستثنى به في قولك : قاموا سَواءَ زيد ، وإنْ شاركه لفظاً . ونقل ابن عطية عن الفارسي فيه اللغاتِ الأربعَ المشهورةَ في " سواء " المستثنى به ، وهذا عجيبٌ فإن هذه اللغاتِ في الظرفِ لا في " سواء " الذي بمعنى الاستواء . وأكثر ما تجيء بعده الجملة المصدَّرة بالهمزةِ المعادَلَة بأم كهذه الآية ، وقد تُحْذَف للدلالةِ كقوله تعالى : { فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } [ الطور : 16 ] أي : أصبرتم أم لم تصبروا ، وقد يليه اسمُ الاستفهام معمولاً لما بعده كقولِ علقمة :

سَواءٌ عليه أيَّ حينٍ أتيتَه *** أساعَة نَحْسٍ تُتَّقى أم بأَسْعَدِ

فأيُّ حين منصوبٌ بأتيتَه ، وقد يُعَرَّى عن الاستفهام وهو الأصلُ نحو :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** سواءٌ صحيحاتُ العيون وعُورُها

والإِنذار : التخويفُ . وقال بعضهم : هو الإِبلاغ ، ولا يكاد يكونُ إلا في تخويف يَسَعُ زمانُه الاحترازَ ، فإنْ لم يَسَعْ زمانُه الاحترازَ فهو إشعارٌ لا إنذارٌ قال :

أنذَرْتُ عَمْرَاً وهو في مَهَل *** قبلَ الصباحِ فقد عصى عَمْرُو

ويتعدَّى لاثنين ، قال تعالى : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً } [ النبأ : 40 ]

{ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } [ فصلت : 13 ] فيكون الثاني في هذه الآية محذوفاً تقديرُه : أأنذرْتَهُمُ العذابَ أم لم تُنْذِرْهم إياه ، والأحسنُ ألاَّ يُقَدَّرَ له مفعولٌ كما تقدَّم في نظائره .

والهمزةُ في " أَنْذَرَ " للتعدية ، وقد تقدَّم أنَّ معنى الاستفهام هنا غيرُ مرادٍ ، فقال ابن عطية : " لفظهُ لفظُ الاستفهامِ ومعناه الخبرُ ، وإنما جَرَى عليه لفظُ الاستفهام لأنَّ فيه التسويةَ التي هي في الاستفهامِ ، ألا ترى أنَّك إذا قلتَ مُخْبراً : " سواءٌ عليَّ أقمت أم قَعَدْتَ " ، وإذا قلتَ مستفهماً : " أَخَرَجَ زيدٌ أم قامَ " ؟ فقد استوى الأمران عندكَ ، هذان في الخبر وهذان في الاستفهام ، وعَدَمُ عِلْمِ أحدِهما بعينِه ، فَلمَّا عَمَّتْهُما التسويةُ جرى على الخبر لفظُ الاستفهامِ لمشاركتِه إياه في الإِبهام ، فكلُّ استفهامٍ تسويةٌ وإنْ لم تكن كلُّ تسويةٍ استفهاماً " وهو كلامٌ حسنٌ .

إلا أنَّ الشيخَ ناقشه في قوله : " أأنْذَرْتَهُم أم لم تنذرْهم لفظُه لفظُ الاستفهام ومعناه الخبر " بما معناه : أنَّ هذا الذي صورتُه صورةُ استفهامٍ ليس معناه الخبرَ لأنه مقدَّرٌ بالمفردِ كما تقدَّم ، وعلى هذا فليس هو وحدَه في معنى الخبر/ لأنَّ الخبرَ جملةٌ وهذا في تأويل مفردٍ ، وهي مناقشةٌ لفظيةٌ .

ورُوِيَ الوقفُ على قولِهِ " أم لم تُنذِرْهم " والابتداء بقوله : " لا يؤمنون " على أنها جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ ، وهذا ينبغي أن يُرَدَّ ولا يُلْتفتَ إليه ، وإنْ كانَ قد نقله الهذلي في " الوقف والابتداء " له .

وقرئ " أَأَنْذَرْتَهُمْ " بتحقيقِ الهمزتين وهي لغةُ بني تميمٍ ، وبتخفيف الثانية بينَ بينَ وهي لغةُ الحجازِ ، وبإدخالِ ألفٍ بين الهمزتين تخفيفاً وتحقيقاً ، ومنه :

أيا ظبيةَ الوَعْساء بين جُلاجِلٍ *** وبين النقا آأنتِ أَمْ أمُّ سالمِ

وقال آخر :

تطَالَلْتُ فاسْتَشْرَفْتُه فَعَرَفْتُهُ *** فقلت له آأنتَ زيدُ الأرانبِ

وروي عن ورش إبدالُ الثانيةِ ألِفاً مَحْضة ، ونسب الزمخشري هذه القراءة للَّحْنِ ، قال : " لأنه يؤدي إلى الجمع بين ساكنين على غير حَدَّهما ، ولأن تخفيفَ مثلِ هذه الهمزةِ إنما هو بينَ بينَ " وهذا منه ليس بصواب لثبوت هذه القراءة تواتراً ، وللقرَّاء في نحو هذه الآية عَمَلٌ كثيرٌ وتفصيلٌ منتشر .