قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } : الآية ، " إنَّ " حرفُ توكيدٍ ينصب الاسمَ ويرفع الخبرَ خلافاً للكوفيين بأنَّ رفعَه بما كان قبلَ دخولها وتُخَفَّف فتعملُ وتُهْمَلُ ، ويجوز فيها أن تباشِرَ الأفعالَ ، لكن النواسخَ غالباً ، وتختصُّ بدخولِ لامِ الابتداءِ في خبرها أو معمولِه المقدَّمِ أو اسمِها المؤخر ، ولا يتقدَّم خبرُها إلا ظرفاً أو مجروراً ، وتختصُّ أيضاً بالعطفِ على مَحلِّ اسمِها . ولها ولأخواتِها أحكامٌ كثيرة لا يليقُ ذكرُها بهذا الكتابِ .
و { الَّذِينَ كَفَرُواْ } اسمُها ، و " كفروا " صلةٌ وعائدٌ و " لا يؤمنون " خبرُها ، وما بينهما اعتراضٌ ، و " سواءٌ " مبتدأ ، و " أأنذرتهم " وما بعده في قوة التأويل بمفرد/ هو الخبرُ ، والتقدير : سواءٌ عليهم الإِنذارُ وعدمهُ ، ولم يُحْتَجْ هنا إلى رابط لأن الجملة نفسُ المبتدأ . ويجوز أن يكون سواءٌ " خبراً مقدماً ، و " أنذرتهم " بالتأويل المذكور مبتدأٌ مؤخرٌ تقديرُه : الإِنذارُ وعدمُه سواءٌ . وهذه الجملة يجوز فيها أن تكونَ معترضةً بين اسم إنَّ وخبرِها وهو " لا يؤمنون " كما تقدَّم ، ويجوز أن تكونَ هي نفسُها خبراً لإِن ، وجملة " لا يؤمنون " في محلِّ نَصْب على الحال أو مستأنفةٌ ، أو تكونَ دعاءً عليهم بعدم الإِيمانِ وهو بعيدٌ ، أو تكونَ خبراً بعد خبر على رَأْيِ مَنْ يُجَوِّز ذلك ، ويجوز أن يكونَ " سواءٌ " وحده خبرَ إنَّ ، و " أأنذرتَهُم " وما بعده بالتأويل المذكور في محلِّ رفع بأنه فاعلٌ له : والتقديرُ : استوى عندهم الإِنذارُ وعدمُه ، و " لا يؤمنون " على ما تقدَّم من الأوجه ، أعنى الحالَ والاستئناف ، والدعاءَ والخبريةَ .
والهمزةُ في " أأنذرتَهُمْ " الأصلُ فيها الاستفهامُ وهو هنا غيرُ مرادٍ ، إذ المرادُ التسويةُ ، و " أأنْذَرْتَهم " فعل وفاعل ومفعول .
و " أم " هنا عاطفةٌ وتٌُسَمَّى متصلةً ، ولكونها متصلةٌ شرطان ، أحدُهما : أن يتقدَّمها همزةُ استفهامٍ أو تسويةٍ لفظاً أو تقديراً ، والثاني : أن يكونَ ما بعدها مفرداً أو مؤولاً بمفرد كهذه الآية ، فإنَّ الجملةَ فيه بتأويلِ مفردٍ كما تقدَّم وجوابُها أحدُ الشيئين أو الأشياء ، ولا تُجَاب بنَعَمْ ولا ب " لا " . فإنْ فُقِدَ شرطٌ سُمِّيتْ منقطعةً ومنفصلةً . وتُقَدَّر ب بل والهمزةِ ، وجوابُها نعم أَوْلا ، ولها أحكامٌ أُخَرُ .
و " لم " حرفُ جزمٍ معناه نَفْيُ الماضي مطلقاً خلافاً لِمَنْ خَصَّها بالماضي المنقطع ، ويدلُّ على ذلك قولُه تعالى : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } [ مريم : 4 ] { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } [ الإخلاص : 3 ] ، وهذا لا يُتَصَوَّر فيه الانقطاعُ ، وهي من خواصِّ صيغ المضارع إلا أنها تَجْعَلُه ماضياً في المعنى كما تقدَّم ، وهل قَلَبَت اللفظَ دون المعنى ، أم المعنى دونَ اللفظ ؟ قولان أظهرهُما الثاني ، وقد يُحْذَفُ مجزومُها .
والكَفْر : السِّتْر ، ومنه سُمِّي الليل كافراً ، قال :
فَوَرَدَتْ قبلَ انبلاجِ الفجرِ *** وابنُ ذُكَاءٍ كامِنٌ في كَفْرِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** أَلْقَتْ ذُكاءُ يمينَها في كافِر
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** في ليلةٍ كَفَر النجومَ غَمامُها
و " سواء " اسمٌ بمعنى الاستواء فهو اسمُ مصدرٍ ويُوصف على أنه بمعنى مُسْتوي ، فيتحمَّل حينئذ ضميراً ، ويَرْفع الظاهرَ ، ومنه قولُهم : مررت برجلٍ سواءٍ والعدمُ " برفع " العَدَم " على أنه معطوفٌ على الضمير المستكِّن في " سواء " ، وشذَّ عدمُ الفصل ، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمع : إمَّا لكونِه في الأصل مصدراً ، وإمَّا للاستغناء عن تثنيته بتثنيةِ نظيرهِ وهو " سِيّ " بمعنى مِثْلَ ، تقول : " هما سِيَّان " أي مِثْلان ، قال :
مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يشكُرها *** والشرُّ بالشرِّ عند الله سِيَّانِ
على أنه قد حُكي " سواءان " وقال الشاعر :
وليلٍ تقول الناسُ في ظُلُماته *** سواءٌ صحيحاتُ العيونِ وعُورُها
فسواءٌ خبر عن جمع وهو " صحيحات " . وأصله العَدْل . قال زهير :
أَرُونا سُبَّةً لا عيبَ فيها *** يُسَوِّي بيننا فيها السَّواءُ
أي : يَعْدِل بيننا العَدْلُ ، وليس هو الظرفَ الذي يُستثنى به في قولك : قاموا سَواءَ زيد ، وإنْ شاركه لفظاً . ونقل ابن عطية عن الفارسي فيه اللغاتِ الأربعَ المشهورةَ في " سواء " المستثنى به ، وهذا عجيبٌ فإن هذه اللغاتِ في الظرفِ لا في " سواء " الذي بمعنى الاستواء . وأكثر ما تجيء بعده الجملة المصدَّرة بالهمزةِ المعادَلَة بأم كهذه الآية ، وقد تُحْذَف للدلالةِ كقوله تعالى : { فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } [ الطور : 16 ] أي : أصبرتم أم لم تصبروا ، وقد يليه اسمُ الاستفهام معمولاً لما بعده كقولِ علقمة :
سَواءٌ عليه أيَّ حينٍ أتيتَه *** أساعَة نَحْسٍ تُتَّقى أم بأَسْعَدِ
فأيُّ حين منصوبٌ بأتيتَه ، وقد يُعَرَّى عن الاستفهام وهو الأصلُ نحو :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** سواءٌ صحيحاتُ العيون وعُورُها
والإِنذار : التخويفُ . وقال بعضهم : هو الإِبلاغ ، ولا يكاد يكونُ إلا في تخويف يَسَعُ زمانُه الاحترازَ ، فإنْ لم يَسَعْ زمانُه الاحترازَ فهو إشعارٌ لا إنذارٌ قال :
أنذَرْتُ عَمْرَاً وهو في مَهَل *** قبلَ الصباحِ فقد عصى عَمْرُو
ويتعدَّى لاثنين ، قال تعالى : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً } [ النبأ : 40 ]
{ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } [ فصلت : 13 ] فيكون الثاني في هذه الآية محذوفاً تقديرُه : أأنذرْتَهُمُ العذابَ أم لم تُنْذِرْهم إياه ، والأحسنُ ألاَّ يُقَدَّرَ له مفعولٌ كما تقدَّم في نظائره .
والهمزةُ في " أَنْذَرَ " للتعدية ، وقد تقدَّم أنَّ معنى الاستفهام هنا غيرُ مرادٍ ، فقال ابن عطية : " لفظهُ لفظُ الاستفهامِ ومعناه الخبرُ ، وإنما جَرَى عليه لفظُ الاستفهام لأنَّ فيه التسويةَ التي هي في الاستفهامِ ، ألا ترى أنَّك إذا قلتَ مُخْبراً : " سواءٌ عليَّ أقمت أم قَعَدْتَ " ، وإذا قلتَ مستفهماً : " أَخَرَجَ زيدٌ أم قامَ " ؟ فقد استوى الأمران عندكَ ، هذان في الخبر وهذان في الاستفهام ، وعَدَمُ عِلْمِ أحدِهما بعينِه ، فَلمَّا عَمَّتْهُما التسويةُ جرى على الخبر لفظُ الاستفهامِ لمشاركتِه إياه في الإِبهام ، فكلُّ استفهامٍ تسويةٌ وإنْ لم تكن كلُّ تسويةٍ استفهاماً " وهو كلامٌ حسنٌ .
إلا أنَّ الشيخَ ناقشه في قوله : " أأنْذَرْتَهُم أم لم تنذرْهم لفظُه لفظُ الاستفهام ومعناه الخبر " بما معناه : أنَّ هذا الذي صورتُه صورةُ استفهامٍ ليس معناه الخبرَ لأنه مقدَّرٌ بالمفردِ كما تقدَّم ، وعلى هذا فليس هو وحدَه في معنى الخبر/ لأنَّ الخبرَ جملةٌ وهذا في تأويل مفردٍ ، وهي مناقشةٌ لفظيةٌ .
ورُوِيَ الوقفُ على قولِهِ " أم لم تُنذِرْهم " والابتداء بقوله : " لا يؤمنون " على أنها جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ ، وهذا ينبغي أن يُرَدَّ ولا يُلْتفتَ إليه ، وإنْ كانَ قد نقله الهذلي في " الوقف والابتداء " له .
وقرئ " أَأَنْذَرْتَهُمْ " بتحقيقِ الهمزتين وهي لغةُ بني تميمٍ ، وبتخفيف الثانية بينَ بينَ وهي لغةُ الحجازِ ، وبإدخالِ ألفٍ بين الهمزتين تخفيفاً وتحقيقاً ، ومنه :
أيا ظبيةَ الوَعْساء بين جُلاجِلٍ *** وبين النقا آأنتِ أَمْ أمُّ سالمِ
تطَالَلْتُ فاسْتَشْرَفْتُه فَعَرَفْتُهُ *** فقلت له آأنتَ زيدُ الأرانبِ
وروي عن ورش إبدالُ الثانيةِ ألِفاً مَحْضة ، ونسب الزمخشري هذه القراءة للَّحْنِ ، قال : " لأنه يؤدي إلى الجمع بين ساكنين على غير حَدَّهما ، ولأن تخفيفَ مثلِ هذه الهمزةِ إنما هو بينَ بينَ " وهذا منه ليس بصواب لثبوت هذه القراءة تواتراً ، وللقرَّاء في نحو هذه الآية عَمَلٌ كثيرٌ وتفصيلٌ منتشر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.