الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰٓ أَبۡصَٰرِهِمۡ غِشَٰوَةٞۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (7)

قوله تعالى : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ } . . الآية { عَلَى قُلُوبِهمْ } : متعلّق بخَتَم ، و " على سمعهم " يَحْتمل عطفه على قلوبهم وهو الظاهر للتصريح بذلك ، أعني نسبةَ الختم إلى السمع في قوله تعالى : { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ } [ الجاثية : 23 ] ويَحْتمل أن يكونَ خبراً مقدماً وما بعده عَطْفٌ عليه ، و " غِشَاوة " مبتدأ ، وجاز الابتداء بها لأن النكرة متى كان خبرها ظرفاً أو حرفَ جر تاماً وقُدِّمَ عليها جاز الابتداء بها ، ويكون تقديمُ الخبر حينئذٍ واجباً لتصحيحه الابتداء بالنكرة ، والآيةُ من هذا القبيل ، وهذا بخلافِ قوله تعالى : { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } [ الأنعام : 2 ] لأن في تلك الآية مُسوِّغاً آخر وَهو الوصفُ ، فعلى الاحتمال الأول يُوقف على " سمعهم " ويُبتدأ بما بعده وهو " وعلى أبصارهم غشاوةٌ " فعلى أبصارهم خبرٌ مقدم وغشاوة مبتدأ مؤخر ، وعلى الاحتمال الثاني يُوقف على " قلوبهم " ، وإنما كُرِّر حرفُ الجر وهو " على " ليفيد التأكيدَ أو ليُشْعِرَ ذلك بتغايرِ الختمين ، وهو أنَّ خَتْم القلوبِ غيرُ خَتْمِ الأسماعِ . وقد فرَّق النحويون بين : " مررت بزيد وعمرو " وبين : " مررت بزيد وبعمرو " ، فقالوا : في الأول هو مرورٌ واحدٌ وفي الثاني هما مروران ، وهو يؤيِّد ما قلته ، إلاَّ أن التعليلَ بالتأكيدِ يَشْمل الإِعرابين ، أعني جَعْلَ " وعلى سَمْعِهم " معطوفاً على قوله " على قلوبهم " وجَعْلَه خبراً مقدماً ، وأمَّا التعليلُ بتغاير الخَتْمين فلا يَجيء إلا على الاحتمالِ الأولِ ، وقد يُقال على الاحتمال الثاني إنَّ تكريرَ الحرفِ يُشْعرُ بتغاير الغِشاوتين ، وهو أنَّ الغِشاوة على السمع غيرُ الغشاوةِ على البصرِ كما تَقَدَّم ذلك في الخَتْمين .

وقُرئ : " غِشاوةً " نصباً ، وفيه ثلاثةُ أوجه ، الأولُ : على إضمار فعلٍ لائق ، أي : وجَعَلَ على أبصارهم غشاوةً ، وقد صُرِّح بهذا العامل في قوله تعالى : { وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [ الجاثية : 23 ] . والثاني : الانتصابُ على إِسقاط حرف الجر ، ويكون " وعلى أبصارهم " معطوفاً على ما قبله ، والتقدير : ختم الله على قلوبهم وعلى سَمْعهم وعلى أبصارهم بغشاوة ، ثم حُذِفَ حرفُ الجر فانتصب ما بعده كقوله :

تَمُرُّون الدِّيارَ ولم تَعُوجوا *** كلامُكُمُ عليَّ إذاً حَرامُ

أي تمرون بالديارِ ، ولكنه غيرُ مقيسٍ . والثالث : أن يكونَ " غِشاوةً " اسماً وُضِع موضع المصدر الملاقي لَخَتم في المعنى ، لأنَّ الخَتْمَ والتَغْشيَة يشتركانِ في معنى السَِّتر ، فكأنه قيل : " وخَتَم تغشيةً " على سبيل التأكيد ، فهو من باب " قَعَدْتُ جلوساً " وتكونُ قلوبُهم وسمعهُم وأبصارُهم مختوماً عليها مُغَشَّاةً .

وقال الفارسي : " قراءةُ الرفع أَوْلى لأنَّ النصبَ : إمَّا أَنْ تَحْمِلَه على خَتَم الظاهرِ فَيَعْرِضُ في ذلك أنّك حُلْتَ بين حرفِ العطف والمعطوفِ بِهِ ، وهذا عِندنا إنما يجوزُ في الشعر ، وإمَّا أن تحمِلَه على فِعْلٍ يَدُلُّ عليه " خَتَم " تقديره : وجَعَلَ على أبصارهم غشاوةً ، فيجيء الكلامُ من باب :

يا ليتَ زَوجَكَ قد غَدَا *** متقلِّداً سيفاً ورُمْحا

وقوله :

عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً *** حتى شَتَتْ هَمَّالةً عَيْناها

ولا تكاد تجدُ هذا الاستعمالَ في حالِ سَعَةٍ ولا اختيار " . واستشكل بعضهم هذه العبارةَ ، وقال : " لا أَدْري ما معنى قوله : " لأن النصبَ إمَّا أن تحمله على خَتَم الظاهر " ، وكيف تَحْمِل " غشاوةً " المنصوبَ على " ختم " الذي هو فعل وهذا ما لا حَمْلَ فيه ؟ " . ثم قال : " اللهم إلا أن يكونَ أراد أنَّ قوله تعالى { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ } دعاءٌ عليهم لا خبرٌ ، ويكون غشاوةً في معنى المصدر المَدْعُوِّ به عليهم القائم مقامَ الفعلِ فكأنه قيل : وغَشَّى الله على أبصارهم ، فيكون إذ ذاك معطوفاً على " خَتَم " عَطْفَ المصدر النائبِ منابَ فعلِهِ في الدعاء ، نحو : " رَحِمَ الله زيداً وسقياً له " ، فتكونُ إذ ذاكَ قد حُلْتَ بين " غشاوة " المعطوفِ وبين " ختم " المعطوفِ عليه بالجار والمجرور " انتهى ، وهو تأويلٌ حسنٌ ، إلا أن فيه مناقشةً لفظيةً ، لأن الفارسي ما ادَّعى الفصلَ بين المعطوف والمعطوفِ عليه إنما ادَّعى الفصلَ بين حرف العطف والمعطوف به أي بالحرفِ ، فتحرير التأويلِ أنْ يقال : فيكونُ قد حُلْتَ بين غشاوة وبين حرفِ العطفِ بالجارِّ والمجرور .

وقُرئ " غشاوة " بفتح العين وضَمِّها ، و " عشاوة " بالمهملة . وأصوبُ القراءاتِ المشهورةُ ، لأن الأشياءَ التي تَدُلُّ على الاشتمالِ تجيء أبداً على هذه الزنة كالعِمامة/ والضِمامة والعِصابة .

والخَتْمُ لغةً : الوَسْمُ بطابع وغيره و " القلبُ " أصله المصدرُ فسُمُّي به هذا العضوُ ، وهو اللَّحْمة الصَّنَوْبَرِيَّة لسُرعة الخواطِر إليه وتردُّدِها ، عليه ، ولهذا قال :

ما سُمِّي القلبُ إلاَّ مِنْ تقلُّبِه *** فاحذَرْ على القَلْبِ من قَلْبٍ وتَحْويلِ

ولمَّا سُمِّي به هذا العضو التزموا تفخيمه فَرْقاً بينه وبين أصلِه ، وكثيراً ما يراد به العقلُ ، ويُطلق أيضاً على لُبِّ كلِّ شيء وخالِصِه .

والسَّمعُ والسَّماعُ مصدران لسَمِع ، وقد يستعمل بمعنى الاستماع ، قال :

وقد تَوَجَّس رِكْزاً مُقْفِرٌ نَدُسٌ *** بِنَبْأةِ الصوتِ ما في سَمْعِهِ كَذِبُ

أي في استماعه ، والسِّمْع - بالكسر - الذِّكْرُ الجميل ، وهو أيضاً وَلَدُ الذئب من الضبُعِ ، وَوُحِّد وإن كان المرادُ به الجَمْعَ كالذين قبله وبعده لأنه مصدرٌ حقيقةً ، ولأنه على حذفِ مضافٍ ، أي مواضعِ سَمْعِهم ، أو يكونُ كَنَى به عن الأذن ، وإنما وَحَّدَه لِفَهْمِ المعنى كقوله :

كُلُوا في بعض بَطْنِكُم تَعِفُّوا *** فإنَّ زمانَكمْ زَمَنٌ خَمِيصُ

أي : بطونكم ، وَمثلُه :

لها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها *** فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فصليبُ

أي : جلودها ، ومثله :

لا تُنْكِروا القَتْلَ وقد سُبينا *** في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شُجِينا

وقُرِئَ شاذاً " على أسماعِهم " وهي تؤيِّد هذا .

والأَبْصار : جمعُ بَصَر وهو نور العين التي تُدْرِكُ بِه المرئيَّاتِ ، قالوا : وليس بمصدر لجَمْعِه ، ولقائلٍ أن يقولَ : جَمْعُه لا يَمْنع كونه مصدراً في الأصل ، وإنما سَهَّل جَمْعَه كونُه سُمِّي به نُور العين فَهُجِرَت فيه معنى المصدرية كما تقدَّم في قلوب جمع قَلْب ، وقد قلتم إنه في الأصل مصدرٌ ثم سُمِّي به ، ويجوز أن يُكَنْى به عن العين كما كُنِي بالسمع عنى الأذنِ وإن كان السمعُ في الأصلِ مصدراً كما تقدَّم .

والغِشاوى الغِطَاءُ ، قال :

تَبِعْتُك إذ عَيْني عليها غِشاوةٌ *** فلمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نفسي أَلومُها

وقال :

هَلاَّ سألْتِ بني ذُبْيان ما حَسْبي *** إذا الدُّخانُ تَغَشَّى الأشْمَطَ البَرِمَا

وجَمْعُها غِشَاءٌ ، لمَّا حُذِفَتِ الهاءُ قُلِبَتِ الواوُ همزةٍ ، وقيل : غَشَاوى مثل أَداوى ، قال الفارسي : " ولم أَسمع من الغِشاوة متصرفاً بالواو ، وإذا لم يوجَدْ ذلك وكان معناها معنى ما اللامُ منه الياءُ وهو غَشِي يَغْشَى بدليلِ قولِهم : الغِشْيان ، والغِشاوة من غَشِيَ كالجِباوَة من جَبَيْت في أنَّ الواو كأنها بدلٌ من الياء ، إذ لم يُصَرَّفْ منه فِعْلٌ كما لم يُصَرَّفْ من الجباوة " انتهى . وظاهر عبارتِه أن الواو بدلٌ من الياء ، فالياء أصل بدليلِ تصرُّف الفعلِ منها دون مادة الواو ، والذي يظهرُ أنَّ لهذا المعنى مادتين : غ ش و ، و غ ش ي ، ثم تصرَّفوا في إحدى المادتين واستغْنَوا بذلك عن التصرُّف في المادة الأخرى ، وهذا أقربُ من ادِّعاء قَلْبِ الواو ياءً من غير سببٍ ، وأيضاً فالياءُ أخفُّ من الواو فكيف يَقْلِبون الأخفَّ للأثقل ؟

{ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } : " لهم " خبرٌ مقدَّمٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، و " عذابٌ " مبتدأ مؤخر ، و " عظيمٌ " صفته ، والخبرُ هنا جائزُ التقدُّم ، لأنَّ للمبتدأ مُسَوِّغاً وهو وصفُه ، فهو نظير : { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } [ الأنعام : 2 ] من حيث الجوازُ .

والعَذابُ في الأصل : الاستمرارُ ثم سُمِّيَ به كلُّ استمرارِ ألمٍ ، وقيل : أصلُه المنعُ ، وهذا هو الظاهرُ ، ومنه قيل للماء : عَذْب ، لأنه يمنع العطشَ ، والعذابُ يمنع من الجريمة . و " عظيمٌ " اسمُ فاعلٍ من عَظُم ، نحو : كَريم من كَرُم غيرَ مذهوبٍ به مذهبَ الزمان ، وأصله أن تُوصف به الأجرامُ ، ثم قد توصفُ به المعاني ، وهل هو والكبيرُ بمعنى واحد أو هو فَوْقَ الكبيرِ ، لأنَّ العظيمَ يقابِلُ الحقيرَ ، والكبيرَ يقابل الصغيرَ ، والحقيرَ دونَ الصغيرِ ؟ قولان .

وفعيل له معانٍ كثيرةٌ ، يكون اسماً وصفةً ، والاسمُ مفردٌ وجمعٌ ، والمفردُ اسمُ معنى واسمُ عينٍ ، نحو قميص وظريف وصهيل وكلِيب جمع كَلْب ، والصفةُ مفردُ فُعَلَة كعَرِيّ يجمع على عُرَاة ، ومفرد فَعَلة كَسِريٍّ يُجْمَعُ على سَراة ، ويكون اسمَ فاعل من فَعُل نحو : عظيم مِنَ عظمُ كما تقدم ، ومبالغةً في فاعِل نحو : عليم من عالم ، وبمعنى أَفْعل كشَمِيط بمعنى أَشْمط ومفعول كجِريح بمعنى مَجْروح ، ومُفْعِل كسميع بمعنى مُسْمِع ، ومُفْعَل كوليد بمعنى مُولَد ، ومُفاعِل كجليس بمعنى مُجالِس ، ومُفْتَعِل كبديع بمعنى مُبْتدِع ، ومُتَفَعِّل كسَعِير بمعنى مُتَسَعِّر ، ومُسْتَفْعِل كمكين بمعنى مُسْتَمْكِن ، وفَعْل كرطيب بمعنى رَطِب ، وفَعَل كعَجِيب بمعنى عَجَب ، وفِعال كصحيح بمعنى صِحاح ، وبمعنى الفاعلِ والمفعول كصريخ بمعنى صارخ أو مصروخ ، وبمعنى الواحد والجَمْعِ نحو خليط ، وجمع فاعِل كغريب جمع غارِب .