الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ} (10)

قولُه تعالى : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } : الآية . الجارُّ والمجرورُ خبرٌ مقدمٌ واجبُ التقديمِ لِما تَقَدَّم ذِكْرُه في قوله : { وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [ البقرة : 7 ] . والمشهورُ تحريك الراءِ مِنْ " مَرَض " ، ورَوى الأصمعي عن أبي عمرو سكونَها ، وهما لغتان في مصدر مَرِضَ يَمْرَض . والمرضُ : الفتورُ ، وقيل : الفساد ، ويُطلق على الظلمة ، وانشدوا :

في ليلةٍ مَرِضَتْ من كلِّ ناحيةٍ *** فما يُحَسُّ بها نَجمٌ ولا قَمَرُ

أي لظلمتها ، ويجوزُ أن يكونَ أراد بمَرِضَتْ فَسَدت ، ثم بيَّن جهةَ الفسادِ بالظلمةِ .

وقوله : { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً } : هذه جملةٌ فعليةٌ معطوفةٌ على الجملةِ الاسميةِ قبلها ، مُتَسَبِّبَةٌ عنها ، بمعنى أنَّ سبب الزيادة حصولُ المرضِ في قلوبهم ، إذ المرادُ بالمرض هنا الغِلُّ والحَسَد/ لظهور دين الله تعالى . و " زاد " يستعمل لازماً ومتعدياً لاثنين ثانيهما غيرُ الأول كأعطى وكسا ، فيجوز حذفُ معمولَيْه وأحدِهما اختصاراً واقتصاراً ، تقول : زاد المال ، فهذا لازمٌ ، وزِدْتُ زيداً خيراً ، ومنه { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [ الكهف : 13 ] ، { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً } " وزدتُ زيداً " ولا تذكر ما زِدْتَه ، وزدْتُ مالاً ، ولا تذكر مَنْ زِدْتَه وألفُ " زاد " منقلبةٌ عن ياء لقولهم : يزيدُ .

{ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } نظير قوله تعالى : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [ البقرة : 7 ] وقد تقدَّم . وأليم هنا بمعنى مُؤْلِم ، كقوله :

ونَرْفَعُ مِنْ صدورِ شَمَرْدَلاتٍ *** يَصُكُّ وجوهَها وَهَجٌ أليمُ

ويُجمع على فُعَلاء كشريف وشُرَفَاء ، وأَفْعال مثل : شريف وأَشْراف ، ويجوزُ أن يكونَ فعيل هنا للمبالغة مُحَوَّلاً من فَعِلَ بكسرِ العين ، وعلى هذا يكون نسبةُ الألم إلى العذاب مجازاً ، لأن الألم حَلَّ بمَنْ وَقَعَ به العذابُ لا بالعذاب ، فهو نظيرُ قولهم : شِعْرٌ شاعِرٌ .

و { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } متعلِّقٌ بالاستقرارِ المقدَّرِ في " لهم " أي : استقر لهم عذابٌ أليم بسبب تكذيبهم . و " ما " يجوزُ أَنْ تَكونَ مصدريةً أي بكونِهم يكذبون وهذا على القول بأنَّ ل " كان " مصدراً ، وهو الصحيحُ عند بعضهم للتصريحِ به في قول الشاعر :

بِبَذْلٍ وحِلْمٍ ساد في قومه الفتى *** وكونُك إياه عليكَ يَسيرُ

فقد صرَّح بالكون . ولا جائزٌ أن يكونَ مصدَر كان التامةِ لنصبِه [ الخبر ] بعدها ، وهو : " إياه " ، على أن للنظر في هذا البيتِ مجالاً ليسَ هذا موضعَه . وعلى القول بأن لها مصدراً لا يجوز التصريحُ به معها ، لا تقول : " كان زيد قائماً كوناً " ، قالوا : لأن الخبرَ كالعوضِ من المصدر ، ولا يُجْمع بين العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه ، وحينئذٍ فلا حاجةَ إلى ضميرٍ عائدٍ على " ما " لأنها حرفٌ مصدريٌّ على الصحيح خلافاً للأخفش وابنِ السراجِ في جَعْلِ المصدريَّة اسماً . ويجوز أن تكونَ " ما " بمعنى الذي ، وحينئذ فلا بدَّ من تقديرِ عائدٍ أي : بالذي كانوا يكذِّبونه ، وجاز حَذْفُ العائدِ لاستكمالِ الشروط ، وهو كونُه منصوباً متصلاً بفعل ، وليس ثَمَّ عائدٌ آخرُ .

وزعم أبو البقاء أنَّ كونَ ما موصولةً اسمية هو الأظهرُ ، قال : " لأن الهاء المقدرةَ عائدةٌ على " الذي " لا على المصدرِ " وهذا الذي قاله غيرُ لازمٍ ، إذ لقائلٍ أن يقولَ : لا نُسَلِّم أنه لا بدَّ من هاءٍ مقدرة ، حتى يلزمَ جَعْلُ " ما " اسميةً ، بل مَنْ قرأ " يَكْذِبون " مخففاً فهو عنده غيرُ متعَدٍّ لمفعولٍ ، ومَنْ قرأه مشدَّداً فالمفعولُ محذوفٌ لِفَهْم المعنى أي : بما كانُوا يُكَذِّبون الرسولَ والقرآنَ ، أو يكون المشددُ بمعنى المخَفَّف . وقرأ الكوفيون : " يَكْذِبون " بالفتح والتخفيفِ ، والباقون بالضمِّ والتشديدِ .

ويُكَذِّبون مضارع كَذَّب بالتشديد ، وله معانٍ كثيرة : الرَّمْيُ بكذا ، ومنه الآيةُ الكريمةُ ، والتعديةُ نحو : فَرَّحْتُ زيداً ، والتكثير نحو : قَطَّعْتُ الأثواب ، والجَعْلُ على صفة نحو : قطَّرْتُه أي : جعلته مُقَطَّرا ، ومنه :

قد عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها *** مَا قَطَّر الفارسَ إلا أنا

والتسميةُ نحو : فَسَّقْتُه أي سَمَّيْتُه فاسقاً ، والدعاءُ له نحو : سَقَّيْتُه أي : قلت له : سَقاك الله ، أو الدعاءُ عليه نحو : عَقَّرْته ، أي : قلت له : عَقْراً لك ، والإِقامة على شيء نحو : مَرَّضْتُه ، والإِزالة نحو : قَذَّيْتُ عينَه أي أزلْتُ قَذاها ، والتوجُّه نحو : شَرَّق وغَرَّب ، أي : تَوَجَّه نحو الشرق والغرب ، واختصارُ الحكاية نحو : أَمَّن قال : آمين ، وموافقة تَفَعَّل وفَعَل مخففَّاً نحو : ولَّى بمعنى تَوَلَّى ، وقَدَّر بمعنى قَدَر ، والإِغناء عن تَفَعَّل وفَعَل مخففاً نحو : حَمَّر أي تكلَّم بلغة حميرٍ ، قالوا : " مَنْ دَخَلَ ظَفارِ حَمَّر " وعَرَّد في القتال هو بمعنى عَرِد مخففاً ، وإن لم يُلْفَظْ به .

و " الكذب " اختلف الناسُ فيه ، فقائلٌ : هو الإِخبار عن الشيء بغيرِ ما هو عليه ذهناً وخارجاً ، وقيل : بغير ما هو عليهِ في الخارجِ سواءً وافق اعتقادَ المتكلم أم لا . وقيل : الإِخبارُ عنه بغيرِ اعتقادِ المتكلِّم سَواءً وافق ما في الخارج أم لا ، والصدقُ نقيضُه ، وليس هذا موضعَ ترجيحٍ .