الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (15)

قولُه تعالى : { اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } : " اللهُ " رفعٌ بالابتداء و " يَسْتَهْزىء " جملةٌ فعليةٌ في محلِّ خبرِه ، و " بهم " متعلقٌ به ، ولا محلَّ لهذه الجملة لاستئنافِها ، " وَيَمُدُّهم " في محلِّ رفع أيضاً لعطفِه على الخبر وهو يستهزىء ، و " يَعْمَهُوْن " في محلِّ الحالِ مِن المفعولِ في " يَمُدُّهم " أو من الضميرِ في " طغيانهم " وجاءت الحالُ من المضافِ إليه لأنَّ المضاف مصدرٌ . و " في طغيانهم " يَحتمُل أن يتعلَّقَ بيَمُدُّهم أَو بيَعْمَهون ، وقُدِّم عليه ، إلا إذا جُعِل " يَعْمَهون " حالاً من الضميرِ في " طُغْيانهم " فلا يتعلَّق به حينئذ لفسادِ المعنى .

وقد مَنَع أبو البقاء أن يكونَ " في طُغيانهم " و " يَعْمَهون " حالَيْن من الضميرِ في " يَمُدُّهُمْ " ، مُعَلِّلاً ذلك بأنَّ العاملَ الواحدَ لا يعملُ في حالين ، وهذا على رأي مَنْ مَنَعَ مِنْ ذلك ، وأمَّا مَنْ يُجيزُ تعدُّدَ الحالِ مع عدمِ تعدُّدِ صاحبِها فيُجيز ذلك ؛ إلاَّ أنَّه في هذه الآية ينبغي أن يَمْنَعَ ذلك لا لِما ذكره أبو البقاء ، بل لأنَّ المعنى يأبى جَعْلَ هذا الجارُّ والمجرورِ حالاً ، إذ المعنى مُنْصَبٌّ على أنه متعلِّقٌ بأحدِ الفعلينِ ، أعني يَمُدُّهُمْ أو يَعْمَهُونَ ، لا بمحذوفٍ على أنه حالٌ .

والمشهورُ فتحُ الياءِ من " يَمُدُّهم " ، وقُرئ شاذاً بِضمِّها ، فقيل : الثلاثي والرباعي بِمعنى واحدٍ ، تقول : مَدَّة وأَمَدَّه بكذا ، وقيل : مَدَّه إذا زاده من جنسه ، وأَمَدَّه إذا زادَه من غير جنسِه ، وقيل : مَدَّه في الشرِّ ، كقوله تعالى :

{ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً } [ مريم : 79 ] ، وَأَمَدَّه في الخير ، كقوله :

{ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } [ نوح : 12 ] ، { وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ }

[ الطور : 22 ] ، { أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ } [ آل عمران : 124 ] ، إلا أنَّه يُعَكِّر على هذين الفرقين أنه قرئ : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ }

[ الأعراف : 202 ] باللغتين ، ويمكن أن يُجَاب عنه بما ذكره الفارسي في

توجيهِ ضَمِّ الياء أنه بمنزلةِ قولِهِ تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ } [ آل عمران : 21 ] { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [ الليل : 10 ] ، يعني أبو علي رحمه الله تعالى بذلك أنه على سبيل التهكم .

وقال الزمخشري : " فإنْ قُلْتَ : لِمَ زعمت أنه من المَدَدِ دون المَدِّ في العُمْرِ والإِملاءِ والإِمهالِ ؟ قلت : كفاك دليلاً على ذلك قراءةُ ابنِ كثير وابنِ محيصن : " ويُمِدُّهم " وقراءةُ نافعِ " " وإخوانُهم يُمِدُّونهم " على أنَّ الذي بمعنى أمهله إنما هو " مَدَّ له " باللام كأَمْلى له " .

والاستهزاءُ لغةً : السُّخْرِيةُ واللعبُ : يقال : هَزِئَ به ، واستَهْزَأَ قال :

قد هَزِئَتْ مني أمُّ طَيْسَلَهْ *** قالَتْ : أراه مُعْدِماً لا مالَ لَهْ

وقيل : أصلُه الانتقامُ ، وأنشدَ :

قد استهْزَؤوا منا بألفَيْ مُدَجَّجٍ *** سَراتُهُمُ وَسْطَ الصَّحاصِحِ جُثَّمُ

فعلى هذا القولِ الثاني نسبةُ الاستهزاءِ إليه تعالى على ظاهِرها ، وأمَّا على القولِ الأولِ فلا بُدَّ من تأويل ذلك .

فقيل : المعنى يُجازيهم على استهزائهم ، فَسَمَّى العقوبةَ باسم الذنبِ/ ليزدوجَ الكلامُ ، ومنه : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ،

{ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] . وقال عمرو ابن كلثوم :

ألا لا يَجْهَلَنْ أَحدٌ علينا *** فَنَجْهَلَ فوقَ جَهْلِ الجاهِلينا

وأصلُ المَدَدِ : الزيادةُ . والطغيانُ : مصدر طَغَى يَطْغَى طِغْياناً وطُغْياناً بكسر الطاء وضمِّها ، ولامُ طغى قيل : ياءٌ وقيل : واو ، يقال : طَغيْتُ وطغَوْتُ ، وأصلُ المادة مجاوَزَةُ الحَدِّ ومنه : طَغَى الماءُ . والعَمَهُ : التردُّدُ والتحيُّرُ ، وهو قريبٌ من العَمَى ، إلا أن بينهما عموماً وخصوصاً ، لأن العَمَى يُطلق على ذهاب ضوء العين وعلى الخطأ في الرأي ، والعَمَهُ لا يُطلق إلا على الخطأ في الرأي ، يقال : عَمِهَ يَعْمَهُ عَمَهاً وَعَمَهاناً فهو عَمِهٌ وعامِهٌ .