الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلِكُلّٖ وِجۡهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَاۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ أَيۡنَ مَا تَكُونُواْ يَأۡتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (148)

قوله تعالى : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ } : جمهورُ القراء على تنوين " كل " ، وتنوينُه للعوض من المضافِ إليه ، والجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ ، و " وِجْهَةٌ " مبتدأُ مؤخرٌ ، واختُلِفَ في المضافِ إليه " كل " المحذوفِ فقيل : تقديرُه : ولكلِّ طائفةٍ من أهل الأديان ، وقيل : ولكلِّ أهلِ موضعٍ من المسلمين وِجْهَتُه إلى جهة الكعبة يميناً وشمالاً ووراءُ وقُدَّامُ . وفي " وِجْهَة " قولان ، أحدُهما - ويُعْزَى للمبرِّد والفارسي والمازني في أحدِ قولَيْه - : أنّها اسمُ المكانِ المتوجَّه إليه ، وعلى هذا يكونُ إثباتُ الواوِ قياساً إذ هي غيرُ مصدرٍ . قال سيبويه " ولو بَنَيْتَ فعْلَةَ من الوَعْد لقلتَ : وِعْدَة ، ولو بَنَيْتَ مصدراً لقلْتَ : عِدَة ، والثاني : أنها مصدرٌ ، ويُعْزى للمازني ، وهو ظاهرٌ كلام سيبويه ، فإنه قال بعد ذِكْر حَذْفِ الواو من المصادر : " وقد أثبتوا فقالوا : وِجْهَة في الجِهة " ، وعلَى هذا يكونُ إثباتُ الواوِ شاذاً مَنْبَهَةً على ذلك الأصلِ المتروكِ في عِدَة ونحوِها ، والظاهرُ أَنَّ الذي سَوَّغَ إثباتَ الواوِ وإنْ كانَتْ مصدراً أنها مصدرٌ جاءَتْ على حَذْفِ الزوائدِ ؛ إذ الفعلُ المسموعُ من هذه المادةِ تَوَجَّه واتَّجَهَ ، ومصدرُهما التوجُّه والاتِّجاه ، ولم يُسْمَعْ في فِعْلِه : وَجَهَ يَجِهُ كَوَعَدَ يَعِدُ ، وكانَ الموجِبَ لحَذْفِ الواوِ من عِدَة وزِنَة الحملَ على المضارعِ لوقوعِ الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ ، وهنا فلم يُسْمَعْ فيه مضارعٌ يُحْمَلُ مصدرُه عليه فلذلك قلت : إنَّ " وِجْهَة " مصدرٌ على حَذْفِ الزوائدِ لَتَوَجَّه أو اتَّجَه . وقد ألَمَّ أبو البقاء بشيءً من هذا .

قوله : { هُوَ مُوَلِّيهَا } جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ رفعٍ لأنَّها صفةٌ لوِجْهَة ، واختُلِف في " هو " على قولين ، أحدَهما : أنه يعودُ على لفظِ " كل " / لا على معناها ولذلك أُفْرِدَ ، والمفعول الثاني محذوف لفهمِ المعنى تقديرُه هو مُوَلِّيها وَجْهَه أو نفسَه ، ويؤيد هذا قراءةُ ابن عامر : " مُوَلاَّها " على ما لم يُسَمَّ فاعلُه كما سيأتي . والثاني : أنه يعودُ على اللهِ تعالى أي : الله مُوَلِّي القبلةِ إياه ، أي ذلك الفريقُ .

وقرأ الجمهورُ : " مُوَلِّيها " على اسمُ فاعل ، وقد تقدَّم أنه حُذِفَ أحدُ مفعولَيْه ، وقرأ ابن عامر - ويُعْزَى لابن عباس - مُوَلاَّها على اسمِ المفعول ، وفيه ضميرٌ مرفوعٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ ، والثاني هو الضميرُ المتصلُ به وهو " ها " العائدُ على الوجهة ، وقيل : على التوليةِ ذكره أبو البقاء ، وعلى هذه القراءةِ بتعيَّن عَوْدُ " هو " إلى الفريق ، إذ يَسْتَحِيلُ في المعنى عَوْدُه على الله تعالى ، وقرأ بعضُهم : " ولكلِّ وِجْهَةٍ " " بالإِضافة ، ويُعزى لابنِ عامر ، واختلفوا فيها على ثلاثةِ أقوالٍ أحدُها : - وهو قولُ الطبري - : أنها خطأ وهذا ليس بشيء ، إذ الإِقدامُ على تخطئة ما ثَبَتَ عن الأئمةِ لا يَسْهُلُ .

والثاني - وهو قولُ الزمخشري وأبي البقاء : أنَّ اللامَ زائدةٌ في الأصلِ ، قال الزمخشري : " المعنى وكلَّ وجهةٍ اللهُ مُولِّيها ، فزيدتِ اللامُ لتقدُّمَ المفعولِ ، كقولِك : لزيدٍ ضَرَبْتُ ، ولزيدٍ أبوه ضاربه .

قال الشيخ : وهذا فاسدٌ لأنَّ العاملَ إذا تعدَّى لضمير الاسم لم يتعدَّ إلى ظاهرِه المجرورِ باللام لا تقولُ : لزيدٍ ضَرَبْتُه ، ولا : لزيدٍ أنا ضَاربُه ، لئلا يلزَم أحدُ محذورَيْن ، وهما : إمَّا لأنه يكونُ العاملُ قوياً ضعيفاً ، وذلك أنه من حيث تَعَدَّى للضمير بنفسِه يكون قوياً ومن حيث تَعَدَّى للظاهرِ باللامِ يكون ضعيفاً ، وإمَّا لأنَّه يَصير المتعدِّي لواحدٍ متعدِّياً لاثنينِ ، ولذلك تَأَوَّلَ النَّحْويون ما يُوهِمُ ذلك وهو قولُه :

هذا سُراقَةُ للقرآنِ يَدْرُسُه *** والمرءُ عند الرُّشا إنْ يَلْقَهَا ذِيْبُ

على أنَّ الضميرَ في " يدرسه " للمصدرِ ، أي : يدرس الدرسَ لا للقرآن ، لأن الفعلَ قد تعدَّى إليه . وأمَّا تمثيلُه بقوله : " لزيدٍ ضَرَبْتُ " فليس نظيرَ الآية لأنه لم يَتَعَدَّ في هذا المثال إلى ضميره ، ولا يجوز أن تكونَ المسألةُ من باب الاشتغال ، فتقدِّرَ عاملاً في " لكلِّ وِجْهةٍ " يفسِّره " مُولِّيها " لأنَّ الاسمَ المشتغِلَ عنه إذا كان ضميره مجروراً بحرفٍ ينتصبُ ذلك الاسم بفعل يوافِقُ العاملَ الظاهرَ في المعنى ، ولا يجوزُ جَرُّ المشتغلِ عنه بحرفٍ ، تقول : زيداً مررت به أي : لابست زيداً مررتُ به ، ولا يجوزُ : لزيدٍ مررتُ به ، قال تعالى : { وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ } [ الإنسان : 31 ] وقال :

772 - أثعلبَةَ الفوارسٍ أم رياحا *** عَدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشابا

فأتى بالمشتغَلِ عنه منصوباً ، وأمَّا تمثيلُه بقولِه : لزيدٍ أبوه ضاربُه فتركيبٌ غيرُ عربي .

الثالث : أن " لكلَّ وجهةٍ " متعلِّقٌ بقوله : " فاستبقوا الخيراتِ " أي : فاستبقوا الخيراتِ لكلِّ وجهةٍ ، وإنما قُدِّم على العاملِ للاهتمامِ به ، كما يُقَدَّمُ المفعولُ ، ذكرَه ابنُ عطية ، ولا يجوزُ أَنْ تُوَجَّه هذه القراءةُ على أنَّ " لكلِّ وجهةٍ " في موضعِ المفعولِ الثاني لمولِّيها ، والمفعولُ الأولُ هو المضافُ إليه اسمُ الفاعل الذي هو " مُوَلٍّ " وهو " ها " ، وتكون عائدةً على الطوائفِ ، ويكونُ التقديرُ : وكلَّ وجهةٍ اللهُ مُوَلِّي الطوائفِ أصحابِ القِبْلاتِ ، وزيدتْ اللامُ في المفعولِ لتقدُّمه ويكونُ العامِلُ فرعاً ؛ لأنَّ النَحْويين نَصُّوا على أنه لا يجوزُ زيادةُ اللامِ للتقويةِ إلا في المتعدي لواحد فقط ، و " مُوَلٍّ " مِمَّا يتعدَّى لاثنين ، فامتنع ذلك فيه . وهذا المانعُ هو الذي مَنَعَ من الجوابِ عن الزمخشري فيما اعترَضَ به عليه الشيخُ من كونِ الفعلِ إذا تعدَّى للظاهرِ فلا يتعدَّى لضميرِه ، وهو أنه كان يمكن أن يُجابَ عنه بأَنَّ الضميرَ المتصل ب " مُوَلّ " ليس بضميرِ المفعولِ بل ضميرُ المصدرِ وهو التوليةُ ، ويكون المفعولُ الأولُ محذوفاً ، والتقدير : اللهُ " مُولِّي التوليةِ كلَّ وجهةٍ أصحابَها ، فلما قُدِّمَ المفعولُ على العاملِ قَوِي باللامِ لولا أنهم نَصُّوا على المنعِ مِنْ زيادتِها في المتعدِّي لاثنينِ وثلاثة .

قوله : { فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ } " الخيرات " منصوبةٌ على اسقاطِ حرفِ الجرِّ ، التقديرُ : إلى الخيرات ، كقول الراعي :

ثنائي عليكم آلَ حربٍ ومَنْ يَمِلْ *** سِواكمْ فإني مُهْتَدٍ غيرُ مائِلِ

أي : إلى سواكم ، وذلك لأنّ " استبق " : إمّا بمعنى سَبَق المجردِ أو بمعنى تسابق ، لا جائز أن يكونَ بمعنى سَبَقَ لأنَّ المعنى ليس على اسبقوا الخيراتِ ، فبقي أن يكون بمعنى تسابقَ ولا يتعدَّى بنفسِه .

والخَيْرَات جمع : خَيْرة وفيهما احتمالان : أحدُهما : أن تكونَ مخففةً من " خَيِّرَة " بالتشديدِ بوزنِ فَيْعِلَة نحو : مَيْت في مَيّت . والثاني : أن تكونَ غيرَ مخففةٍ ، بل تَثْبُتُ على فَعْلَة بوزن جَفْنَة ، يقال : رجلٌ خَيْرٌ وامرأةٌ خيرٌ ، وعلى كِلا التقديرين فليسا للتفضيل . والسَّبْقُ : الوصولُ إلى الشيءِ أولاً ، وأصلُه التقدُّمُ في السير ، ثم تُجُوِّزَ به في كلِّ تقدُّم .

قوله : { أَيْنَ مَا تَكُونُواْ } " أين " اسمُ شرطٍ تَجْزِمُ فعلين كإنْ و " ما " مزيدةٌ عليها على سبيلِ الجواز ، وهي ظرفُ مكانٍ ، وهي هنا في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ ، وتقديمُها واجبٌ لتضمُّنها معنى ماله صدرُ الكلامِ ، و " تكونوا " مجزومٌ بها على الشرطِ ، وهو الناصبُ لها ، و " يأتِ " جوابُها ، وتكونُ أيضاً استفهاماً فلا تعملُ شيئاً ، وهي مبنيةٌ على الفتحِ لتضمُّن معنى حرفِ الشرطِ أو الاستفهام .