وقولُه تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ } : إلى قوله : " كَمَثَلِ حَبة " كقوله : { مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ . . . كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ } [ البقرة : 261 ] في جميعِ التقاديرِ فليُراجَعْ . وقرأ الجحدريَّ " كمثلِ حبةٍ " بالحاءِ المهملة والباءِ .
قوله : { ابْتِغَآءَ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مفعولٌ من أجلِه ، وشروطُ النصبِ متوفرةٌ . والثاني : أنه حالٌ ، و " تثبيتاً " عطفٌ عليه بالاعتبارين : أي لأجلِ الابتغاء والتثبيتِ ، أو مبتغين مُثَبِّتِين . ومنع ابنُ عطية أن يكونَ " ابتغاء " مفعولاً من أجلِه ، قال : " لأنه عَطَفَ عليه " تثبيتاً " ، وتثبيتاً لا يَصِحَّ أن يكونَ مفعولاً من أجلِه ، لأنَّ الإِنفاقَ لا يكونُ لأجلِ التثبيتِ ، وحَكَى عن مكي كونه مفعولا من أجلِه ، قال : " وهو مردودٌ بما بَيَّنَّاه " .
وهذا الذي رَدَّه لا بُدَّ فيه من تفصيلٍ ، وذلك أنَّ قولَه : " وتثبيتاً " إمَّا أنْ يُجْعَلَ مصدراً متعدياً أو قاصراً ، فإن كان قاصراً ، أو متعدياً وقَدَّرْنا المفعولَ هكذا : " وتثبيتاً من أنفسهم الثوابَ على تلك النفقة " ، فيكونُ تثبيتُ الثواب وتحصيلُه من اللهِ حاملاً لهم على النفقةِ ، وحينئذٍ يَصحُّ أَنْ يكونَ " تثبيتاً " مفعولاً من أجلِه ، وإنْ قَدَّرْنا المفعولَ غيرَ ذلك ، أي : وتثبيتاً من أنفسِهم أعمالَهم بإخلاصِ النية ، أو جَعَلْنَا " مِنْ أنفسهم " هو المفعول في المعنى ، وأنَّ " مِنْ " بمَعْنَى اللام أي : لأنفسهم ، كما تقولُ : " فَعَلْتُه كسراً مِنْ شهوتي " فلا يتضحُ فيه أن يكون مفعولاً من أجلِه .
وأبو البقاء قد قَدَّر المفعولَ المحذوفَ " أعمالَهم بإخلاصِ النيةِ " ، وجَوَّز أيضاً أن يكونَ " مِنْ أنفسهم " مفعولاً ، وأن [ تكونَ ] " مِنْ " بمعنى اللام ، وكان قَدَّم أولاً أنه يجوزُ فيهما المفعولُ من أجلِه والحالية ، وهو غيرُ واضحٍ كما تقدَّم .
وتلخَّص أنَّ في " من أنفسهم " قولين ، أحدُهما : أنه مفعولٌ بالتجوُّز في الحرفِ ، والثاني : أنه صفةٌ ل " تثبيتاً " ، فهو متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، وتلخَّص أيضاً أن التثبيت يجوزُ أن يكونَ متعدّياً ، وكيف يُقَدَّر مفعولُه ، وأَن يكونَ قاصراً .
فإن قيل : " تثبيت " مصدرَ ثَبَّت وثَبَّتَ متعدٍ ، فكيفَ يكونُ مصدرُه لازماً . فالجوابُ أنَّ التثبيتَ مصدرُ تَثَبَّتَ فهو واقعٌ موقعَ التثبُّتِ ، والمصادرُ تنوبُ عن بعضها . قال تعالى : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] والأصلُ : " تبتُّلا " ويؤيِّد ذلك قراءةُ مَنْ قرأ : " وَتَثَبُّتاً " ، وإلى هذا نحا أبو البقاء . قال الشيخ : " ورُدَّ هذا القولُ بأنَّ ذلكَ لا يكونُ إلا مع الإِفصاح بالفعلِ المتقدِّم على المصدر ، نحوُ الآيةِ ، وأمَّا أَنْ يُؤْتى بالمصدرِ من غيرِ نيابةٍ على فعلٍ مذكورٍ فلا يُحْمَل على غيرِ فعلِه الذي هو له في الأصل " ثم قال : " والذي نقول : إنَّ ثَبَتَ - يعني مخففاً - فعلٌ لازمٌ معناه تمكَّن ورَسَخَ ، وثَبَّت معدَّى بالتضعيف ، ومعناه مَكَّن وحَقَّق .
فَثَبَّتَ اللهُ ما أتاك مِنْ حَسَنٍ *** تثبيتَ عيسى ونصراً كالذي نُصِروا
فإذا كان التثبيتُ مُسْنَداً إليهم كانت " مِنْ " في موضِع نصب متعلقةً بنفس المصدرِ ، وتكونُ للتبعيضِ ، مثلُها في " هَزَّ من عِطْفِهِ " و " حَرَّك مِنْ نشاطِه " وإن كان مسنداً في المعنى إلى أنفسهم كانت " مِنْ " أيضاً في موضعِ نصبٍ صفة لتثبيتاً " .
قال الزمخشري : " فإنْ قلت : فما معنى التبعيضُ ؟ قلت : معناه أنَّ مَنْ بَذَلَ مالَه لوجه الله فقد ثَبَّتَ بعضَ نفسه ، ومَنْ بَذَلَ روحَه ومالَه معاً فقد ثَبَّت نفسَه كلَّها " . قال الشيخ : " والظاهرُ أنَّ نفسَه هي التي تُثَبِّته وتَحْمِلُه على الإِنفاق في سبيل الله ليس له مُحَرِّكٌ إلا هي ، لِما اعتقدَتْه من الإِيمان والثواب " يعني فيترجَّح أنَّ التثبيتَ مسندٌ في المعنى إلى أنفسِهم " .
قوله : { بِرَبْوَةٍ } في محلِّ جر لأنه صفةٌ لجنة . والباءُ ظرفيةٌ بمعنى " في " أي جنةٍ كائنةٍ في ربوةٍ . والربوةُ : أرضٌ مرتفعةٌ طيبةٌ ، قالَه الخليلُ . وهي مشتقةٌ من رَبَا يَرْبُو أي : ارتَفَع ، وتفسيرُ السدّي لها بما انخفض من الأرض ليس بشيء . ويقال : رَبْوة ورَباوة بتثليثِ الراءِ فيهما ، ويُقال أيضاً : رابية ، قال :
وغيثٍ من الوَسْمِيّ حُوٍّ تِلاعُه *** أَجابَتْ روابيه النَّجاءَ هَواطِلُهُ
وقرأ ابن عامر وعاصمِ " رَبْوة " بالفتح ، والباقون الضمِّ ، قال الأخفشُ : " ونختار الضمَّ لأنه لا يكاد يُسْمع في الجمع إلا الرُّبا " يعني فَدَلَّ ذلك على أن المفردَ مضمومُ الفاءِ ، نحو بُرْمَة وبُرَم ، وصورة وصُوَر . وقرأ ابن عباس " رِبْوَة " بالكسر ، والأشهب العقيلي : " رَياوة " ، مثل رسالة وأبو جعفر : " رَبَاوة " مثل كراهة ، وقد تقدَّم أنَّ هذه لغاتٌ .
قوله : { أَصَابَهَا وَابِلٌ } هذه الجملةُ فيها أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها صفةٌ ثانيةٌ لجنة ، وبُدىء هنا بالوصفِ بالجارِّ والمجرور ثم بالجملةِ ، لأنه الأكثرُ في لسانهم لقُرْبهِ من المفرد ، وبُدىء بالوصفِ الثابتِ المستقرِّ وهو كونُها بربوة ، ثم بالعارضِ وهو إصابةُ الوابلِ . وجاء قولُه في وصف الصفوان - وصَفَهُ بقوله : { عَلَيْهِ تُرَابٌ } - ثم عَطَفَ على الصفةِ " فأصابه وابلٌ " وهنا لم يَعْطِفُ بل أَخْرَجَ صفةً .
والثاني : أن تكونَ صفةً ل " ربوة " ، قال أبو البقاء : " لأنَّ الجنةَ بعضُ الربوة " كأنه يعني أنه يَلْزَمُ من وصفِ الربوة بالإِصابةِ وصفُ الجنةِ به الثالث : أن تكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ لوقوعِه صفةً . الرابع : أن تكونَ حالاً من " جنة " ، وجاز ذلك لأنَّ النكرةَ قد تَخَصَّصتْ بالوصفِ ، ولا بُدَّ من تقديرِ " قد " حينئذٍ ، أي : وقد أصابها .
قوله : { فَآتَتْ أُكُلَهَا } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : وهو الأصحُّ أنَّ " آتَتْ " تتعدَّى لاثنين ، حُذِفَ أولُهما وهو " صاحبها " أو " أهلَها " . والذي حَسَّن حَذفَه أنَّ القصدَ الإخبارُ عَمَّا تُثْمِرُ لا عمَّن تُثْمَرُ له ، ولأنه مقدرٌ في قولِه : " كمثل جنةٍ " أي غارِس جنةٍ أو صاحبِ جنةٍ ، كما تقدَّم . و " أُكُلَها " هو المفعولُ الثاني . و " ضِعْفَيْن " نصبٌ على الحال من " أُكُلَها . والثاني : أنَّ " ضِعْفِين " هو المفعول الثاني ، وهذا سهوٌ من قائلِه وغَلَطٌ . والثالث : أنَّ " آتَتْ " هنا بمعنى أَخْرَجَت ، فهو متعدِّ لمفعولٍ واحدٍ . قال أبو البقاء : " لأنَّ معنى " آتَتْ " : أَخْرَجَتْ ، وهو من الإِتاء ، وهو الرَّيْع " قال الشيخ : " لاَ نَعْلَم ذلك في لسان العرب " . ونسبة الإِيتاء إليها مجازٌ .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو " أُكْلها " بضمِّ الهمزة وسكونِ الكافِ ، وهكذا كلُّ ما أُضِيف من هذا إلى مؤنثٍ ، إلا أبا عمرو فإنه يُثَقِّل ما أُضيف إلى غير ضمير أو إلى ضمير المذكر ، والباقون بالتثقيل مطلقاً ، وسيأتي إيضاح هذا كلِّه . والأَكُلُ بالضم : الشيءُ المأكولُ ، وبالفتحِ مصدرٌ ، وأُضيف إلى الجنة لأنها محلُّهُ أو سببُه/ .
قوله : { فَطَلٌّ } الفاءُ جوابُ الشرطِ ، ولا بُدَّ من حذفٍ بعدَها لتكمُلَ جملةُ الجوابِ . واختُلِفَ في ذلك على ثلاثة أوجه ، فذهَب المبرد إلى أنَّ المحذوفَ خبرٌ ، وقوله : " فَطَلٌّ " مبتدأٌ ، والتقدير : " فَطَلٌّ يِصيبها " . وجاز الابتداء هنا بالنكرةِ لأنها في جوابِ الشرطِ ، وهو من جملةِ المُسَوِّغات للابتداء بالنكرةِ ، ومن كلامِهم : " إنْ ذَهَبَ غَيْرُ فَعَيْرٌ في الرِّباط " . والثاني : أنه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ ، أي : فالذي يُصيبها طَلٌّ . والثالث : أنه فاعلٌ بفعلٍ مضمرٍ تقديرُه : فيُصيبها طلٌّ ، وهذا أَبْيَنُها .
إلاَّ أنَّ الشيخَ قال : - بعد ذِكْرِ الثلاثة الأوجهِ - " والأخير يحتاج فيه إلى حَذْفِ الجملةِ الواقعةِ جواباً وإبقاءِ معمولٍ لبعضها ، لأنه متى دخلت الفاءُ على المضارعِ فإنما هو على إضمارِ مبتدأٍ كقولِه : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] أي : فهو ينتقمُ ، فلذلك يُحتاج إلى هذا التقديرِ هنا ، أي : فهي ، أي : الجنةُ يُصيبها طَلُّ ، وأمَّا في التقديرين السابقين فلا يُحتاج إلاَّ إلى حَذْفِ أحدِ جُزْئي الجملةِ " وفيما قاله نظرٌ ، لأنَّا لا نُسَلِّم أن المضارع بعد الفاءِ الواقعةِ جواباً يَحْتَاجُ إلى إضمارِ مبتدأ .
ونظيرُ الآية قوُ امرىء القيس :
ألا إنْ لا تَكُنْ إبِلٌ فمِعْزَى *** كأنَّ قُرونَ جِلَّتِها العِصِيُّ
فقوله " فَمِعْزى " فيه التقاديرُ الثلاثةُ .
وادَّعى بعضُهم أنَّ في هذه الآيةِ تقديماً وتأخيراً ، والأصلُ : " أصابها وإبلٌ ، فإنْ لم يُصِبْها وابلٌ فَطَلٌّ فآتَتْ أكلَها ضِعْفين " حتى يُجْعَلَ إيتاؤها الأُكُلَ ضعفينِ على الحالين من الوابلِ والطلِّ ، وهذا لا حاجة إليه لاستقامة المعنى بدونِه ، والأصلُ عدمُ التقديرِ والتأخيرِ ، حتى يَخُصُّه بعضُهم بالضرورةِ .
والطَّلُّ : المُسْتَدَق مِن القَطْرِ . وقال مجاهد : " هو الندى " وهذا تَجَوُّزٌ منه . ويقال : طَلَّه الندى ، وأَطَلَّه أيضاً ، قال :
ولَمَّا نَزَلْنَا منزلاً طَلَّه الندى *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قراءةُ الجمهورِ : " تَعْلَمون " خطاباً وهو واضحٌ ، فإنه من الالتفاتِ من الغَيْبة إلى الخطابِ الباعثِ على فعلِ الإِنفاقِ الخالصِ لوجهِ اللهِ والزاجر عن الرياءِ والسُمْعَةِ . والزهري بالياء على الغَيْبَة ، ويَحْتَمِل وجهين ، أحدُهما : أن يعودَ على المنفقين ، والثاني : ان يكونَ عاماً فلا يَخُصُّ المنفقين ، بل يعودُ على الناسِ أجمعين ، ليندرجَ فيهم المنفقونَ اندراجاً أولياً .