الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لِّلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ فَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (284)

قوله تعالى : { فَيَغْفِرُ } قرأ ابن عامر وعاصم برفع " يغفرُ " و " يعذبُ " ، والباقون من السبعةِ بالجزم . وقرأ ابنُ عباس والأعرج وأبو حيوة : " فيغفرَ " بالنصب .

فأمَّا الرفعُ فيجوزُ أَنْ يكونَ رفعُه على الاستئنافِ ، وفيه احتمالان ، أحدُهما : أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أي : فهو يغفرُ . والثاني : أنَّ هذه جملةٌ فعليةٌ من فعلٍ وفاعلٍ عُطِفَتْ على ما قبلها . وأمّا الجزمُ فللعطفِ على الجزاءِ المجزوم .

وأمَّا النصبُ فبإضمارِ " أَنْ " وتكونُ هي وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ معطوف على المصدر المتوهَّم من الفعلِ قبلَ ذلك تقديره : تكنْ محاسبةٌ فغفرانٌ وعذابٌ . وقد رُوي قولُ النابغة بالأوجهِ الثلاثة وهو :

فإنْ يَهْلِكْ أبو قابوسَ يَهْلِكْ *** ربيعُ الناسِ والبلدُ الحرامُ

ونأخذْ بعدَه بذِنابِ عيشٍ *** أجَبَّ الظهرِ ليسَ له سَنامُ

بجزمِ " نأخذ " عطفاً على " يَهْلك ربيع " ونصبهِ ورفعِه ، على ما ذكرتُه لك في " فَيغفر " وهذه قاعدةٌ مطردةٌ : وهي أنه إذا وقع بعدَ جزاءِ الشرط فعلٌ بعد فاءٍ أو واوٍ جازَ فيه هذه الأوجُهُ الثلاثةُ ، وإن توسَّطَ بين الشرطِ والجزاءِ جاز جزمُه ونصبُه وامتنع رفعُه نحو : إن تأتني فَتَزُرْني أو فتزورَني ، أو وتزرْني أو وتزورَني .

وقرأ الجعفيّ وطلحة بن مصرف وخلاد : " يَغْفِرْ " بإسقاطِ الفاء ، وهي كذلك في مصحفِ عبد الله ، وهي بدلٌ من الجوابِ كقوله تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ } [ الفرقان : 68-69 ] . وقال أبو الفتح : " وهي على البدلِ من " يُحاسِبْكم " فهي تفسيرٌ للمحاسبة " قال الشيخ : " وليس بتفسيرٍ ، بل هما مترتِّبان على المحاسَبَةِ " . قال الزمخشري : " ومعنى هذا البدلِ التفصيلُ لجملة الحساب لأنَّ التفصيلَ أوضحُ من المفصَّلِ ، فهو جارٍ مجرى بَدَلِ البعضِ من الكلِ أو بدلِ الاشتمال ، كقولك : " ضربتُ زيداً رأسه " و " أحببتُ زيداً عقله " ، وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه/ في الأسماءِ لحاجةِ القبيلين إلى البيان " .

قال الشيخ : " وفيه بعضُ مناقشةٍ : أمَّا الأولُ فقولُه : " ومعنى هذا البدلِ التفصيلُ لجملةِ الحسابِ " وليس العذابُ والغفرانُ تفصيلاً لجملةِ الحسابِ ، لأنَّ الحسابَ إنما هو تعدادُ حسناتِه وسيئآتِه وحصرُها ، بحيث لا يَشُذُّ شيءٌ منها ، والغفرانُ والعذابُ مترتِّبان على المحاسَبَة ، فليست المحاسبةُ مفصَّلةً بالغفرانِ والعذابِ . وأمَّا ثانياً فلقوله بعد أَنْ ذَكَر بدلَ البعض من الكل وبدلَ الاشتمال : " وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماء لحاجةِ القبيلين إلى البيان " أمَّا بدلُ الاشتمال فهو يمكنُ ، وقد جاءَ لأنَّ الفعلَ يَدُلُّ على الجنسِ وتحتَه أنواعٌ يشتمِلُ عليها ، ولذلك إذا وَقَع عليه النفيُ انتفَتْ جميعُ أنواعه ، وأمَّا بدلُ البعضِ من الكلِّ فلا يمكنُ في الفعل إذ الفعلُ لا يقبلُ التجزُّؤ ، فلا يُقال في الفعلِ له كل وبعض إلا بمجازٍ بعيدٍ ، فليس كالاسم في ذلك ، ولذلك يَسْتَحِيل وجود بدل البعض من الكل في حق الله تعالى ، إذ الباري تعالى لا يتقسم ولا يتبعض .

قلت : ولا أدري ما المانعُ من كونِ المغفرةِ والعذابِ تفسيراً أو تفصيلاً للحساب ، والحسابُ نتيجتُه ذلك ، وعبارةُ الزمخشري هي بمعنى عبارة ابن جني . وأمَّا قولُه : " إنَّ بدلَ البعضِ من الكل في الفعلِ متعذرٌ ، إذ لا يتحقق فيه تجزُّؤٌ " فليس بظاهرٍ ، لأنَّ الكليةَ والبعضيةَ صادقتان على الجنس ونوعِه ، فإنَّ الجنسَ كلٌّ والنوعَ بعضٌ . وأمَّا قياسُه على الباري تعالى فلا أدري ما الجامع بينهما ؟ وكان في كلامِ الزمخشري ما هو أولى بالاعتراض عليه . فإنه قال : " وقرأ الأعمش : " يَغْفر " بغير فاءٍ مجزوماً على البدلِ من " يحاسِبْكم " كقوله :

متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا *** تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأَجَّجا

وهذا فيه نظرٌ ؛ لأنه لا يطابق ما ذكره بعدَ ذلك كما تقدَّم حكايتُه عنه ؛ لأن البيت قد أُبْدِل فيه من فعلِ الشرط لا من جوابِه ، والآية قد أُبْدل فيها من نفسِ الجواب ، ولكنَّ الجامعَ بينهما كونُ الثاني بدلاً مِمَّا قبلَه وبياناً له .

وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام والباقون بإظهارها . وأظهر الباءَ قبل الميم هنا ابن كثير بخلافٍ عنه ، وورش عن نافع ، والباقون بالإِدغم . وقد طَعَن قومٌ على قراءةِ أبي عمرو لأنَّ إدغام الراءِ في اللام عندهم ضعيفٌ .

قال الزمخشري : " فإنْ قلت : " كيف يَقْرأ الجازم " ؟ قلت : يُظْهِر الراءَ ويُدْغِم الباء ، ومُدْغِمُ الراءِ في اللامِ لا حنٌ مخطىء خطأً فاحشاً ، وراويه عن أبي عمروٍ مخطىءٌ مرتين ، لأنه يَلْحَنُ ويَنْسُبُ إلى أعلمِ الناس بالعربية ما يؤُذن بجهلٍ عظيم ، والسببُ في هذه الروايات قلةُ ضبطِ الرواة ، وسببُ قلةِ الضبطِ قلةُ الدراية ، ولا يَضْبِط نحوَ هذا إلا أهلُ النحو " قلت : وهذا من أبي القاسم غير مَرْضِيٍّ ، إذ القُرَّاء مَعْنِيُّون بهذا الشأن ، لأنهم تَلقَّوا عن شيوخهم الحرفَ بعد الحرفِ ، فكيف يَقِلُّ ضبطُهم ؟ وهو أمرٌ يُدْرَكُ بالحسِّ السمعي ، والمانعُ من إدغام الراءِ في اللامِ والنونِ هو تكريرُ الراءِ وقوتها ، والأقوى لا يدغم في الأضعف ، وهذا مَذهبُ البصريين : الخليل وسيبويه ومَنْ تَبِعهما ، وأجاز ذلك الفراء والكسائي والرؤاسي ويعقوب الحضرمي ورأسُ البصريين أبو عمرو ، وليس قولُه : " إن هذه الروايةَ غَلَطٌ عليه " بمُسَلَّم . ثم ذكر الشيخ نقولاً عن القراء كثيرةً هي منصوصة في كتبهم ، فلم أرَ لذكرها هنا فائدةً ، فإنَّ مجموعها مُلَخَّصٌ فيما ذكرته ، وكيف يُقال إن الراوي ذلك عن أبي عمروٍ مخطىءٌ مرتين ، ومن جملة رُواته اليزيديُّ إمامُ النحوِ واللغةِ ، وكان ينازع الكسائي رئاسته ، ومحلُّ مشهور بين أهلِ هذا الشأن .