الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٞ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (178)

قوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي } ؛ قرأ الجمهور " يَحْسَبَنَّ " بالغيبة ، وحمزة بالخطاب ، وحكى الزجاج عن خلقٍ كثير كقراءةِ حمزة إلا أنَّهم كسروا " إنما " ونصبوا " خيراً " وأنكرها ابن مجاهد ، وسيأتي إيضاح ذلك ، ويحيى بن وثاب بالغيبة وكسر " إنما " ، وحكى عنه الزمخشري أيضاً أنه قرأ بكسر " إنما " الأولى وفتح الثانية مع الغَيْبة . فهذه خمسُ قراءات .

فأمَّا قراءةُ الجمهور فتخريجُها واضحٌ ، وهو أنه يجوز أَنْ يكونَ الفعلُ مسنداً إلى " الذين " ، و " أنَّ " وما اتصل بها سادٌّ مسدَّ المفعولين عند سيبويه ومَسَدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش حَسْبما تقدم غير مرة . ويجوز أن يكون مسنداً إلى ضمير غائب يُراد به النبيُّ صلى الله عليه وسلم أي : ولا يحسبن النبيُّ عليه السلام ، فعلى هذا يكون " الذين كفروا " مفعولاً أول ، وأما الثاني فسيأتي الكلام عليه في قراءة حمزة ، فتتَّحِدُ هذه القراءةُ على هذا الوجه مع قراءة حمزة رحمه الله ، وسيأتي تخريجها . و " ما " يجوز أَنْ تكونَ موصولة اسمية ، فيكونُ العائد محذوفاً لاستكمال الشروط ، أي : أنَّ الذي نُمْليه ، وأن تكونَ مصدرية أي : إملاءنَا ، وهي اسم " أنَّ " و " خير " خبرُها . قال أبو البقاء : " ولا يجوزُ أَنْ تكونَ كافةً ولا زائدةً ، إذ لو كانت كذلك لانتصَبَ " خيرٌ " ب " نُمْلي " ، واحتاجت " أنَّ " إلى خبرٍ إذا كانت " ما " زائدةً ، أو قُدِّر الفعلُ يليها ، وكلاهما ممتنعٌ " . انتهى . وهو من الواضحات ، وكتبوا " أنما " في الموضعين متصلةً ، وكان من حقِّ الأولى الفصلُ لأنها موصولة .

وأمَّا قراءة حمزة فاضطربت فيها أقوالُ الناس وتخاريجُهم حتى إنه نُقِل عن أبي حاتم أنها لحن . قال النحاس : " وتابعه على ذلك خلقٌ كثير " وهذا لا يُلْتفت إليه لتواتُرها . وفي تخريجها ستةٌ أوجهٍ ، أحدها : أن يكون فاعلُ " تحسَبَنَّ " ضميرَ النبي صلى الله عليه وسلم ، و { الَّذِينَ كَفَرُواْ } مفعولٌ أولُ ، و { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ } مفعولٌ ثانٍ . ولا بد على هذا التخريجِ مِنْ حَذْفِ مضافٍ : أمَّا من الأولِ تقديرُه : " ولا تَحْسَبَنَّ شأنَ الذين كفروا " ، وإمَّا من الثاني تقديرُه : " أصحابَ أنَّ إملاءنا خيرٌ لهم " ، وإنما احتجنا إلى هذا التأويل ؛ لأنَّ " أنما نُمْلي " بتأويلِ مصدرٍ ، والمصدرُ معنىً من المعاني لا يَصْدُق على الذين كفروا ، والمفعولُ الثاني في هذا البابِ هو الأولُ في المعنى .

الثاني : أن يكونُ { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } بدلٌ من { الَّذِينَ كَفَرُواْ } وإلى هذا ذهب الكسائي والفراء وتَبِعهما جماعةٌ منهم الزمخشري والزجاج وابن الباذش .

قال الكسائي والفراء : " وجهُ هذه القراءةِ التكريرُ والتأكيدُ ، والتقدير : ولا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا ولا تحْسَبَنَّ أنما نُمْلي " . قال الفراء : " ومثلُه : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ } [ الزخرف : 66 ] أي : ما ينظرون إلاَّ أَنْ تأتِيَهم " انتهى . وقد رَدَّ بعضُهُم قول الكسائي والفراء بأَنْ حَذْفَ المفعولِ الثاني في هذه الأفعالِ لا يجوزُ عند أحدٍ ، وهذا الردُّ ليس بشيءٍ ، لأنَّ الممنوعَ إنما هو حَذْفُ الاقتصارِ ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك . وقال ابن الباذش : " ويكونُ المفعولُ الثاني حُذِفَ لدلالةِ الكلام عليه ، ويكونُ التقديرُ : " ولا تحسبنُ الذين كفروا خيريةَ إملائنا لهم ثابتةً أو واقعةً " .

وقال الزمخشري : " فإنْ قلت : كيف صَحَّ مجيءُ البدلِ ولم يُذْكَرْ إلا أحدُ المفعولين ، ولا يجوزُ الاقتصارُ مِنْ فعلِ الحُسْبان على مفعولٍ واحدٍ ؟ قلت : صَحَّ ذلك من حيث إنَّ التعويلَ على البدلِ ، والمبدلُ منه في حُكمِ المُنَحَّى ، ألا تراك تقول : " جعلت متاعك بعضه فوق بعضٍ " مع امتناعِ سكوتِك على " متاع " .

وهل البدلُ بدلُ اشتمالٍ وهو الظاهرُ أو بدلُ كلٍ من كل فيكونُ على حذفٍ مضافٍ تقديرُه : " ولا تَحْسَبَنَّ إملاء الذين " فَحَذَف " إملاء " وأبدلَ منه " أنما نملي " ؟ قولان مشهوران .

الثالث : وهو أغربُها أن يكونَ " الذين " فاعلاً ب " تَحْسَبَنَّ " على تأويلِ أَنْ تكونَ التاءُ في الفعلِ للتأنيثِ كقولِه : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] أي : " ولا تَحْسَبَنَّ القومَ الذين كفروا " و " الذين " وصفُ " القوم " كقوله : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ } [ الأعراف : 137 ] فعلى هذا تَتَّحد هذه القراءةُ مع قراءة الغَيْبة ، وتخريجُها كتخريجِها ، ذكر ذلك أبو القاسم الكرماني في تفسيرِه المسمى : ب " اللباب " . وفيه نظرٌ من حيث إنَّ " الذين " جارٍ مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ ، والجمعُ المذكرُ السالمُ لا يجوز تأنيثُ فعلِه عند البصريين ، لا يجوزُ : قامت الزيدون ، ولا : تقوم الزيدون . وأمَّا اعتذارُه عن ذلك بأنَّ " الذين " صفةٌ للقوم الجائزِ تأنيثُ فعلِهم وإنما حُذِفَ فلا ينفعه ، لأنَّ الاعتبارَ إنما هو بالملفوظ به لا بالمقدَّرِ ، لا يُجيز أحدٌ من البصريين : " قامت المسلمون " على إرادة " القوم المسلمون " البتة . وقال أبو الحسن الحوفي : " أنَّ وما عَمِلَتْ فيه في موضعِ نصبٍ على البدلِ ، و " الذين " المفعولُ الأولُ ، والثاني محذوفٌ " ، وهو معنى قول الزمخشري المتقدم .

الرابع : أن يكونَ { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } بدلاً من { الَّذِينَ كَفَرُواْ } بدلَ الاشتمالِ أي : إملاءَنا ، و " خيرٌ " بالرفعِ خبرُ مبتدأ محذوف أي : هو خيرٌ لأنفسهم ، والجملةُ هي المفعولُ الثاني . نقل ذلك الشيخ شهاب الدين أبو شامة عن بعضهم ، قال : قلت : ومثلُ هذه القراءة بيتُ الحماسة :

مِنَّا الأَناةُ وبعضُ القوم يَحْسَبُنا *** أنَّا بِطاءٌ وفي إبطائنا سَرَعُ

كذا جاءت الرواية بفتح " أنَّا " بعد ذِكْر المفعولِ الأول ، فعلى هذا يجوز أن تقول : " حَسِبْتُ زيداً أنه قائمٌ " أي : حَسِبْتُه ذا قيامٍ ، فوجهُ الفتحِ أنها وقعت مفعولةً ، وهي وما عَمِلَتْ فيه في موضعِ مفردٍ وهو المفعولُ الثاني لحسبت " انتهى . وفيما قاله نظر ؛ لأن النحاة نصوا على وجوب كسر " إنَّ " إذا وقعت مفعولاً ثانياً والأولُ اسمُ عينٍ ، وأنشدوا البيت المذكور على ذلك ، وعللوا وجوبَ الكسر بأنَّا لو فَتَحْنا لكانت في محل مصدر فليزَمُ الإِخبارُ المعنى عن العين .

الخامس : أن يكون { الَّذِينَ كَفَرُواْ } مفعولاً أولَ ، و { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } في موضع المفعول الثاني ، و { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ } مبتدأ وخبر ، اعترض به بين مفعولي " وَتحْسَبَنَّ " ، وفي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ، نُقِل ذلك عن الأخفش . قال أبو حاتم : " سمعت الأخفش يذكر فتحَ " أَنَّ " يحتجُّ بها لأهل القَدَر لأنه كان منهم ، ويجعله على التقديمِ والتأخير ، كأنه قال : " ولا تَحْسَبَنَّ الذين [ كفروا ] إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ، أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسِهم " انتهى . وإنما جاز أن تكون " أَنَّ " المفتوحة مبتدأً بها أولُ الكلامِ لأنَّ مذهب الأخفشِ ذلك ، وغيرُه يمنع ذلك ، فإنْ تَقَدَّم خبرُها عليها نحو : " في ظني أنك منطلقٌ " أو أمَّا التفصيلية نحو : " أما أنك منطلقٌ فعندي " جاز ذلك إجماعاً ، وقولُ أبي حاتم : " يذكرُ فتحَ أنَّ " يعني بها التي في قولهِ : { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ } . ووجهُ تمسُّكِ القَدَريَّة به أنَّ الله تعالى لا يجوزُ أَنْ يُملي لهم إلا ماهو خيرٌ لأنفسِهم ، لأنه يجبُ عندهم رعايةُ الأصلحِ .

[ السادس : قال المهدوي : " وقال قوم ] قدَّم { الَّذِينَ كَفَرُواْ } توكيداً ، ثم حالَهم مِنْ قولِه : { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } ردَّاً عليهم ، والتقدير : ولا تحسبنُ أنَّ إملاءَنا للذين كفروا خيرٌ لأنفسهم " انتهى .

وأمَّا قراءة يحيى بكسر " إنما " مع الغيبة فلا يخلو : إمَّا أَنْ يُجْعَلَ الفعلُ مسنداً إلى " الذين " أو إلى ضمير غائب ، فإن كان الأولُ كانت " إنما " وما في حيزها معلِّقَةً ل " يحسبن " وإنْ لم تكن اللام في خبرها لفظاً فهي مقدرةٌ ، فتكون " إنما " بالكسر في موضع نصب ؛ لأنها معلقةٌ لفعلِ الحسبان مع نية اللام ، ونظيرُ ذلك تعليقُ أفعالِ القلوب عن المفعولين الصريحين لتقديرِ لامِ الابتداء في قولِه :

كذاك أُدِّبْتُ حتى صار مِنْ خُلُقي *** إني رأيتُ مِلاكُ الشيمةِ الأَدَبُ

فلولا تقديرُ اللامِ لوجَبَ نصبُ " مِلاك " و " الأدب " ، وكذلك في الآية ، لولا تقديرُ اللامِ لوجَبَ فتحُ " إنما " ، ويجوزُ أَنْ يكون المفعولُ الأولُ قد حُذِف وهو ضميرُ الأمرِ والشأنِ ، وقد قيل بذلك في البيت وهو الأحسن فيه ، والأصلُ : ولا يحسَبَنَّه أي : الأمرَ ، و " إنما نُمْلِي " في موضع المفعول الثاني وفي المفسِّرة للضمير .

وإن كان الثاني كان " الذين " مفعولاً أول ، و " إنما نملي " في موضع الثاني .

وأما قراءته التي حكاها عنه الزمخشري فقد خَرَّجها هو فقال : " على معنى : ولا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنَّ إملاءَنا لازدياد الإِثم كما يفعلون ، وإنما هو ليتوبوا ويَدْخلوا في الإِيمان ، وقوله { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } اعتراضٌ بين الفعلِ ومعمولِه ، معناه : أنَّ إملاءَنا خيرٌ لأنفسِهم إنْ عَمِلوا فيه وَعَرَفوا إنعام الله عليهم بتفسيح المُدَّة وتَرْكِ المعاجَلَة بالعقوبة " انتهى . فعلى هذا يكون " الذين " فاعلاً ، و " أنما " المفتوحة سادةٌ مَسَدَّ المفعولين أو أحدِهما على الخلاف ، واعتُرِض بهذه الجملة بين الفعل ومعموله . قال النحاس : " وقراءةُ يحيى بن وثاب بكسر إنَّ " حسنةٌ ، كما تقول : " حسبت عمراً أبو ه خارجٌ " .

وأمَّا ما حكاه الزجاج قراءةً عن خلق كثير وهو نَصْبُ " خيراً " على الظاهر من كلامه فقد ذكر هو تخريجَها على أنَّ { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْراً لأَنْفُسِهِمْ } بدلٌ من " الذين " و " خيراً " مفعولٌ ثانٍ . ولا بُدَّ من إيرادِ نَصِّه ليظهرَ لك ، قال رحمه الله : " مَنْ قَرَأَ " ولا تَحْسَبَنَّ " بالتاء لم يجز عن البصريين إلا كسرُ " إنَّ " والمعنى : لا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا إملاؤنا خيرٌ لهم ، ودخلت " إنَّ " مؤكدةً ، فإذا فَتَحْتَ صار المعنى : ولا تَحْسَبَنَّ الذين كفروا إملاءنا خيراً لهم قال : " وهو عندي يجوزُ في هذا الموضعِ على البدلِ من " الذين " المعنى : ولا تَحْسَبَنَّ إملاءَنا للذين كفروا خيراً لهم ، وقد قرأَ بها خَلْقٌ كثير ، ومثلُ هذه القراءةِ من الشعر :

فما كانَ قَيْسٌ هُلْكُه هلكَ واحدٍ *** ولكنه بنيانُ قومٍ تَهَدَّما

جَعَل " هُلْكُه " بدلاً من " قيس " المعنى : فما كان هُلْكُ قيسٍ هُلْكَ واحد يعني : " فهُلْك " الأول بدلٌ من المرفوع ، فبقي " هُلْكَ واحدٍ " منصوباً خبراً ل " كان " ، كذلك { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } : " أن " واسمُها وهو " ما " الموصولةُ وصلتُها والخبرُ وهو " لهم " في محل نصبٍ بدلاً من الذين كفروا ، فبقي " خيراً " منصوباً على أنه مفعولٌ ثانٍ ل " تحسبن " .

إلاَّ أنَّ الفارسي قد رَدَّ هذا على أبي إسحاق بأنَّ هذه القراءةَ لم يَقرأ بها أحدٌ أعني نصبَ " خيراً " قال أبو عليّ الفارسي : " لا يَصِحُّ البدلُ إلا بنصب " خير " من حيث كان المفعول الثاني ل " حسبت " ، فكما انتصب " هلك واحدٍ " في البيت لَمَّا أبدلَ الأولَ من " قيس " بأنه خبرٌ لكان كذلك ينتصبُ " خيراً لهم " إذا أبدل الإِملاءَ من { الَّذِينَ كَفَرُواْ } بأنه مفعولٌ ثانٍ لتحسَبَنَّ " قال : " وسألْتُ أحمدَ بن موسى عنها فَزَعم أنَّ أحداً لم يَقْرأ بها " يعني بأحمد هذا أبا بكر بن مجاهد الإِمامَ المشهور .

وقال في " الحجة " له : " الذين كفروا في موضعِ نصبٍ بأنَّها المفعول الأول ، والمفعولُ الثاني هو الأولُ في هذا الباب في المعنى ، فلا يجوزُ إذاً فَتْحُ " أنَّ " في قولِه : { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } لأنَّ إملاءَهم لا يكون إياهم " قال : " فإنْ قلت : لِمَ لا يجوزُ الفتحُ في " أنَّ " وتجعلُها بدلاً من { الَّذِينَ كَفَرُواْ } كقوله : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } [ الكهف : 63 ] وكما كان " أنَّ " من قولِه تعالى : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ } [ الأنفال : 7 ] . قيل : لا يجوزُ ذلك ، وإلا لزمك أَنْ تَنْصِبَ " خيراً " على تقدير : لا تَحْسَبَنَّ إملاءَ الذين كفروا خيراً لأنفسهم ، حيث كان المفعول الثاني ل " تحسبنَّ " ، وقيل : إنه لم يقرأ به أحد ، فإذا لم يُنْصَبْ عُلِم أنَّ البدلَ فيه لا يَصِحُّ وإذا لم يَصِحَّ البدلُ لم يَجُزْ إلا كسرُ " إنَّ " على أن تكون " إنَّ " وخبرُها في موضع المفعول الثاني من " تحسبن " انتهى ما رد به عليه ، فلم يبقَ إلا الترجيحُ بين نقل هذين الرجلين ، أعني الزجاج وابن مجاهد ، ولا شك أن ابن مجاهد أَعْنى بالقراءات ، إلا أن الزجاج ثقةٌ ، ويقول : " قرأ بها خلق كثير " ، وهذا يُبْعِدُ غَلَطه فيه ، والإِثباتُ مقدَّمٌ على النفي . وما ذكره أبو علي من قولِه : " وإذا لم يَجُزْ البدلُ لم يَجُزْ إلا كسرُ إنَّ " إلى آخره ، هذا أيضاً مِمَّا لم يقرأ به أحدٌ . قال مكي : " وجهُ القراءةِ لِمَنْ قَرَأ بالتاء يعني بتاءِ الخطاب أنْ يكسر " إنما " فتكونُ الجملةُ في موضعِ المفعول الثاني ولم يَقْرأ به أحدٌ عَلِمْتُه " .

وقد نقل أبو البقاء نصبَ " خيراً " قراءةً شاذة قال : " وقد قِرِىء شاذاً بالنصبِ على أَنْ يكونَ " لأنفسهم " خبرَ " أنَّ " ، و " لهم " تبيينٌ أو حالٌ من " خيراً " يَعْني أنه لَمَّا جعل لأنفسهم الخيرَ جعل " لهم " : إمَّا تبييناً تقديرُه : أعني لهم ، وإمَّا حالاً من النكرة المتأخرة ، لأنه كان في الأصلِ صفةً لها ، والظاهرُ على هذه القراءةِ ما قَدَّمْتُه مِنْ كونِ " لهم " هو الخبرَ ، ويكونُ " لأنفسِهم " في محلِّ نصبٍ صفةً ل " خيراً " كما كانَ صفةً له في قراءةِ الجمهور ، ونَقَلَ أيضاً قراءةَ كسر " إنَّ " وهي قراءة يحيى ، وخَرَّجها على أنها جوابُ قسمٍ محذوف ، والقسمُ وجوابُه يَسُدُّ مَسَدَّ المفعولين ولا حاجة إلى ذلك ، بل تخريجُها على ما تقدَّم أولى ، لأنَّ الأصلَ عدمُ الحذفِ .

والإِملاء : الإِمهالُ والمَدُّ في العمر ، ومنه : " مَلاَوَةُ الدهر " للمدة الطويلة ، والمَلَوان : الليل والنهار ، وقولهم " مَلاَك اللهُ بنعمةٍ " أي : مَنَحَكها عمراً طويلاً . وقيل : المَلَوان : تكرُّر الليل والنهار وامتدادُهما ، بدليلِ إضافتهما إليهما في قول الشاعر :

1499 نهارٌ وليلٌ دائمٌ مَلَواهُما *** على كلِّ حالِ المرءِ يَخْتلفان

فلو كانا الليلَ والنهارَ لما أُضيفا إليهما ، إذا الشيءُ لا يضاف إلى نفسِه . وقوله : { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } أصلُ الياءِ واو ، وإنما قُلِبَتْ ياءً لوقوعها رابعةً .

قوله : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ } قد تقدَّم أن يحيى بن وثاب قرأ بكسر الأولى وفتح هذه ، فيما نقله عنه الزمخشري ، وتقدَّم تخريجُها ، إلا أنَّ الشيخَ قال : " إنه لم يَحْكِها عنه غيرُ الزمخشري ، بل الذين نقلوا قراءةَ يحيى إنما نقلوا كسره للأولى فقط " قال : " وإنما الزمخشري لِوَلُوعه بمذهبه يرومُ رَدَّ كلِّ شيء إليه " . وهذا تحاملٌ عليه لأنه ثقة لا ينقل ما لم يُرْوَ .

وأما على قراءة كسرها ففيها وجهان ، أحدهما : أنها جملة مستأنفة تعليلٌ للجملةِ قبلَها كأنه قيل : ما بالُهم يَحْسَبون الإِملاءَ خيراً ؟ فقيل : إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً . و " إنَّ " هنا مكفوفةٌ ب " ما " ، ولذلك كُتِبَتْ متصلةً على الأصل ، ولا يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً ولا حرفيةً ؛ لأنَّ لام كي لا يَصِحُّ وقوعُها خبراً للمبتدأ ولا لنواسِخِه .

والوجه الثاني : أنَّ هذه الجملةَ تكريرٌ للأولى . قال أبو البقاء : " وقيل " أنما " تكريرٌ للأولِ ، و " ليزدادوا " هو المفعولُ الثاني ل " تَحْسَبَنَّ " هذا على قراءةِ التاء ، والتقديرُ : لا تَحْسَبَنَّ يا محمد إملاءَ الذين كفروا خيراً ليزدادوا إثماً ، بل ليزدادوا إيماناً ، ويُرْوى أنَّ بعض الصحابة قرأه كذلك " انتهى . قلت : وفي هذا نظرٌ من حيث إنه جَعَل " ليزدادوا " هو المفعولَ الثاني ، وقد تقدَّم أنَّ لامَ " كي " لا تقعُ خبراً للمبتدأ ولا لنواسخه ، ولأنَّ هذا إنما يَتِمُّ له على تقديرِ فتح الثانية ، وقد تقدَّم أن أحداً لم ينقُلْها إلا الزمخشري عن يحيى ، والذي يقرأ " تحسبن " بتاء الخطاب لا يفتحها البتة .

واللامُ في " ليزدادوا " فيها وجهان : أحدُهما : أنها لامُ كي ، والثانيةُ أنها لامُ الصيرورة .

وقوله : { وَلَهْمُ عَذَابٌ } في هذه االواوِ قولان ، أحدُهما : أنها للعطف ، والثاني : أنها للحالِ . وظاهرُ قولِ الزمخشري أنها للحال في قراءة يحيى ابن وثاب فقط ، فإنه قال " فإنْ قلت : ما معنى هذه القراءة ؟ يعني على قراءةِ يحيى التي نقلَها هو عنه قلت : معناه " ولا يَحْسَبَنَّ أنَّ إملاءَنا لزيادةِ الإِثمِ والتعذيبِ ، والواوُ للحالِ ، كأنه قيل : ليزدادوا إثماً مُعَدَّاً لهم عذابٌ مهين " قال الشيخ : بعد ما ذكر من إنكارِه عليه نقلَ فتحَ الثانية عن يحيى كما قدمته لك ، " ولَمَّا قرَّر في هذه القراءة أنَّ المعنى على نهي الكافر أَنْ يَحْسَب أنما يُمْلي الله لزيادة الإِثم ، وأنه إنما يملي لزيادةِ الخير كان قولُه : { وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } يَدْفَعُ هذا التفسيرَ ، فَخَرَّج ذلك على أن الواوَ للحالِ ليزولَ هذا التدافُعُ الذي بين هذه القراءةِ وبين آخرِ الآية " .

وأصل " ليزدادوا " : ليزتادوا بالتاء ، لأنه افتعالٌ من الزيادة ولكنَّ تاء الافتعالِ تُقْلَبُ دالاً بعد ثلاثةِ أحرف : الزاي والذال والدال نحو : ادَّكر وادَّان . والفعلُ هنا متعدٍّ لواحدٍ وكانَ في الأصلِ متعدياً لاثنين نحو : { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً } [ البقرة : 10 ] ، ولكنه بالافتعالِ ينقُص أبداً مفعولاً ، فإنْ كان الفعلُ قبل بنائِه على افتعل للمطاوعةِ متعدياً لواحدٍ صار قاصراً بعد المطاوعةِ نحو " مدَدْتُ الحبل فامتدَّ " ، وإنْ كان متعدياً لاثنين صار بعد الافتعالِ متعدياً لواحدٍ كهذه الآيةِ .

وخُتِمَتْ كلُّ واحدةٍ من هذه الآياتِ الثلاثِ بصفةٍ للعذاب غيرِ ما خُتمت به الأخرى لمعنى مناسب ، وهو أنَّ الأولى تضمَّنَتْ الإِخبارَ عنهم بالمسارعةِ في الكفر ، والمسارعةُ في الشيء والمبادرةُ إلى تحصيلِه تقتضي جلالته وعظمته ، فجُعِل جزاءُهم " عذابٌ عظيمٌ " مقابلةً لهم ، ويَدُلُّ ذلك على خساسةِ ما سارَعُوا فيه . وأمَّا الثانيةُ فتضمَّنَتْ اشتراءَهم الكفرَ بالإِيمان ، والعادةُ سرورُ المشتري واغتباطُه بما اشتراه ، فإذا خَسِرَ تألم ، فخُتِمت هذه الآيةُ بألمِ العذابِ كما يجدُ المُشتري المغبون ألم خسارته . وأمَّا الثالثةُ فتضمَّنَتْ الإِملاء وهو الإِمتاعُ بالمال وزينةُ الدنيا ، وذلك يقتضي التعزُّزَ والتكبُّر والجبروتَ فخُتِمت هذه الآيةُ بما يقتضي إهانَتهم وذلتهم بعد عزهم وتكبُّرهم .