الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةٗۗ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ} (28)

قولُهُ تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ } : العامَّة على قراءتِهِ نهياً ، وقرأ الضبي : " لا يتَّخِذُ " برفع الدال نفياً بمعنى لا ينبغي ، أو هو خبر بمعنى النهي نحو : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ } [ البقرة : 233 ] و { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ }[ البقرة : 282 ] فيمن رفع الراء . قال أبو البقاء وغيرُه : " وأجاز الكسائي رفعَ الراء على الخبر ، والمعنى : لا ينبغي " وهذا موافِقٌ لِما قاله الفراء ، فإنه قال : " ولو رُفع على الخبرِ كقراءةِ مَنْ قرأ : " لا تضارُّ والدة " جاز " . قال أبو إسحاق : " ويكون المعنى على الرفعِ أنه مَنْ كان مؤمناً فلا ينبغي أن يَتَّخِذَ الكافرُ ولياً " كأنهما لم يَطَّلِعا على قراءةِ الضبّي ، أو لم تَثْبُتْ عندهما .

و " يَتَّخِذُ " يجوز أن تكونَ المتعديةَ لواحد فيكونُ " أولياء " حالاً ، وأن تكونَ المتعدية لاثنين ، و " أولياء " هو الثاني .

قوله : { مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } فيه وجهان ، أظهرهُما : أنَّ " مِنْ " لابتداء الغاية ، وهي متعلقةٌ بفعلِ الاِّتخاذ . قال علي بن عيسى : " أي : لا تَجْعَلُوا ابتداءَ الولايةِ من مكانٍ دونَ مكانِ المؤمنين " وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله تعالى : { وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ } [ البقرة : 23 ] في البقرة . والثاني أجازه أبو البقاء أن يكونَ في موضِعِ نصبٍ صفةً لأولياء ، فعلى هذا يتعلَّقُ بمحذوفٍ . قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ } أدغم الكسائي في رواية الليث عنه اللام في الذال هنا ، وفي مواضعَ أُخَرَ تقدَّم التنبيه عليها وعلى علتِها في سورةِ البقرة .

قوله : { مِنَ اللَّهِ } الظاهِرُ أنَّه في محلِّ نصبٍ على الحال من " شيء " لأنه لو تأخَّر لكانَ صفةً له . و " في شيء " هو خبرُ ليس ، لأن به تستقبلُّ فائدةُ الإِسناد ، والتقدير : فليس في شيء كائنٍ من الله ، ولا بد من حذف مضاف أي : فليس من ولاية الله ، وقيل : مِنْ دِينِ الله . ونَظَّر بعضُهم الآية الكريمة ببيت النابغة :

إذا حاوَلْتَ في أسدٍ فُجُوراً *** فإنِّي لَسْتُ منك ولَسْتَ مِنِّي

قال الشيخ : " والتنظير ليس بجيدٍ ، لأنَّ " منك " و " مني " خبر " ليس " ، تستقل به الفائدة ، وفي الآية : الخبرُ قولُه " في شيء " فليس البيت كالآية " .

وقد نحا ابنُ عطيةَ هذا المَنْحَى الذي ذكرته عن بعضهم فقال : " فليس من الله في شيء مَرْضِيٍّ على الكمال والصواب ، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ غَشَّنا فليس منا " وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ تقديرُهُ : فليس من التقرُّب إلى الله والثوابِ ونحو هذا ، وقولُه : " في شيء " هو في موضِعِ نصبٍ على الحالِ من الضميرِ الذي في قولِهِ : " ليس مِنَ الله " .

قال الشيخ : " وهو كلامٌ مضطربٌ ، لأنَّ تقديرَه : فليس من التقرب إلى الله يقتضي ألاَّ يكونَ " من الله " خبراً لليس ، إذ لا يستقلُّ ، وقوله : " في شيء " هو في موضعِ نصبٍ على الحال يقتضي ألاَّ يكونَ خبراً ، فتبقى " ليس " على قوله ليس لها خبرٌ ، وذلك لا يجوز ، وتشبيهُهُ الآية الكريمة بقوله عليه السلام : " مَنْ غَشَّنَا فليس منا " ليس بجيدٍ ؛ لِمَا بَيَّنَّا من الفرق بين بيت النابغة وبين الآية الكريمة " .

قلت : قد يُجاب عن قوله : " إنَّ " من الله " لا يكونُ خبراً لعدم الاستقلال " بأنَّ في الكلامِ حَذْفَ مضافٍ ، تقديرُه : فليسَ من أولياء الله ، أو ليس ، لأنَّ اتخاذَ الكفارَ أولياءَ ينافي ولايةَ الله تعالى ، وكذا قولُ ابن عطية : فليس من التقرب أي : من أهل التقرب ، وحينئذ يكون التنظيرُ بين الآية والحديثِ وبيتِ النابغة مستقيماً بالنسبة إلى ما ذَكَر ، ونظير تقدير المضاف هنا قوله تعالى : { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } [ إبراهيم : 36 ] أي : ما أشياعي وأتباعي ، وكذا قولُه تعالى : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } [ البقرة : 249 ] ، وقول العرب : " أنت مني فرسخين " أي : من أشياعي ، ما سِرْنا فرسخين . ويجوز أن يكون " من الله " هو خبرَ ليس ، و " في شيء " يكون حالاً من الضمير في " ليس " كما ذهب إليه ابن عطية تصريحاً ، وغيرُه إيماءً ، وقد تقدَّم اعتراضُ الشيخ عليهما وجوابُه .

قوله : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ } هذا استثناءٌ مفرغٌ من المفعول [ من أجله ، والعامل فيه : لا يَتَّخِذُ أي ] : لا يَتَّخِذُ المؤمنُ الكافر وليّاً لشيءٍ من الأشياء إلا للتَقِيَّة ظاهراً ، أي يكونُ مُواليَه في الظاهر ومعادِيَه في الباطن ، وعلى هذا فقولُه : { وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ } وجوابُهُ معترضٌ بين العلة ومعلولِها .

وفي قوله : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ } التفاتٌ من غيبة إلى خطاب ، ولو جرى على سَنَنِ الكلام الأولِ لجاء بالكلامِ غيبة ، وأَبْدَوا للالتفاتِ هنا معنًى حسناً : وذلك أن موالاة الكفار لَمَّا كانت مستقبحةً لم يواجِه اللهُ عبادَه بخطابِ النهي ، بل جاء به في كلام أُسْنِدَ الفعل المنهيُّ عنه لغيب ، ولَمَّا كانَتِ المجامَلَةُ في الظاهر والمحاسنةُ جائزةً لعذرٍ وهو اتِّقاءُ شرِّهم حَسُنَ الإِقبالُ إليهم وخطابُهم بِرَفْع الحرج عنهم في ذلك .

قوله : { تُقَاةً } في نصبِها ثلاثة أوجه وذلك مبنيٌّ على تفسير " تقاة " ما هي ؟ أحدها : أنها منصوبةٌ على المصدر والتقدير : تَتَّقوا منهم اتقاء ، فتقاة واقعة موقع الاتقاء ، والعرب تأتي بالمصادر نائبة عن بعضها ، والأصل : أن تتقوا اتقاءً ، نحو : تقتدروا اقتداراً ، ولكنهم أَتَوْا بالمصدر على حذف الزوائد كقوله : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] والأصلُ إنبات ومثله :

1224 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وبعدَ عطائِك المئةَ الرَّتاعا

أي : إعطائك ، ومن ذلك أيضاً قوله :

1225 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وليس بأَنْ تَتَبَّعَهُ اتِّباعا

قول الآخر :

ولاحَ بجانب الجبلين منه *** رُكامٌ يَحْفِرُ الأرضَ احتفارا

وهكذا عكس الآية ، إذا جاء بالمصدر مزاداً فيه ، والفعل الناصب له مجرَّد من تلك الزوائد . ومن مجيء المصدرِ على غيرِ المصدر قولُه تعالى :

{ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً }

[ المزمل : 8 ] ، والأصل تََبَتُّلاً ، ومثله :

وقد تَطَوَّيْتُ انطواءَ الحِضْبِ *** *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والأصلُ : تَطَوِّياً ، وأصلُ تُقاة : " وُقَيَة " مصدرٌ على فُعَل من الوقاية ، وقد تقدَّم تفسير هذه المادة في أول هذا الموضوع ، ثم أُبْدلت الواوُ تاءً ، ومثلُها تُخَمة وتُكَاة وتُجاه ، وتَحَرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلَها فَقُلِبت ألفاً ، فصارَ اللفظُ " تُقاة " ، كما ترى ، ووزنُها فُعَلة ، ومجيءُ المصدرِ على فُعَل وفُعَلة قليل نحو : التُّخَمة والتُّهَمة و التُّؤَدة والتكَأَة ، وانضمَّ إلى ذلك كونُها جاءت على غيرِ الصدر ، والكثيرُ مجيءُ المصدرِ جاريةً على أفعالها قيل : وحَسَّن مجيءَ هذا المصدرِ ثلاثياً كونُ " فُعَلة " قد حُذِفت زوائدُه في كثيرٍ من كلامهم نحو : تَقَى يَتْقِي ومنه :

1228 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** تَقِ اللهَ فينا والكتابَ الذي تتلو

وقد قَدَّمُتْ تحقيق ذلك في أول البقرة .

الثاني : أنها منصوبةٌ على المفعولِ به ، وذلك أن يكونَ " تَتَّقوا " بمعنى تخافوا ، ويكون " تقاة " مصدراً واقعاً موقعَ المفعولِ به ، وهو ظاهرُ قول الزمخشري فإنه قال : " إلا أَنْ تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه ، وقُرىء " تَقِيَّة " ، وقيل للمتَّقَى : تُقاة وتَقِيَّة كقولهم " ضَرْب الأمير " لمضروبه " . انتهى فصار تقديرُ الكلام : إلا أن تخافوا منهم أمراً مُتَّقَىً .

الثالث : أنها منصوبةٌ على الحال وصاحبُ الحال فاعل " تتقوا " وعلى هذا تكونُ حالاً مؤكدة ، لأنَّ معناه مفهوم من عاملها كقوله : { وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 33 ] { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ البقرة : 60 ] ، وهو على هذا جمعُ " فاعِل " وإن لم يُلْفظ بفاعل من هذه المادة فيكون فاعلاً وفُعَلَة نحو : رام ورُماة وغاز وغُزاة ، لأنَّ فعلَه يَطَّرد جمعاً لفاعِل الوصفِ المعتلِّ اللامِ ، وقيل : بل فُعَلَة جمعٌ لفعيل ، أجازَ ذلك كلَّه أبو علي الفارسي . قلت : جمعُ فَعِيل على فُعَلة لا يجوزُ ، فإن فَعِيلاً الوصفَ المعتلَّ اللامِ يُجْمع على أَفْعِلاء نحو : غَنِيّ وأغنياء ، وتقيّ وأتقياء ، وصَفِيّ وأَصْفِياء ، فإن قيل : قد جاء فَعِيل الوصفُ مجموعاً على فُعَلة قالوا : كَمِيّ وكُمَاة ، فالجواب : أنه من الندور بحيث لا يُقاس عليه .

وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو رجاء وقتادة وأبو حيوة ويعقوب وسهل وعاصم في رواية المفضل عنه : " تَتَّقوا منهم تَقِيَّة " بوزن " مَطِيًّة " وهي مصدرٌ أيضاً بمعنى " تُقَاة " ، يقال : اتّقى يتَّقي اتقاءً وتَقْوَى وتُقاة وتَقِيَّة وتُقَىً ، فيجىء مصدر افْتَعل من هذه المادة على الافتعال وعلى ما ذكر معه من هذه الأوزان ، ويقال أيضاً : تَقَيْتُ أَتْقي ثلاثياً تَقِيَّة وتَقْوى وتُقاة وتُقَىً ، والياء في جميعِ هذه الألفاظ بدل من الواو لما عرفته من الاشتقاق .

وأمال الأخوان " تُقاة " هنا ، لأنَّ ألفَها منقلبة عن ياء كما تقدم تقريره ، ولم يؤثِّرْ حرفُ الاستعلاء في مَنْع الإِمالة لأنَّ السبب غير ظاهر ، ألا ترى أن سببَ الإِمالة الياءُ المقدرة بخلافِ " غالب " و " طالب " و " قادم " فإنَّ حرف الاستعلاء عنا مؤثِّرٌ لكونِ سبب الإِمالة ظاهراً وهو الكسرة ، وعلى هذا يقال : كيف يُوَثِّرُ مع السببِ الظاهر ولم يؤثِّرْ مع المقدر وكان العكسُ أَوْلى ؟ والجوابُ أنَّ الكسرةَ سببٌ منفصل عن الحرف الممال ليس موجوداً فيه بخلاف الألف المنقلبة عن باءٍ فإنها نفسَها مقتضيةٌ للإِمالة ، فلذلك لم يُقاومها حرفُ الاستعلاء .

وأمال الكسائي وحده { حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] ، فخرج حمزة عن أصله ، وكان الفرق أَنَّ " تُقاة " هذه رُسِمت بالياء فلذلك وافق حمزةُ الكسائيَّ عليه ، ولذلك قرأ بعضهم " تَقِيَّة " بوزن مطيَّة كما تقدم/ لظاهر الرسم ، بخلافِ " حَقَّ تقاته " ، وإنما أمعنتُ في سبب الإِمالة هنا لأنَّ بعضهم زعم أن إمالة هذا شاذ لأجل حرفِ الاستعلاء ، وأنَّ سيبويه حكى عن قوم أنهم يُميلون شيئاً لا يجوز إمالتُه نحو : " رأيت عِرْقَى " بالإِمالة ، وليس هذا من ذاك لِما تقدَّم لك من أن سبب الإِمالة في " عِرْقى " كسرةٌ ظاهرة .

وقوله : { مِنْهُمْ } متعلِّقٌ ب " تتقوا " ، أو بمحذوف على أنه حال من " تقاة " لأنه في الأصل يجوزُ أن يكونَ صفةً لها ، فلما قُدِّم نُصِب حالاً . هذا إذا لم تجعل " تُقاة " حالاً ، فأمّا إذا جَعَلْناها حالاً تعيَّن أن يتعلق " منهم " بالفعل قبله ، ولا يجوز أن يكون حالاً من " تقاة " لفساد المعنى لأنَّ المخاطبين ليسُوا من الكافرين .

قوله : { نَفْسَهُ } مفعولٌ ثان لحَذَّر ؛ لأنه في الأصل متعدٍّ بنفسه لواحد فازدادَ بالتضعيفَ آخرَ ، وقدَّر بعضُهم حَذْفَ مضافٍ أي : عقاب نفسه . وصَرَّح بعضُهم بعدم الاحتياج إليه ، كذا نقله أبو البقاء عن بعضهم ، وليس بشيء ، إذ لا بدَّ من تقديرِ هذا المضافِ لصحة المعنى ، ألا ترى إلى غير ما نحن فيه في نحو قولك : " حَذَّرتك نفس زيد " أنه لا بد من شيء تُحَذِّر منه كالعقاب والسَّطْوة ، لأن الذواتِ لا يُتَصَوَّر الحذرُ منها نفسها ، إنما يُتَصَوَّر من أفعالِها وما يَصْدُر عنها . وعَبَّر هنا بالنفسِ عن الذات جرياً على عادة العرب ، كما قال الأعشى :

يَوْماً بأجودَ نائلاً منه إذا *** نفسُ الجَبانِ تَجَهَّمَتْ سُؤَّالها

وقال بعضهم : الهاء في " نفسه " تعود على المصدر المفهوم من قوله : { لاَّ يَتَّخِذِ } أي : ويحذِّرُكم الله نفسَ الاتخاذ ، والنفسُ عبارة عن وجود الشيء وذاته .