قوله تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ } : في ناصِبة أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوب بقدير ، أي قديرٌ في ذلك اليوم العظيم ، لا يقال : يَلْزَمُ من ذلك تقييدُ قدرتِه بزمانٍ ، لأنَّه إذا قَدَر في ذلك اليومِ الذي يَسْلُب كلَّ أحد قدرته فلأَنْ يَقْدِرَ في غيرِه بطريقٍ أولى وأَحْرى ، وإلى هذا ذهب أبو بكر ابن الأنباري .
الثاني : أنه منصوبٌ ب " يُحَذِّركم " أي : يُخَوِّفكم عقابَه في ذلك اليوم ، وإلى [ هذا ] نحا أبو إسحاق ، ورجَّحه . ولا يجوز أن ينتصبَ ب " يحذِّركم " المتأخرةِ . قال ابن الأنباري : " لأنه لا يجوزُ أن يكونَ " اليوم منصوباً ب " يحذِّركم " المذكورِ في هذه الآية ، لأنَّ واو النسق لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وعلى ما ذكره أبو إسحاق يكون ما بين الظرفِ وناصبِه معترضاً ، وهو كلامٌ طويل ، والفصلُ بمثله مستبعدٌ ، هذا من جهة الصناعة ، وأما من جهة المعنى فلا يَصِحُّ ، لأن التخويف موجودٌ ، واليومَ موعودٌ فكيف يتلاقيان " .
الثالث : أن يكونَ بالمصير ، وإليه نحا الزجاج أيضاً وابن الأنباري ومكي وغيرُهم ، وهذا ضعيفٌ على قواعد البصريين ، للزومِ الفصلِ بين المصدرِ ومعمولِه بكلامٍ طويل ، وقد يقال : إنَّ جُمَل الاعتراض لا نبالي بها فاصلةً ، وهذا من ذاك .
الرابع : أن ينتصبَ ب " اذكر " مقدراً مفعولاً به لا ظرفاً . وقَدَّر الطبري الناصبَ له " اتقوا " ، وفي التقدير ما فيه من كونِه على خلافِ الأصل مع الاستغناء عنه .
الخامس : أنَّ العامل فيه ذلك المضافُ المقدَّر قبل " نفسَه " أي : يحذركم الله عقابَ نفسِه يومَ تجد ، فالعاملُ فيه " عقاب " لا " يحذركم " ، قاله أبو البقاء . وفي قوله { لا يحذِّركم } فرارٌ مِمَّا أَوْردته على أبي إسحاق كما تقدّم تحقيقه .
السادس : أنه منصوبٌ بتودُّ ، قال الزمخشري : " يومَ تجد منصوب بتود ، والضمير في " بينه " لليوم ، أي : يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرَها وشرَّها [ حاضرين ] ، تتمنَّى لو أنَّ بينها وبين ذلك اليوم وَهوْلِهِ أمداً بعيداً " . وهذا الذي ذكره الزمخشري وجهٌ ظاهرٌ لا خفاء بحسنه ، ولكنْ في هذه المسألة خلافٌ ضعيف : جمهور البصريين والكوفيين على جوازها ، وذهب الأخفش والفراء إلى مَنْعها ، وضابطُ هذه المسألة : أنه إذا كان الفاعل ضميراً عائداً على شيء متصلٍ بمعمول الفعل نحو : ثوبي أخويك يلبَسان " فالفاعلُ هو الألف ، وهو ضمير عائد على " أخويك " المتصلين بمفعول يلبسان ، ومثله : " غلامَ هند ضربَتْ " ففاعل " ضربَتْ " ضمير عائدٌ على " هند " المتصلةِ بغلام المنصوب بضرَبتْ ، والآيةُ من هذا القبيل : فإن فاعل " تودُّ " ضميرٌ عائد على " نفس " المتصلةِ بيوم لأنها في جملة ، أُضيف الظرفُ إلى تلك الجملة ، والظرفُ منصوبٌ بتودُّ ، والتقدير : يوم وجدانِ كلِّ نفسٍ خيرَها وشَرَّها مُحْضَرين تَوَدُّ كذا .
احتج الجمهور على الجواز بالسماع وهو قول الشاعر :
أَجَلُ المرءِ يستحِثُّ ولا يَدْ *** ري إذا يبتغي حصولَ الأماني
ففاعل " يستحثُّ " ضمير عائد على " المرء " المتصل ب " أجَل " المنصوب ب " يستحثُّ " واحتج المانعون بأنَّ المعمول فَضْلة يجوز الاستغناء عنه ، وعودُ الضمير عليه في هذه المسائل يقتضي لزومَ ذِكْره فيتنافى هذان السببان ، ولذلك أُجْمع على منع : " زيداً ضرب " و " زيداً ظَنَّ قائماً " أي : ضرب نفسه وظنها ، وهو دليل واضح للمانع لولا ما يردُّه من السماع كما أنشدتك البيت آنفاً . وفي الفرق بين " غلام زيدٍ ضَرَبَ " وبين " زيداً ضرب " حيث جاز الأول وامتنع الثاني بمقتضى العلةِ المذكورة غموضٌ وعُسْرٌ ليس هذا محلَّ ذِكْرِه .
قوله : { تَجِدُ } يجوزُ أَنْ تكون المتعديةَ لواحد بمعنى تصيب ، ويكون " مُحْضراً " على هذا منصوباً على الحال ، وهذا هو الظاهر ، ويجوز أن تكونَ عِلْميةً ، فتتعدَّى لاثنين أولهما " ما عَمِلَتْ " والثاني : " مُحْضَراً " وليس بالقويِّ في المعنى .
و " ما " يجوز فيها وجهان ، أظهرُهما : أنها بمعنى الذي ، فالعائدُ على هذا مقدَّرٌ أي : ما عملته ، فَحُذِف لاستكمال الشروط ، و " من خير " حالٌ : إمّا من الموصول وإمَّا من عائده ، ويجوز أن تكون " من " لبيان الجنس . ويجوزُ أن تكونَ " ما " مصدريةً ، ويكونُ المصدر حينئذ واقعاً موقعَ المفعول تقديرُه : يوم تجد كلُّ نفس عَمَلها أي : معمولها ، فلا عائد حينئذ عند الجمهور .
قوله : { وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ } : يجوزُ في " ما " هذه أن تكونَ منسوقةً على " ما " التي قبلها بالاعتبارين المذكورَيْن فيها أي : وتَجِدُ الذي عملته أو : وتجدُ عملَها أي : معمولَها من سوء ، فإنْ جَعَلْنا " تجد " متعدية لاثنين فالثاني محذوفٌ ، أي : وتجد الذي عملته من سوء محضراً ، أو تجد عملها محضراً نحو : " علمت زيداً ذاهباً وبكراً " أي : وبكراً ذاهباً ، فَحَذَفْتَ مفعوله الثاني للدلالة عليه بذكره مع الأول ، وإنْ جعلناها متعديةً لواحدٍ فالحالُ من الموصول أيضاً محذوفةٌ أي : تجدُه مُحْضراً ؛ أي : في هذه الحال ، وهذا نظيرُ قولِك : " أكرمْتُ زيداً ضاحكاً وعمراً " أي : وعمراً ضاحكاً ، حَذَفْتَ حالَ الثاني لدلالةِ حالِ الأول عليه ، وعلى هذا فيكون في الجملةِ من قوله " تودُّ " وجهان ، أحدهما : أن تكونَ في محل نصب على الحال من فاعل " عَمِلَتْ " أي : وما عَمِلَتْه حالَ كونها وادَّةً أي : متمنية البُعْدَ من السوء . الثاني : أن تكونَ مستأنفة ، أَخْبر الله عنها بذلك ، ويجوز أن تكونَ " ما " مرفوعةً بالابتداء ، والخبرُ الجملةُ من قوله : " تود " أي : والذي عملته أو وعملُها تودُّ لو أن بينها وبينه أَمَداً بعيداً .
والضمير في " بينه " فيه وجهان ، أحدُهما وهو الظاهر عَوْدُه على " ما عَمِلَتْ " ، وأعادَه الزمخشري على " اليوم " قال الشيخ : " وأَبْعَدَ الزمخشري في عودِه على " اليوم " لأنَّ أحدَ القِسْمين اللذين أُحْضِروا في ذلك له هو الخيرُ الذي عمله ، ولا يُطلب تباعُدُ وقتِ إحضارِ الخير إلا بتجوُّز ، إذ كان يشتمل على إحضار الخير والشر فتودُّ تباعدَه لتسلم من الشر ، ودَعْه لا يحصُل له الخيرُ ، والأَوْلى عَوْدُه إلى ما عملت من السوء لأنه أقرب مذكور . ولأن المعنى : أن السوء يُتَمَنَّى في ذلك اليوم التباعُدُ منه " .
فإن قيل : هل يجوز أن تكونَ " ما " هذه شرطيةً ؟ فالجواب أن الزمخشري وابن عطية منعا من ذلك ، وجَعَلا علة المنع عدم [ جزم ] الفعل الواقع جواباً وهو " تودُّ " ، وهذا ليس بشيءٍ ، لأنَّ الناس نَصُّوا علىأنه إذا وقع فعلُ الشرط ماضياً والجزاء مضارعاً جاز في ذلك المضارع وجهان : الجزمُ والرفع ، وقد سُمعا من لسان العرب ، ومنه بيت زهير :
وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ *** يقولُ لا غائِبٌ مالي ولا حَرِمُ
ومن الجزم قولُه تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ }
[ هود : 15 ] ، { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ الشورى : 20 ] فدَّل ذلك على أن المانعَ من شرطيتها ليس هو رفع " تود " ، وأجاب الشيخ بانها ليست شرطيةً لا لما ذكره الزمخشري وابن عطية بل لعلةٍ أخرى . ولنذكر هنا ما ذكره قال : " كنت سُئِلْتُ عن قول الزمخشري " فذكره ثم قال : " ولنذكر ههنا ما تمسُّ إليه الحاجةُ بعد أن نُقَدِّم ما ينبغي تقديمُه في هذه المسألة فنقول : إذا كان فعلُ الشرط ماضياً وبعده مضارعٌ تَتِمُّ به جملة الشرط والجزاء جازَ في ذلك المضارعِ الجزمُ وجاز فيه الرفعُ ، مثال ذلك : " إن قام زيد يقمْ ويقومُ وعمرو " فأما الجزم فعلى جواب الشرط ، ولا نعلم في ذلك خلافاً وأنه فصيحٌ إلا ما ذكره صاحب كتاب " الإِعراب " عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الكلامِ الفصيح ، وإنما يجيء مع " كان " كقوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ } لأنها أصل الأفعالِ ولا يجوز ذلك مع غيرها ، وظاهر كلام سيبويه وكلامِ الجماعة أنه لا يختصُّ ذلك ب " كان " بل سائرُ الأفعال في ذلك مثلُ " كان " ، وأنشد سيبويه للفرزدق :
دَسَّتْ رسولاً بأنَّ القوم إنْ قَدَروا *** عليك يَشْفُوا صدرواً ذاتَ توْغيرِ
تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتني لا تخونُني *** نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يصطحبان
وأما الرفع فإنه مسموعٌ من لسان العرب كثيراً ، وقال بعضُ أصحابنا : هو أحسنُ من الجزم ، ومنه بيتُ زهير السابق إنشادُه ، ومثله أيضاً قولُه :
وإنْ شُلَّ رَيْعانُ الجميعِ مخافةً *** نَقُولُ جِهارا وَيْلَكم لا تُنَفِّروا
ولا بالذي إنْ بان عنه حبيبُه *** يقولُ ويُخْفي الصبرَ إني لجازعُ
وإن بَعُدُوا لا يأمَنُون اقترابَه *** تَشَوُّفَ أهلِ الغائبِ المُتَنَظَّرِ
فإنْ كان لا يُرضيك حتى تَردَّني *** إلى قطريٍّ لا إخالُك راضياً
إنْ يَسْألوا الخيرَ يُعْطُوه وإنْ خَبِروا *** في الجَهْد أُدْرِكُ منهم طيبُ أَخْبارِ
قلت : هكذا ساق هذا البيت في جملة الأبيات الدالةِ على رفع المضارع ، ويدل على قصده ذلك أنه قال بعد إنشاده هذه الأبياتَ كلَّها : " فهذا الرفع كما رأيتُ كثيرٌ " انتهى ، وهذا البيت ليسن ذلك في وِرْدٍ ولا صَدْر لأن [ المضارع فيه مجزومٌ وهو " يُعْطُوه " وعلامة جزمِه سقوط النون فكان ينبغي ] أن ينشده حين أنشد : " دَسَّت رسولاً " وقوله : " تَعالَ فإن عاهَدْتني " البيتين .
ثم قال : " فهذا الرفعُ كثير كما رأيتَ ، ونصوص الأئمة على جوازِهِ في الكلامِ وإن اختلفتْ تأويلاتُهم كما سنذكره ، وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد ابن عبد النور بن رشيد المالَقي وهو مصنف كتاب " رصف المباني " رحمه الله : " لا أعلم منه شيئاً " جاء في الكلام ، وإذا جاء فقياسُهُ الجَزْمُ ، لأنه أصلُ العملِ في المضارعِ ، تقدَّم الماضي أو تأَخَّر " ، وتأوَّل هذا المسموعَ على إضمارِ الفاء وَجَعَلَهُ مثلَ قول الشاعر :
1239 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** إنَّك إِنْ يُصْرَعْ أخوك تُصْرَعُ
على مذهب مَنْ جعل أن الفاء منه محذوفةٌ . وأمَّا المتقدمون فاختلفوا في تخريج الرفع : فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم وأن جواب الشرط ليس مذكوراً عنده . وذهب المبرد والكوفيون إلى أنه هو الجواب . وإنما حُذِفَتْ منه الفاء ، والفاءُ ما بعدها كقوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] ، فأُعْطِيَتْ في الإِضمار حكمَها في الإِظهار . وذهب غيرهما إلى أن المضارعَ هو الجواب بنفسه أيضاً كالقولِ قبله ، إلا أنه ليس معه فاءٌ مقدّرة قالوا : لكنْ لمّا كان فعلُ الشرط ماضياً لا يظهر لأداة الشرط فيه عملٌ ظاهر استضعفوا أداةَ الشرط فلم يُعْملوها في الجواب لضعفها ، فالمضارعُ المرفوعُ عند هذا القائلِ جوابٌ بنفسه من غير نيَّة تقديم ولا على إضمار الفاء ، وإنما لم يُجْزَم لِما ذُكِرَ ، وهذا المذهب والذي قبله ضعيفان .
وتلخص من هذا الذي قلناه أنَّ رَفْعَ المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطاً لكن امتنع أن يكونَ " وما عملت " شرطاً لعلة أخرى ، لا لكون
" تود " مرفوعاً ، وذلك على ما نقرره على مذهب سيبويه من أن النيةَ بالمرفوعِ التقديمُ ، ويكون إذ ذاك دليلاً على الجوابِ لا نفسَ الجواب فنقول : إذا كان " تود " منويّاً به التقديمُ أدَّى إلى تقدُّم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة في العربية ، ألا ترى أن الضمير في قوله " وبينه " عائدٌ على اسمِ الشرط الذي هو " ما " فيصيرُ التقدير : " تود كلُّ نفسٍِ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ما عَمِلت من سوء " فَلَزِمَ من هذا التقديرِ تقديمُ المضمر على الظاهر وذلك لا يجوز .
فإن قلت : لِمَ لا يجوز ذلك والضميرُ قد تأخَّر عن اسم الشرط وإن كانت النيةُ به التقديمَ ، فقد حَصَلَ عَوْدُ الضميرِ على الاسم الظاهرِ قبله ، وذلك نظيرُ : " ضربَ زيداً غلامهُ " فالفاعلُ رتبته التقديم ووجب تأخُّره لصحةِ عَوْدِ الضمير ؟ فالجواب أن اشتمالَ الدليل على ضميرِ اسم الشرط يوجب تأخيرَه عنه لعَوْدِ الضمير فيلزَمُ من ذلك اقتضاءُ جملة الشرط لجملة الدليل ، وجملةُ الشرط إنما تقتضي جملةَ الجزاء لا دليلَه ، ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل ، بل إنها تعمل في جملة الجزاء ، وجملةُ الدليل لا موضعَ لها من الإِعراب ، وإذا كان كذلك تدافعَ الأمرُ ، لأنها من حيثُ هي جملةُ دليلٍ لا يقتضيها فعلُ الشرط ، ومن حيث عَوْدُ الضميرِ على اسم الشرط اقتضاها فتدافَعا ، وهذا بخلافِ " ضرب زيداً غلامهُ " فإنها جملةٌ واحدة ، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معاً ، فكلَّ واحدٍ منهما يقتضي صاحبَه ، ولذلك جاز عند بعضِهم " ضرب غلامُها هنداً " لاشتراكِ الفاعل المضاف إلى الضميرِ والمفعولِ الذي عاد عليه الضمير في العامل ، وامتنع " ضربَ غلامُها جارَ هِندٍ " لعدم الاشتراك في العامل ، فهذا فرقُ ما بين المسألتين ، ولا يُحْفظ من لسان العرب : " أودُّ لو أَنْ أكرمَه أياً ضربَتْ هندٌ " لأنه يلزم منه تقديمُ المضمرِِ على مفسَّره في غير المواضِعِ التي ذكرها النحويون ، فلذلك لا يجوز تأخيره . انتهى " .
وقد جَوَّز أبو البقاء كونَها شرطيةً ، ولم يَلْتَفِتْ لِما مَنعوا به ذلك فقال : " والثاني : أنها شرط ، وارتفع " تودُّ " على إرادة الفاء . أي : فهي تودُّ ، ويجوز أن يرتفعَ من غير تقديرِ حرف لأن الشرطَ هنا ماضٍ ، وإذا لم يظهر في الشرطِ لفظُ الجزم جاز في الجزاء الوجهان : الجزمُ والرفع " . انتهى وقد تقدَّم تحقيق القول في ذلك ، والظاهرُ موافقتُهُ للقول الثالث في تخريج الرفع في المضارع كما تقدَّم تحقيقه .
وقرأ عبد الله وابنُ أبي عبلة " وَدَّت " بلفظ الماضي ، وعلى هذه القراءةِ يجوزُ في " ما " وجهان ، أحدهما : أن تكونَ شرطية ، وفي محلِّها حينئذٍ احتمالان : الأولُ النصبُ بالفعلِ بعدها ، والتقدير : أيَّ شيء عَمِلَتْ من سوء وَدَّتْ ، فودَّتْ جوابُ الشرط . والاحتمالُ الثاني : الرفعُ على الابتداء ، والعائدُ على المبتدأ محذوفٌ تقديرُهُ : وما عملته ، وهذا جائزٌ في اسم الشرط خاصةً عند الفراء في فصيحِ الكلام ، أعني حَذْفَ عائد المبتدأ إذا كان منصوباً بفعلٍ نحو : " أيُّهم تَضْرِبْ أُكْرمه " برفع أيهم ، وإذا كان المبتدأ غيرَ ذلك ضَعُفَ نحو : " زيدٌ ضربْتُ " .
وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في موضعين من القرآن ، أحدُهما قراءةُ مَنْ قرأ : { أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } [ المائدة : 50 ] . والثاني : { وَكُلٌّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } [ الآية : 10 ] في الحديد ، واختلافُ الناس في ذلك .
الوجه الثاني من وجهي " ما " أن تكون موصولةً بمعنى : الذي عملته من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ، ومَحَلُّها على هذا رفع بالابتِداء ، و " وَدَّتْ " الخبرُ ، واختاره الزمخشري فإنه قال : " لكنَّ الحملَ على الابتداءِ والخبرِ أوقعُ في المعنى لأنه حكايةُ الكائن في ذلك اليوم ، وأَثْبَتُ لموافقةِ قراءة العامة " . انتهى .
فإن قلت لِمَ لَمْ يمتنع أن تكونَ " ما " شرطيةً على هذه القراءة كما امتنع ذلك فيها على قراءة العامة ؟ فالجوابُ أنَّ العلة إنْ كانت رفعَ الفعل وعَدَمَ جزمِهِ كما قال به الزمخشري وابن عطية فهي مفقودةٌ في هذه القراءة لأن الماضي مبنيٌّ اللفظ ، لا يظهر فيه لأداةِ الشرط عملٌ ، وإن كانت العلةُ أنَّ النيةَ به التقديمُ فليزمُ عودُ الضميرِ على متأخرٍ لفظاً ورتبة ، فهي أيضاً مفقودةٌ فيها ؛ إذ لا داعي يدعو لذلك .
و " لو " هنا على بابِها من كونِها حرفاً لِما كان سيقع لوقوع غيره ، وعلى هذا ففي الكلام حَذْفان ، أَحدهما : حذفُ مفعولِ " يود " ، والثاني : حَذْفُ جواب " لو " ، والتقدير فيهما : تود تباعدَ ما بينها وبينه لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً لسُرَّتْ بذلك ، أو لفرِحَتْ ونحوُهُ . والخلافُ في " لو " بعد فعل الوَدادة وما بمعناه أنها تكونَ مصدريةً كما تقدم تحريره في البقرة يَبْعُدُ مجيئُهُ هنا ، لأنَّ بعدها حرفاً مصدرياً وهو أَنْ . قال الشيخ :
" ولا يباشِر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلا قليلاً ، كقوله تعالى : { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] قلت : قوله " إلا قليلاً " يُشْعر بجوازه وهو لا يجوزُ البتة ، فَأمَّا ما أَوْرَدَهُ من الآية الكريمة فقد نصَّ النحاة على أن " ما " زائدةٌ . وقد تقدَّم الكلام في " أَنَّ " الواقعة بعد " لو " هذه : هل محلُّها الرفع على الابتداء والخبرُ محذوف كما ذهب إليه سبيويه ، أو أنها في محل رفعٍ بالفاعلية بفعلٍ مقدر أي : لو ثَبَتَ أَنَّ بينها ؟
وقد زعم بعضُهم أَنَّ " لو " هنا مصدريةٌ ، هي وما في حَيِّزها في موضع المفعول ل " تود " ، أي : تود تباعُدَ ما بينها وبينه ، وفيه ذلك الإِشكالُ ، وهو دُخول حرف مصدري على مثله ، ولكنَّ المعنى على تسلُّطِ الوَدادة على " لو " وما في حيِّزها لولا المانعُ الصناعي .
والأَمَدُ : غايةُ الشيء ومنتهاه وجمعه آماد نحو : جَبَل وأَجْبال فَأُبْدِلَتْ الهمزة ألفاً لوقوعِها ساكنةً بعد همزة " أَفْعال " . وقال الراغب : " الأمدُ والأَبَدُ يتقاربان ، لكنَّ الأَبَدَ عبارةٌ عن مدة الزمان التي ليس لها حَدٌّ محدودٌ ، ولا يتقيَّد فلا يقال : أبدَ كذا ، والأمدُ مدةٌ لها حَدٌّ مجهولٌ إذا أُطْلِقَ ، وينحصِرُ إذا قيل : أمدَ كذا ، كما يقال : زمانَ كذا ، والفرق بين الأمد والزمان : أنَّ الأمدَ يُقال باعتبارِ الغاية ، والزمانُ عام في المبدأ والغاية ، ولذلك قال بعضُهم : المَدَى والأمد يتقاربان " .