الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ذَٰلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِۗ قُل لَّآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰۗ وَمَن يَقۡتَرِفۡ حَسَنَةٗ نَّزِدۡ لَهُۥ فِيهَا حُسۡنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ شَكُورٌ} (23)

قوله : { يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ } : كقولِه : { كَالَّذِي خَاضُواْ } [ التوبة : 69 ] وقد تقدَّم تحقيقُه ، وتقدَّمَتِ القراءاتُ في " يُبَشِّر " . وقرأ مجاهد وحميد بن قيس " يُبْشِرُ " بضمِّ الياءِ وسكونِ الباءِ وكسرِ الشينِ مِنْ أَبْشَر منقولاً مِنْ بَشِر بالكسر ، لا مِنْ بَشَر بالفتح ، لأنه متعدٍّ . والتشديدُ في " بَشَّر " للتكثيرِ لا للتعديةِ ؛ لأنه متعدٍّ بدونها . ونقل الشيخ قراءةَ " يَبْشُرُ " بفتح الياء وضم الشين عن حمزةَ والكسائي من السبعة ، ولم يذكرْ غيرَهما من السبعةِ ، وقد وافَقَهما على ذلك ابن كثير وأبو عمرو . و " ذلك " مبتدأٌ والموصولُ بعده خبرُه ، وعائدُه محذوفٌ على التدريجِ المذكورِ في قولِه : { كَالَّذِي خَاضُواْ } أي : يُبَشِّرُ به ، ثم يُبَشِّره على الاتِّساع . وأمَّا على رأي يونسَ فلا تحتاج إلى عائدٍ لأنها عنده مصدريَّةٌ ، وهو قول الفراء أيضاً . أي : ذلك تبشيرُ اللَّهِ عبادَه . و " ذلك " إشارةٌ إلى ما أَعَدَّه الله لهم من الكرامة .

وقال الزمخشري : " أو ذلك التبشيرَ الذي يُبَشِّره اللَّهُ عبادَه " . قال الشيخ : " وليس بظاهرٍ ؛ إذ لم يتقدَّمْ في هذه السورةِ لفظُ البُشْرى ، ولا ما يَدُلُّ عليها مِنْ بَشَّر أو شبهِه " .

قوله " إلاَّ المودَّةَ " فيها قولان ، أحدهما : أنَّها استثناءٌ منقطعٌ ؛ إذ ليسَتْ من جنسِ الأَجْرِ . والثاني : أنه متصلٌ أي : لا أسألُكم عليه أجراً إلاَّ هذا . وهو أَنْ تَوَدُّوا أهلَ قرابتي ولم يكنْ هذا أجراً في الحقيقةِ ؛ لأنَّ قرابتَه قرابتُهم فكانت صلتُهم لازمةً لهم في المروءةِ ، قاله الزمخشري . وقال أيضاً : " فإنْ قلت : هلاَّ قيل : إلاَّ مودةَ القُرْبَى ، أو إلاَّ المودةَ للقُرْبى . قلت : جُعِلوا مكاناً للمودَّةِ ومَقَرًّا لها كقولِك : لي في آل فلان مَوَدَّة ، وليست " في " صلةً للمودةِ كاللامِ إذا قلتَ : إلاَّ المودةَ للقربى ، إنما هي متعلقةٌ بمحذوفٍ تَعَلُّقَ الظَرفِ به في قولك : " المالُ في الكيس " ، وتقديرُه : إلاَّ المودةَ ثابتةً في القُرْبَى ومتمكنةً فيها " . قلت : وأحسنُ ما سَمِعْتُ في معنى هذه الآيةِ حكايةُ الشعبيِّ قال : أَكْثَرَ الناسُ علينا في هذه الآيةِ فكتَبْنا إلى ابن عباس نسألُه عنها . فكتب : أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان أوسطَ الناسِ في قريش ، ليس بطنٌ مِنْ بطونهم إلاَّ قد وَلَدَه ، فقال الله تعالى : قل لا أسألُكم عليه أَجْراً إلاَّ أن تَوَدُّوني في قَرابتي منكم فارْعَوْا ما بيني وبينكم فصَدِّقوني .

وقال أبو البقاء : " وقيل : متصلٌ أي/ : لا أسألكم شيئاً إلاَّ المودةَ " . قلت : وفي تأويلِه متصلاً بما ذَكَر ، نظرٌ لمجيئه ب " شيء " الذي هو عامٌّ ، وما مِنْ استثناءٍ منقطع إلاَّ ويمكن تأويلُه بما ذَكَر ، ألا ترى إلى قولِك : " ما جاءني أحدٌ إلاَّ حمارٌ " أنه يَصِحُّ : ما جاءني شيءٌ إلاَّ حماراً .

وقرأ زيد بن علي " مَوَدَّة " دون ألفٍ ولام .

قوله : { نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } العامَّةُ على " نَزِدْ " بالنون للعظمة . وزيد ابن علي وعبدُ الوارث عن أبي عمروٍ " يَزِدْ " بالياءِ مِنْ تحتُ أي : يَزِدِ اللَّهُ . والعامَّةُ على " حُسْناً " بالتنوين مصدراً على فُعْل نحو : شُكْر . وهو مفعولٌ به . وعبدُ الوارث عن أبي عمرو " حُسْنى " بألفِ التأنيث على وزنِ بُشْرَى ورُجْعَى وهو مفعولٌ به أيضاً . ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ك فُضْلَى ، فيكونَ وصفاً لمحذوف أي خَصْلَةً حسنى .